«الفن الشعري» حسب هــوراس.. ترجمة وتقديم د. شاكر لعيبي

كتاب أرسطو (البويطيقا De Poetica) (رَسَمَه العرب بصيغة أبوطيقا وبوطيقا) أو (فنّ الشعر) - ولعلّ تلخيص وتأويل ابن رشد له هو الأشهر في العربية - هو العمل الأوّل المعروف عن موضوع تعليمي سيُسمّى أوروبياً فيما بعد (الفن الشعريّ L&rsaquoArt Poétique). يقوم الكتاب جوهرياً على مبدأ المحاكاة الأرسطوطاليسيّ الذي ظل أساسياً في الوعيّ الشعريّ (والتشكيليّ) الأوروبيّ، ووصلت أصداؤه للثقافة العربية الكلاسيكية.

من أشهر المؤلفات عن (الفن الشعريّ ) كتاب هوراس بهذا العنوان. وهوراس شاعر غنائيّ لاتينيّ وناقد أدبيّ (65 ق.م &ndash 8 ق.م). عاش في مدينة روما. سافر إلى أثينا حيث اكتشف الفلسفة. في إيطاليا ربطته صداقة بالشاعرين فرجيل ورفوس. تتكون أعماله من مجموعة من المسرحيات التهكميّة والقصائد الغنائية والمقالات المتخصّصة المطوَّلة (ما نسميه في التراث العربي بالرسائل). يعتبر هوراس نفسه رجلاً مستقل التفكير. بعضهم يربطه بمجموعة «الشعراء الجدد» التي كان يمثلها الشاعر كتولوس (1). من الطريف أن هوراس يمنحنا بعض الإشارات عن شكله وهيئته: ضيئل الحجم، سمين، ابْيَضَّ شعر رأسه في وقت مبكر، غضوب، ماجن. أثّرت أعماله على الأدب الأوروبيّ، منذ عصر النهضة حتى القرن التاسع عشر.

في كتابهما (الأدب اللاتينيّ) كتب زيناكير وفريدوي (2): أن مضمون «رسالة إلى أوغست»(3)، الرسالة الثانية، الفقرة 1، تضع حجر الأساس إلى العمل الكبير لشيخوخة هوراس، المُسمّى «رسالة آل بيزو أو الفن الشعريّ». تاريخ العمل غير أكيد، ولكن يُؤرَّخ له نحو عام 13 ق. م. وربما بعد ذلك بقليل. لا يُعْرف على وجه الدقة من هم آل بيزو Pisons، أب وابنان يخاطبهم الشاعر: ومن بين الأسماء الشبيهة يُعتقَد أن الأمر يتعلق برجل كان قنصلاً عام 23 وبأبنائه القنصلين عام 7 و1 ق. م.

مُعالجَة مُتتابعة لعموم الشعر

الفن الشعريّ أحد الأعمال الأكثر صعوبة وإثارة للحيرة. ولا يُستطاع فهمه إلا بوضعه في منظور النظريّات الأدبية لأرسطو وورثته: الأبيقوريّ فيلوديم الجداري Philodème de Gadara [جدارا هي بلدة أم قيس اليوم في الأردن](4) الذي رفض نظريات الأكاديميّ والنحويّ نيوبوتليم الباريوني (Néoptolème de Parion أو نيوبتوليموس)(5) في عمل مكتوب على برديات وصلتنا متشظيّةً.

يبدو أن هوراس أراد تقديم مُعالجَة مُتتابعة لعموم الشعر، للقصيدة بصفتها عملاً مخصوصاً، وللشاعر، وفق الصيغة اليونانية (poièsis، poièma، poiètès). هذه الرسالة، مثل الأخريات، هي محادثة مشتّتة، وعظية، وليست معالجة مُتحذلِقة، وهي تدخل ضمن ما تعنيه مفردة فن (ARS) باللاتينية: العنوان «الفن الشعريّ» المعروف في وقت كينتيليان(6)، لا يشير قطعاً إلى عمل هوراس الحالي. تبدأ رسالة آل بيزو بوصف لرسّام يمثل وحشاً برأس امرأة ورقبة حصان وجسد طائر وذيل سمكة، وهو أمر فظيع ومضحك. فالعمل الفنيّ مثل الجهاز العضويّ الحيّ عليه التمسّك بوحدته. تنتهي الرسالة بلوحة أخرى ممتعة أيضاً هي أنّ صورة شاعر لا عقلانياً تجعل الجميع يهرب منه، ما يعني أن الجنون لا شأن له بالعبقرية الشعرية. هوراس أخضع دوماً الحسّاسية لقوانين العقل والذكاء.

العمل المفصّل الكامل مترجم إلى العربية على يد د. لويس عوض تحت عنوان (هوراس: فن الشعر)، وصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1988، مع ملاحظات مُطوَّلة. من يقرأ كتاب عوض، رغم مقدمته العميقة، قد يضيع في التفاصيل، فهو يخلو من الخلاصات المفيدة لغير المتخصّص وطالب العلم والفضوليّ. أمر فعله مترجمو هذا العمل الفرنسيون. فلقد قدّموا خلاصات نظرية لجميع فقراته الطويلة التفصيلية المكتوبة في روح لحظته التاريخية، بما يسمح للقرّاء المعاصرين بتكوين فكرة معقولة عن الجوهريّ، بعيداً عن الأمثلة والاستطرادات والاستشهادات التي يخوض هوراس فيها. وهذا هو ما نترجمه نحن لقرّاء العربية، فتكون مفاهيم كتاب هوراس مُتيسّرةً للجميع دون ابتسارٍ أو إطالةٍ.

ومن أجل منح فكرة عن طبيعة هذه الخلاصات، نقدّم للقارئ النص الحرفيّ للفقرة (1 - 11)، وكيفية وقع وضعها بشكل نظريّ ملخّص. الفقرة في ترجمة لويس عوض هي:

«أي أصدقائي»، هل تمسكون من الضحك لو أنكم دعيتم لمشاهدة صورة لرسّام شاء فيها أن يُلصق رأس آدميّ إلى عنق جواد، أو أن يجمع في كائن واحد أعضاء بها من مختلف ضروب الحيوان، ثم يكسوها جميعاً برياش يستعيرها من كل ذات جناح، أو أن يبني مخلوقاً نصفه الأعلى امرأة باهرة الحسن ينتهي أسفله بذيل سمكة بشعة سوداء؟ صدّقوني يا آل بيزو، إن شاء الكتاب الذي يستحيل تحقيق أضغاث أحلام رجل مريض، فما يرتبط جزءان من أجزائه في كل واحد متسق، لشأن الصورة التي رأيتم. (لقد كان للشعراء والرسّامين دوماً حقّ متساوٍ في حرية الابتكار). نحن نعلم هذا، وإنا لنطالب بهذه الحرية لأنفسنا ثم نهبها للغير، ولكنها لا تبلغ المدى الذي يأتلف فيه الوحشيّ وتتآلف فيه الأفاعي والطيور، والخراف والنمور.

الفقرة نفسها أعلاه في المختصر النظريّ الذي نُقدّمه الآن:

«العمل الفنيّ، لوحةً أو قصيدةً، لا يمكن أن يُنْجَزَ من أعضاء غير مُّتسقة. فهو يخضع للقانون الكبير لوحدة الموضوع والانسجام بين الأجزاء».

هذا الملخّص النظريّ هو ما يسمح لنا بتقديم كتاب ضخم لقرائنا الكرام.

هوراس: [خلاصات] الفن الشعريّ أو رسالة آل بيزو
L&rsaquoArt poétique ou Épître aux Pisons


القسم الأول: مبادئ الشعر العامة

[1-37] العمل الفنيّ، لوحةً أو قصيدةً، لا يمكن أن يُنْجَزَ من أعضاء غير مُّتسقة. فهو يخضع للقانون الكبير لوحدة الموضوع والانسجام بين الأجزاء. تزويق الملحمة عبر عَرْض [المُحسّنات البديعية] (7) هو خَرْق لهذا القانون. لا ينبغي لشيء، لا الخوف من الرتابة ولا الاهتمام بالتفاصيل أن يجعلنا غافلين عن ذلك.

[41-38] من جهة أخرى، من الضروري أن تكون المواد المُنتقاة مُتناسِبة مع قِوَى الشاعر: وبالتالي تأتي الكلمات بسهولة، وتكون الخطة واضحة.

[45-42] القاعدة الكبيرة للتدبير هي قول ما يتوجّب قوله وفي اللحظة اللازمة.

[72-46] يَبْتَعِد الخطاب عن الابتذال إذا ما جَدّد مفردات [الناس] وهو يُقارِبُها بطريقةٍ ليست مألوفة. ولسوف يَخْلق [هذا الخطاب]، إذا لزم الأمر، [انطلاقاً من] الأنواع اليونانية، مفردات جديدة تُسقِط الكلمات الشائخة، كأوراق متناثرة في مهب رياح الخريف: لا عمل إنسانيّاً أزليّ. لكن قد تكون هناك ولادة جديدة تستدعيها احتياجات اللغة.

[85-73] التتابُع الوزنيّ للكلمات يجب أن يَتوافق مع نوع البيت [يقصد الشعر] الذي يُوكِلُهُ التقليد [الأدبيّ] إلى كلّ نوع.

[98-86] لكلّ نوعٍ نغمةٌ ton مخصوصة يتوجّب مراعاتها، ينبغي مع ذلك أن تتنوّع وفق المشاعر التي نريد نقلها.

[113-99] لا يكفي لإرضاء الذهن جمال الشكل [وحده]، يتوجب أيضاً مسّ شغاف القلب. لهذا الغرض، [يتوجّب] إيقاظ تعاطُف القارئ أو المشاهد.

[118-114] في لحظة [مواقف] الشغف نفسها، يجيب الأسلوب على [خصائص] الشخصيات، مثل تحديد الرتبة والعمر والمهنة، وما إلى ذلك.

[127-119] الشخصيات التقليدية يجب الحفاظ على الملامح المُعطاة لها. أما الشخصيات التي يبتدعها الشاعر، فعليها أن تكون، على طول الخط، متوافقة مع نفسها.

[135-128] بدلاً من السعي إلى تمييز الأنماط [البشرية] العامة بِصِفَات خَاصَّة، فمن الأكثر أماناً الاغتراف من المنبع الهوميروسيّ: سوى أن المحاكاة يجب ألا تكون مُبتذَلة ولا مُتصاغِرة.

[152-136] على المحاكاة عدم السقوط في سخافة الشعراء الدوريين (poètes cycliques) (8) الذين يفتتحون عبر وعود [يقصد بدايات شعرية] رائعة سردياتهم المُسطَّحة: أيّ فارق مع هوميروس!

القسم الثاني: قواعد الشعر الدرامي

[153-155] هوراس يُعلن أنه سوف يُعالِج قواعد الشعر الدراميّ.

[156-178] في البدء، القواعد المتعلقة بالطبائع. مثال واحد تمّ تطويره طويلاً [في عمل هوراس]: التنويعات التي يستجلبها العمر في الهيئات الأخلاقية للبشر.

[179-188] فيما يتعلق بالفعل [الدراميّ]، هناك أشياء علينا وضعها أمام أعين المتفرجين، [الأشياء] الأخرى التي تبدو غير قابلة للتصديق أو البغيضة، فإنها تكون مروية [فقط] ببساطة.

[189-193] بعض القواعد [بشأن]: عدد الأفعال [الدرامية]؛ التدخُّلات السماوية، عدد الشخصيات.

[193-201] تندغم الجوقة في الفعل [الدراميّ]؛ أغانيها ليست محض فواصل. دورها هو إسماع لغة الأخلاق والتقوى.

[202-219] سابقاً كان الناي [الفلوت] يُصاحِب غناءَ الجوقة. اليوم، يُغطّي [الفلوت] الضجيجَ المتصاعدَ من حشد المتفرجين. بل بتعزيز صوت القيثارة، يتخذ الكلام فخامة بالنسبة للموسيقى.

[220-250] فيما يتعلق بالمسرحية التهكميّة، لا ينبغي أن يتمّ خفض «نغمة الصوت» كثيراً. نقوم بترك بعض الكرامة للشخصيات التراجيدية فيها، ونتبنّى أسلوباً من نوع متوسط، بعيداً عن الأبّهة والتسطيح والابتذال مما يخفيه الكثير من الفن الذي يَستخدِم تعبيرات ظاهرية مرغوب بها قليلاً.

[251-274] في الأنواع الدرامية الثلاثة، فإن أشعار الحِوارات إنما هي القياسات الإيقاعية الثلاثية للبحر الأيامبي (trimètre iambique). الشعراء اللاتينيون القدامى آل إنيوس Ennius وآل أكيوس Accius قد أثقلوها، وهم يقبلون بالسبوندية [spondée: التفعيلة ذات المقطعين] في كلّ مكان [من النصّ]، حتى بالنسبة للوحدات المقطعية الزوجية (pieds pairs). يتوجّب أن نعيد لها خفّة حركتها من خلال العودة إلى النماذج اليونانية: الرومان استطاعوا سابقاً امتداح بلاوتوس (Plaute) (9) بصفته نموذجاً لنظم الشعر والطرفة الرفيعة، عليهم اليوم امتلاك الأذُن والذوق الأكثر تَطَلُّبَاً. [275-284] اليونانيون أبدعوا النوعين الدراميين: التراجيديا أولاً ثم الكوميديا القديمة. [285-294] الشعراء اللاتينيون حَاكَوا الإغريق. وقد جازفوا كذلك [بضروب أدبية أخرى مثل] التعلّة (praetextae) (10) ومع التوغانيين (togatae) (11)، مع مواضيع محلية: لكنهم لم يمنحوا للأسلوب العناية الكافية: أن جِدّة الموضوع ليست بشيء كبير، الأساسيّ هو أن تتلاءم المادة مع خصائص الشكل.


القواعد الشخصية التي على الشاعر أن يفرضها

لنبدأ بالسؤالين التاليين:

كتب هوراس باللغة اللاتينيّة، وكتب أرسطو باليونانيّة، فهل من فوارق في التعاطي مع «الفن الشعريّ» بين الثقافة اليونانيّة وامتدادها الثقافيّ اللاتينيّ؟

في العصور الحديثة تعرّفت الثقافة العربية إلى بعض الشعر الرومانيّ اللاتينيّ، مثل شعر أوفيد (34 ق.م ـ 18م)، لكن ما الذي عرفه العرب القدامى من الشعر اليونانيّ القديم؟

إذا أخذنا هوميروس المعروف عند العرب مثالاً، لا شيء تقريباً. مرويات ابن أبي أصيبعة وابن القفطيّ وابن العبري والتوحيديّ والبيرونيّ التي تَنْصَبُّ كلها على ذكر هوميروس (أو أوميروس الشاعر)، تشدّد على أنه «رئيس شعراء الروم» وأعظمهم.

ماذا كان يُنشد، وفق (طبقات الأطباء)، حنين بن إسحاق بالرومية من أشعار هوميروس في عهد المأمون؟ نجهل تماماً. ما ينقله ابن العبري لهوميروس ليس من الشعر بل من الطرفات: طلب أنابو الماجن من هوميروس أن يهجوه طمعاً بالشهرة، فأبى هوميروس فهدّده بالشكوى إلى رؤساء اليونانيين «فأُشْعِرهم بنُكُولك» [من الفعل نكل أي نكصَ]. قال أوميروس مرتجلاً: بلغنـا أن كلباً حاول قتل أسد فامتنع عليه أنفةً منه، فقال له الكلب: إنني أمضي فأُشْعِر السباع بضعفك. قال له الأسد: «لأَنْ تعيِّرني السباع بالنُّكُول عن مبارزتك أحبّ إليّ من أن ألوّث شاربي بدمكَ».

وأكثر من ينقل عن هوميروس، هو الشهرستانيّ في الملل والنحل: «فمن ذلك قوله (لا خير في كثرة الرؤساء). [...]. وفي الحكمة: (لو كان أهل بلدٍ كلهم رؤساء لما كان رئيسٌ البتَّة، ولو كان أهل بلدٍ كلهم رعية لما كانت رعيةٌ البتَّة). ومن حكمه قال: (إني لأعجب من الناس، إذ كان يمكنهم الاقتداء بالله تعالى فيدَعون ذلك إلى الاقتداء بالبهائم! قال له تلميذه: لعلّ هذا إنما يكون لأنهم قد رَأَوْا أنهم يموتون كما تموت البهائم. فقال له: بهذا السبب يكثر تعجبي منهم، مِنْ قِبَل أنهم يحسّون بأنهم لابسون بدناً ميتاً، ولا يحسبون أن في ذلك البدن نفساً غير ميتة). وقال: (من يعلم أن الحياة لنا مستعبِدة، والموت مُعْتِق مُطْلِق... آثرَ الموت على الحياة). وقال: (العقل نحوان: طبيعيّ وتجريبيّ، وهما مثل الماء والأرض، وكما أن النار تذيب كلّ صامت وتخلِّصه وتمكّن من العمل فيه، كذلك العقل يذيب الأمور ويخلِّصها ويفصلها ويُعِدّها للعمل. ومن لم يكن لهذين النحوين فيه موضع فإن خير أموره له قصر العمر). وقال: (إن الإنسان الخيِّر أفضل من جميع ما على الأرض، والإنسان الشرير أخسّ وأوضع من جميع ما على الأرض). وقال: (لِنْ تَنَلْ، واحْلُمْ تَعِزّ، ولا تكن معجَبا فتُمْتَهن، واقهر شهوتك فإن الفقير من انحط إلى شهواته). وقال: (الدنيا دار تجارة، والويل لمن تزوّد عنها الخسارة)».

وكلّ ذلك من الحكم والشذرات وليس من الشعر بالضرورة. هل بسبب استحالة نقل شعر هوميروس كما يذكر أبو سليمان السجستانيّ: «وقد نقل اصطفن شيئاً من أشعاره من اللغة اليونانية إلى العربية. ومعلوم أنّ أكثر رونق الشعر ومائه يذهب عنه [في] النقل، وجلّ معانيه يتداخله الخلل عند تغيير ديباجته» (صوان الحكمة وثلاث رسائل). أم لسبب آخر؟ في رأينا، لسبب يتعلق بتذوُّق الشعر، وقبل ذلك بالمفهوم الذي تحتفظ به الثقافة العربية للشعر وأوزانه وبنائه وأصواته.

هل فُهِمَ مصطلح (بويطيقا أو أبوطيقا = فن الشعر) اليونانيّ حقاً في الثقافة العربية؟ أفْضلُ من نقل التصويت اليونانيّ للمفردة الدالة على فن الشعر هو ابن النديم في الفهرست، عندما تحدَّثَ عن أرسطو قال: «الكلام على أبوطيقا، ويقال بوطيقا، معناه الشعر، نقله أبو بشر متى من السريانيّ إلى العربيّ، ونقله يحيى بن عدي وقيل إن فيه كلاماً لثامسطيوس ويقال إنه منحول إليه، وللكندي مختصر في هذا الكتاب..».

أخوان الصفا أو ما صَحَّفه النساخ في رسائلهم، يذكرون في «العلوم المنطقيات خمسة أنواع: أولها أنولوطيقا وهي معرفة صناعة الشعر..»، وهذا خطأ، المقصود بويطيقا (poiêtikês) = فن الشعر، فأنولوطيقا هي (Analytics).

عندما نعيد اليوم مراجعة كتاب «فن الشعر» بترجماته القديمة، نجد أن أبا بشر متي القنائي يتحدث عن «صناعة الشعراء»، والفارابي «رسالة في قوانين صناعة الشعراء»، وابن سينا «في الشعر مطلقاً وأصناف الصيغ الشعرية»، وابن رشد «تلخيص كتاب أرسطوطاليس في الشعر». وفي جميعها لا استشهاد ببيت واحد من شعر هوميروس أو غيره، بل إن ابن رشد يدعم نصّ أرسطو بالاستشهادات الشعرية العربية الكثيرة.

مفارَقة: عرفت الثقافة العربية الفلسفة اليونانية وتعمّقت فيها، ولم تعرف الشعر اليونانيّ. فهل لذلك نتائج في فهم حيثيات الفلسفة اليونانية نفسها؟

الفارق الذي يؤخذ بنظر الاعتبار هو أن كتاب أرسطو يتعلق بالأحرى بالمفهوم الذي نسميه حالياً (الشعريات) وليس قوانين وقواعد فن الشعر الضيّقة. ترجمة العرب لكتاب ارسطو بـعنوان «فن الشعر» تنطوي على بعض التجاوُز القادم من أن أرسطو عالج فيه الفن الشعريّ ليس كما عرفه العرب، وإنما كما تجلّى في «التراجيديا» و«الملحمة» و«المحاكاة» وهي ضروب لم تكن ثقافة المترجم العربيّ تعرفها. من هنا يخرج الالتباس الأصليّ بين الشعريات الحالية، المستلهمة جوهرياً من مفاهيم أرسطو، و(صناعة الشعر). تُعَرَّف «الشعريّات» وما هو «شعريّ» بأنها دراسة الأشكال الأدبية، وعلى وجه الخصوص دراسة الأسلوب والسرديات والمجازات البلاغية، بالطبع دراستها في (فن الشعر) المخصوص وغيره من الأنواع الأدبية، بل وغير الأدبية. نتكلّم اليوم عن شعرية المسرح، وشعرية الخطاب اللغويّ وغير اللغويّ، وشعريات الفيلم السينمائيّ، وشعرية الرواية، وشعرية الموقف الإنسانيّ، وشعرية الصمت نفسه، وغير ذلك، وكله لا علاقة له بفن الشعر المخصوص، ولا بالشاعرية الحالمة.

هل يُعالِج هوراس، اللاتينيّ في عمله مفهوم الشعريات؟ ليس بالضرورة. نلاحظ أن المحاكاة تعني بالنسبة لأرسطو محاكاة الطبيعة، بينما نستشفّ أنها تعنى لهوراس محاكاة الكتّاب الآخرين. وإذا ما انطلق أرسطو في قبوله لمَشاهِد الرعب والعنف لتأسيس نظرية التطهير (كاثارزيس)، فإن هوارس يحرّم هذه المَشاهِد: «يجب عليك ألا تدفع إلى خشبة المسرح ما كان طبيعياً أن يتمّ وراء الكواليس، وأن تحجب عن أعيننا أموراً شتى هي من اختصاص المُمثل أن يرويها في حضرتنا عندما يأتي حينها. فلا تدع ميديا تذبح بنيها أمام النظّارة، أو أتريوس يطهو اللحم الآدميّ، أو بروكنية تستحيل إلى طائر أو كاوموسى إلى أفعى: فإني لأبغض كل ما ترينيه من هذا القبيل لأنه جاوز حدّ التصوُّر».

وإذا كان أرسطو في غاية الانفتاح على التجديد (حتى باختراع مفردات جديدة وإدخال الكلام المحكيّ)، فإن هوراس لا يدع مجالاً لأيّ نوع من التجديد، إلا التجديد في صياغة الكلام، من بين اختلافات أخرى تتعلق بطول المسرحية وعدد فصولها.

لعل القسم الثالث من كتابه مفيد في فهم ذلك كله.

القسم الثالث: القواعد الشخصية التي على الشاعر أن يفرضها


[295-309] إذا كان الشعر محض هلوسة، فلا حاجة للحديث عن قواعد. ولكن الشعر، في جزء منه، هو نتيجة الدرس والعمل والحسّ السليم.

[310-322] يتوجّب أن يكون هناك إعداد فلسفيّ عام لتشكيل الذهن وتغذيته بمعرفة محدّدة حول الإنسان والحياة. ومن أجل الكتابة بشكل جيد، عليك امتلاك شيء لتقوله.

[323-332] دعونا نحذو حذو اليونانيين، التوّاقين إلى المجد، والذين لم تكن التربية [والتعليم] عندهم أمراً منفعياً، مثلما هي الحال عند الرومان.


[333-346] يقيناً يتوجب وجود المفيد [المنفعيّ]، لكن يتوجب أيضاً وجود اللطيف. إذا اقترحتَ على نفسك تثقيفها بمبادئ مُصاغة مباشرة، مُختصرَة، وإذا كنت تبحث فقط عن تسلية المخيّلة، ستبقى في الرجوحية. يبقى أن العمل [الشعريّ ] الذي يحصل على الإجماع هو العمل الذي يطوي المنفعة العميقة في رضا (قبول موافقة) الشكل.

[347-360] يمكن أن نغتفر، خاصة في قصيدة طويلة، بعض أوجه القصور الطفيفة.

[361-365] هناك، علاوة على ذلك، بالنسبة للقصائد كما للوحات، مسألة منظور: مشاهدة بعضها يجب أن تكون، بطريقة أو بأخرى، من مسافة. وبعضها الآخر لا تخشى من الفحص المُدقّق.

[366-385] ولكن ما لا يمكن السماح للشاعر به هو أن يكون متوسط القيمة: الشعر موضوع ترف وليس عمل دهاء (أو مناورة) أو متعة. هواة.

[386-390] إذا لم نكن متأكدين من نوعية عملنا [الشعريّ]، لنخضعه إلى [فحص] بعض الحكماء أو لننتظر فترة طويلة قبل نشره.

[391-407] ولكن إذا كان لدينا المواهب، لا نخجلنَّ من كتابة الشعر: ما الأجمل من مهمّة الشاعر؟ مع الأورفيوسيين (1)Orphée والأمفيونيين (2)Amphion والهوميروسيين Homère والتيرتايوسيين Tyrtée (3) جعل الشعر الإنسانية متحضرة.

[408-418] لا نعتقد، مع ذلك، أن المواهب كافية: إذا كان الفن لا يفعل شيئاً كبيراً دون عبقرية، فالعبقرية لا تخلق الكمال دون الفن. بل إن الفن يقع تَعلُّمه بدربةٍ بطيئة يتوجب على الشاعر أن يمنح نفسه فيها بصفته نموذجاً للأولمبيّ الصبور الذي يتشكّل ويتدرّب لمسابقات الجمباز: لا يكفي المرء الإعلان عن عبقريته بنفسه، كما يفعل الكثير من الناس اليوم.

[419-433] التصفيق الذي يُصفّقه زبون جائع لهاوٍ ثريّ لا يُوهِم إلا هذا الأخير.


[434-452] لا نركننَّ إلا لأصوات أصدقاء مخلصين سيرشدنا نقدُهم المستبصرُ الذي يُقارَن بنقد كوينكتيليوس فاروس (4)(Quintilius Varus) إلى جميع الأماكن الضعيفة أو المصابة بالخلل.


[453-476] [هوراس يقدّمُ] صورة [بورتريه] هزلية لشاعر مهووس يُرتّل قصائده، فيهرب جميع المستمعين.

كتاب «لويس عوض»

العمل المفصّل الكامل مترجم إلى العربية على يد د. لويس عوض تحت عنوان (هوراس: فن الشعر)، وصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب عام 1988، مع ملاحظات مُطوَّلة. من يقرأ كتاب عوض، رغم مقدمته العميقة، قد يضيع في التفاصيل، فهو يخلو من الخلاصات المفيدة لغير المتخصّص وطالب العلم والفضوليّ. أمر فعله مترجمو هذا العمل الفرنسيون. فلقد قدّموا خلاصات نظرية لجميع فقراته الطويلة التفصيلية المكتوبة في روح لحظته التاريخية.

هوامش:

1- كتولوس (باللاتينية: Gaius Valerius Catullus): شاعر لاتيني عاش في الفترة الأخيرة من الجمهورية الرومانية. ولد سنة 84 قبل الميلاد لعائلة متوسطة في فيرونا، أعماله لا تزال تقرأ عن نحو واسع وتأثيره متواصل في الشعر والفنون الأخرى. توفي سنة 54 قبل الميلاد.

2- H. Zehnacker et J.-Cl. Fredouille, Littérature latine, Paris, PUF, 1993, p. 164-165

3- يُقصد بالرسالة (traité) كتاب يشتمل على قلِيل من المسائل، تكون في موضوع واحد، أي أننا عند الدلالة العربية التقليدية للمصطلح، عند القول مثلاً رسالة في الموسيقى أو رسالة القضاء والقدر، رسالة في الغناء الملهي أمباح هو أم محظور، إلخ.

4- وُلد نحو عام 110 ق. م. وتوفي نحو 40 ق.م. يؤكد الباحثون أنه رجل شرقيّ شاميّ، لكنه متأثر بالشرقية الهيلينية.

5- من القرن الثالث ق. م.

6- كينتيليان (Quintilian) وَهو بليغ روماني، وُلدَ سنة 35 ميلادية في مدينة قلهرة في إسبانيا حالياً، أشير له في العصور الوسطى وعصر النهضة بكونه أحد البلغاء في الأدب الرومانيّ، وُجد في روما أثناء عصر نيرون وتوفيَ سنة 100 ميلادية.

7- بالطبع (المُحسّنات البديعية) تقريب للفكرة التي يقولها هوراس، فهو يتحدّث عن وصف المُقبّلات، المشهيّات، المتبّلات (hors-d&rsaquooeuvre descriptifs)، قاصداً بذلك الأوصاف التزويقية المُغْوِيَة.

8- الشعراء الدوريون (poètes cycliques) هو مصطلح لشعراء الملحمة اليونانيين المبكرين المعاصرين تقريباً لهومير، أي لليونان الأركاييكية.

9- تيتوس ماكيوس بلاوتوس أو «بلاوتوس» هو كاتب مسرحيّ رومانيّ قديم من الحقبة اللاتينية القديمة. تُعدّ أعماله الكوميدية أقدم الأعمال التي وصلت لنا بالكامل من الأدب اللاتيني. 10- حرفياً (pretexte تعلة، حجة) وهي إشارة إلى دراما رومانية قديمة ذات ثيمة من الأسطورة أو التاريخ الروماني (خرافة رومانية fabulae praetextae).

11- يقال في روما عن ممثلين أو شخصيات رومانية يرتدون (التوغا toge) وهي العبارة اليونانية، بالتعارُض مع الممثلين أو الشخصيات الإغريقية التي ترتدي ثوباً يُسمّى بالياتا (palliatæ).




هوامش:

1- منسوب إلى أورفيوس: كاتب وموسيقي أسطوري أغريقيّ. تم تأليف قصص عدة حوله وحول حياته، وقد قيل إنه ألف أغاني عدة لأجل زوجته ليورودس من العالم السفليّ.

2- في الأساطير اليونانية، كان أمفيون ابن زيوس وأنتيوب، والشقيق التوأم لزيثوس. ويرتبط اسمه بتأسيس مدينة طيبة وبناء جدارها. أصبح أمفيون شاعراً كبيراً وموسيقياً، مثل أورفيوس. كان لأورفيوس القدرة على جعل الحيوانات تغنّي. أما أمفيون فقد كان يستطيع نقل الحجارة بغنائه.

3- تيرتايوس شاعر رثائيّ إسبارطيّ من القرن السابع قبل الميلاد.

4- بوبليوس كوينكتيليوس فاروس Publius Quinctilius Varus (46 ق.م - 9م) جنرال وسياسيّ رومانيّ. يبدو أنه كان ناقداً ويكتب الشعر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى