إبراهيم عبد القادر المازني - بركة (الإمام)...!

كان هذا منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وكنت يومئذ مدرساً للترجمة في المدرسة السعيدية الثانوية، وأقبل الامتحان العام - للبكالوريا والكفاءة - وعقدت له لجان شتى عينت، كغيري، مراقباً أو ملاحظاً في إحداها، وكان أخي طالباً، وعليه أن يؤدي الامتحان في إحدى هذه اللجان.

واتفق أن دعيت أسرتنا كلها إلى عرس قريبٍ لنا، بيته مجاور لبيت صهري، فذهبنا مغتبطين جذلين، ولكني كنت في قرارة نفسي مشفقاً من سهر الليل، وكيف يؤدي أخي امتحانه وهو لم ينم؟ وكيف أقوى أنا على المراقبة والكرى مرق في عيني؟ غير أني لم أر لي حيلة، فتركت الأمر للمقادير. . .

وألفيت في بيت قريبنا هذا نفراً من الإخوان، فانتحيت بهم ناحية من الحديقة، وجلسنا بين الخضرة والماء، نسمر ونضحك، والعريس وأبوه يلحان علينا أن نخرج فنكون مع الجمع الحاشد لنسمع غناء الشيخ يوسف المنيلاوي - بلبل زمانه - ونحن نأبى كل الإباء أن نتزحزح عن مكاننا لجماله، ونطلب أن يقدم إلينا الطعام، حيث كنا بلا كلفة.

وجاء - قبل الطعام - رجل من أهل طنطا لا أعرفه، يرتدي جبة وقفطاناً وطربوشاً مثل طرابيشنا نحن (الأفندية)، وعليه لفة مزركشة، فحيا وقعد، وكانت له معرفة ببعض الإخوان، فصفق أحدهم ودعا بالقهوة - قهوة البن - فلما أقبل الخادم بإبريقها في يد، والفناجين في يد، وصب من ذاك في هذه وناولنا، مال أحد الإخوان على الرجل الطنطاوي وسأله: (معك خلطة؟)

ولم أكن أعرف ما (الخلطة) يومئذ، فسألت عنها، فقيل لي: إنها عنبر ومسك. . . ولا أدري ماذا أيضاً، قطرات منها تطيب بها القهوة؛ فقلت: هاتوا إذن من هذا المسك والعنبر، فأخرج الرجل زجاجة صغيرة، ومددنا أيدينا بالفناجين، فجعل يصب قطرات لكل واحد منا، فنشكره. . .

وكنا جلوساً على الحشايا والوسائد فوق السجادة على الخضرة، فحسوت حسوة من فنجانتي، فكرهت طعمها على لساني، فقد كانت كلها زيتاً ثقيلا - أو هكذا خيل إلي - فأرقت ما بقي من الفنجانة على الخضرة، وصحت بالرجل الطنطاوي:

(ما هذا يا شيخ السوء؟ متى كان العنبر والمسك شراً من زيت الخروع؟)

ومضمضت فمي بالماء، وجيء بالطعام، فأقبلنا عليه كأن لنا عاماً ما طعمنا فيه شيئاً، وأكلنا ما لا يحسب الحاسب، وما كنت أنهض عن المائدة حتى شعرت بكظة مزعجة، فذهبت أتمشى بين الشجر، ولكني أحسست بدوار، فعدت إلى مكاني وملت بشق على الأرض، فإذا بها تدور كرأسي، وترقص أيضاً، وتعلو بي وتهبط، ففزعت، وانتفضت قائماً، وقد أيقنت أني لا محالة ميت ما لم أفرغ ما في جوفي، وعبثاً حاولت أن أفعل ذلك، على فرط اجتهادي، فجزعت، ولم يبقى عندي شك في أن الذي صبه لنا الرجل الطنطاوي على القهوة من هذه (الخلطة)، ليس إلا نوعاً من المخدرات (كالمنزول)، فآليت لأخنقه قبل أن أموت! وهممت به، وأنا كالمجنون، فحالوا بيني وبينه، وصرفوه، بالتي هي أحسن، أو بالتي هي أخشن - لا أدري - فما أخذته عيني بعد ذلك!

وجاءوني بليمون زعموا أن عصيره يفسد فعل هذه (الخلطة) فلم أنتظر حتى يعصروه، وخطفته من أيديهم، وجعلت آكله بجلده، ثم قصدت إلى باب الحديقة وأشرفت على حشد المدعوين وتخت الشيخ يوسف، وقلت أتسلى بالنظر والسماع، ولكني كنت لا أرى شيئاً واضحاً، وكان (قوس) الكمان يبدو لي كأنه يرسم في الجو دوائر ومربعات ومستطيلات، وكان صوت الشيخ يوسف كالطبل في أذني. فعدت أدراجي وانطرحت على الأرض، وكنت أغيب عن وعيي ثم أفيق، والقوم حولي كأنهم أصنام، لا ينطقون ولا يتحركون. فأدركت أنهم مثلي أو أشر منى حالا، سوى أنهم أقوى أجساماً أو أقدر على الاحتمال، أو لعلهم اعتادوا هذه (الخلطة) فهم لا يتأثرون بها كما تأثرت!

ودعوت أحدهم - وكان أهل بيته مدعوين في العرس فالبيت فارغ - أن يذهب بي إلى داره، وأن يبعث في طلب طبيب، فهز رأسه وبقى حيث هو، وعاودني الإغماء لحظة، فلما أفقت ورأيت أني باق حيث كنت، وتبينت أن لا أمل في معونة من هؤلاء القوم، أشرت إلى خادم لمحته خارجاً وطلبت أن يجيئني (بخلطة) أخرى: سكر وخل. . . فاستغرب ولكنه جاءني بما أمرت، فأذبت السكر في الماء، وخلطته بالخل، وشربت وقمت أعدو إلى ركن في الحديقة، فكان الفرج، فقد اضطربت نفسي ورميت ما فيها يتبع بعضه بعضاً، حتى خفت أن لا ينقطع.

ونمت بعدها ساعات، فلما كان الفجر، قمت إلى بيت صهري لأغتسل وأتهيأ للخروج إلى لجنة الامتحان، ولأضمن أن لا يتخلف أخي عن امتحانه، وخلعت ثيابي لأستريح قليلا.

وإذا بي أرى أخي كالمجنون يصيح بكلام غير مفهوم، وكان رأسي لا يزال ثقيلا مما مر بي في ليلتي، فسألته عن الخبر، فإذا هو معذور، ذلك أن خادماً في بيت صهري سرق سترته وحذاءه، وسرق بنطلوني وطربوشي، فصار من المستحيل علينا أن نخرج من البيت، فما لنا فيه ثياب أخرى، ولا جئنا إلا بما على أبداننا فما العمل؟ لقد ذهب اللص بثيابنا، وكأنما تعمد أن يسرق منها ما يكفي لمنعنا من الخروج. وكيف بالله يخرج أخي بغير سترة وحذاء؟ وكيف أخرج بغير بنطلون وطربوش؟

وأضحكني هذا، فإنه أشبه بالنكتة، أو بما يسميه العامة (المقلب).

ولم يبق إلا أن نحاول أن نستعير من بعض الجيران ثياباً نعود فيها إلى بيتنا، وهناك نستطيع أن نرتدي غيرها، ويذهب كل منا في سبيله.

وفعلنا بعد عناء، فقد كان الناس نياما بعد طول السهر، فأزعجناهم وكلفناهم شططاً، ولكن المضطر يركب الصعب.

وقد نسيت أن أقول إن بيت صهري كان على (تخوم العالمين) وعلى مقربة من مسجد الإمام الليث بن سعد، فارتدينا الثياب المستعارة، وتوكلنا على الله، ومررنا بالمسجد، ووقف أخي يقرأ الفاتحة، لعلها تنفعه في (الامتحان) ببركتها، وكنت أنا مغيظاً محنقاً، فلم يخطر لي أن أقرأ لا الفاتحة ولا سواها، وإني لأتلفت وإذا بالخادم قاعد على باب المسجد. ولم أعرفه في أول الأمر، لأنه كان في ثياب غير معهودة نكرته في عيني - ثيابنا المسروقة. فلما استثبت جذبته من ذراعه فنهض، وعدنا به إلى البيت، ونزعنا ما عليه من أشيائنا، ثم سألناه: فاعترف أنه سرق - وهل كان ينقصنا أن يعترف؟ - وقال: إنه لما بلغ المسجد أحس أنه مقيد، وألفى نفسه يجلس على الباب، ولم يستطع بعد ذلك أن يبرح مكانه!

فقال كل من سمع هذه القصة إنها بركة الإمام؛ وقلت أنا في سري: لعل هذا هكذا، فما أدري، ولكني أحسب أن إيمان هذا الخادم بما لأولياء الله الصالحين من البركة والسر، قد فعل فعله، وكان له أثره حين مر بالمسجد، فاضطرب وارتبك، ولزم مجلسه حائراً، وكبر في وهمه أن (الإمام) قيده وأقعده عن الحركة.

وقد أصرت زوجتي يومئذ - رحمها الله - على أن تصنع (خبزاً وفولا) لفقراء (الإمام)، وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟ فلم أعترض. وكيف كان يقبل مني اعتراض؟

إبراهيم عبد القادر المازني


مجلة الرسالة - العدد 642
بتاريخ: 22 - 10 - 1945

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى