هالة البدري - لصوص الأمس ولصوص اليوم!.. أدعو لجبهة عربية ضد محو الذاكرة

أدعو لجبهة عربية ضد محو الذاكرة
هالة البدري




حين أصيبت تلك القرية بمرض النسيان، راح أهلها يكتبون على كل شيء محيط بهم اسمه ووظيفته مثل: "هذه بقرة وهي تدر اللبن".. ثم بعد قليل نسيوا كيف يفسرون معنى الحروف، وكادوا يفقدون تاريخهم ومعنى علاقاتهم ببعضهم البعض حتى عاد رجل منهم كان مسافرا وعرف الحالة وأعطاهم الترياق الذي أعاد لهم الذاكرة.

تذكرت "مائة عام من العزلة" للكاتب العظيم جابريل جارسيا ماركيز، وأنا أشاهد فيلم لتدمير آثار الموصل أثناء مراجعتي لمواد نشرت عن محاولات اسرائيل نقل اليهود الأكراد إليها.تذكرت تدمير المتحف الإسلامي ومكتبة الوثائق القومية ومبنى مديرية أمن القاهرة في وسط العاصمة المصرية، بعد ثورة يناير مباشرة، وعرفت ساعتها على الفور أن المقصود ليس الانتقام من الشرطة فحسب، لكن تدمير الذاكرة المصرية ومحوها حتى لا نتذكر عظمة تاريخنا ويأتي يوم لا نعرف فيه القيمة الحقيقية لهذا الشعب العظيم. صورة سبق ورأيتها والقنابل الأمريكية تدمر المتحف الوطني العراقي، كنت أعرفه وأعرف تفاصيل جدارياته وتماثيله الرائعة وقطع الخزف والزجاج، بل و"الاوستراكات الصغيرة" قطع الفخار واحدة واحدة،" فقد عملت عليها في كتابي المرأة العراقية". تماما كما أعرف الثروة الهائلة للمتحف الإسلامي المصري.

ليس لأنني أعشق المتاحف فحسب، بل لأنني أشعر أنني جزء منها، وأن تواصلي معها يصنع قيمتي الحياتية، وهو ما يدفعني دائما للاهتمام بذاكرة الأمة، وأذكر أنني كتبت أكثر من مشهد في رواياتي يعكس رغبة أعدائنا في أن ننسى تاريخنا فتاريخنا هو المشكلة، هو الذي يهزم محاولاتهم في استعمارنا وتقسيمنا والاستيلاء على أرضنا وعرضنا، وأذكر أنني استمعت إلى شهادات عراقية بعد ضرب بغداد بالقنابل التي استهدفت آثارها العظيمة قال فيها بعض المواطنين إنهم استشعروا الرغبة في النهب عند الجنود الأمريكيين، فذهبوا سرا إلى المتاحف وأخذوا بعض المقتنيات إلى بيوتهم كي يحافظوا عليها، وقيل أيامها إن اللوحات المنحوتة في عهد الملك "نبوخذنصر" الأكدي تدحض كل مزاعم إسرائيل عن وجود الهيكل تحت جدران المسجد الأقصى" توجد لوحات لنائحات على سقوط مدينتهن تحت أقدام الآشوريين" وهي ضد الكثير من المعلومات التي تتشدق بها إسرائيل والصهيونية العالمية، ولهذا وجهت الضربات إلى هذا التاريخ حتى لا يكون له أثرا ونهب وسرق ليظهربعضها في أماكن أخرى كلنا يعلمها.أو تمحى لللأبد. هذا ما دعا الفنان خالد يوسف للتنبه في ثورة يناير 2011 إلى وجوب حماية المتحف المصري.

لكن مع الأسف وإن استطعنا حمايته في تلك اللحظة فإننا لم نستطع أن نحمي غيره، وفقدنا محتويات بعض المتاحف في ملوي وغيرها، وفقدنا مئات القطع وظهرت بيننا عصابات تهريب الآثار التي اكتشفت أن ربح الاتجار في الآثار أكثر كثيرا من الاتجار في المخدرات، ونسى هؤلاء الذين خضعوا لإغراء عصابات دولية ومافيا منتشرة في كل أنحاء العالم أن الذي يحصل على تراثنا الآن لا يكرمه ولا يحتفي به، كما فعل الذين حصلوا على هذا التراث من قبل كهدايا من الخديوي أو كصفقة للعمل على استخراج هذه الآثار وجزء من الثمن للبعثات التي تقوم بالحفر والاستكشاف، لأن هؤلاء المستكشفين مهما كانت أغراضهم من الربح كانوا في النهاية علماء يعشقون التاريخ، لهذا ظهرت مثل هذه القطع في كبريات المتاحف العالمية يتباهي بها أصحابها، كما حدث مع نفرتيتي وأذكر أنني حين زرت برلين للمرة الأولى وذهبت لأزور جدتي نفرتيتي أنني وقفت أمام تمثال أعشقه كتب تحته "أميرة فرعونية" وهو معروف لنا هنا باسم "أخت آتون" وكنت لشدة الوله بهذا التمثال الذي أعتبره صانع مدرسة النحت الحديثة أهديه لأصدقائي الأجانب، ولا تخلو منه حقيبتي في السفر أبدا، لكنني لم أعلم أنه موجود بجوار نفرتيتي في متحف برلين مطلقا فلما شاهدته هناك بكيت، بكيت غربته وغربتنا وفقرنا وضعفنا وعدم قدرتنا على إعادة هذه الآثار التي تمثل جزءا من لحمنا الحي، جزءا من حضارتنا وتاريخنا.. ليس اللصوص الجدد مثل سابقيهم.. هؤلاء لصوص من نوع آخر يستهدفون محو تاريخنا، أما الإرهابيون الذين يقومون بالتدمير مستخدمين العصاة من أبنائنا فهم الأكثر شراسة والأشد قسوة، لأنهم لا يحرموننا فحسب من تاريخنا.. بل يحرمون البشرية جمعاء من تاريخ الإنسانية الحقيقي، فالمسألة ليست أن هذا الفنان عاش على أرض مصر أو على أرض اليونان، بل إنه عاش كإنسان على هذه الكرة الأرضية أينما كان مكانه.. هم يريدون تزوير التاريخ لأن اختفاء هذه الآثار التي استطعنا تفسير بعضها ولم نستطع حتى الآن إيصال حلقاتها كلها ببعضها البعض معناه أن فترات من تاريخ البشرية ستختفي وأنهم يستطيعون كتابة التاريخ كيفما شاءوا، وكيفما أرادوا. في الموصل قال مدير المتحف أن تدمير آثار الآشوريين سببه الأول اخفاء الآثار التي تسجل المواجهات بين الآشوريين واليهود والتي انتصر فيها الآشوريين منذ عهد آشور ناصر بال الثاني وابنه شلمنصر الثالث ومن جاء بعدهم حتى الدولة الأكدية . ليس هذا فحسب بل أن التدمير ومحو الذاكرة الذي رأيناه في فيديوهات مصورة من داعش قد سبقه شراء أراضي تم من قبل تجار يهود في عام 2011 سواء في الموصل أو في المنطقة الواقعة من حدود سوريا مع شمال العراق والتي تبلغ حوالي 200 كيلومترا وتمتد باتجاه ايران مرورا بتل اعفر وحتى الموصل بنفس الطريقة التي تمت من قبل في فلسطين . وأن هذا الشراء كان قد سبقه في عام 2003 عدة زيارات تحت غطاء السياحة الدينية من قبل يهود اسرائليين ثم ظهر الهدف الأساسي بعد ذلك مع تصاعد رغبة الأكراد في الإنفصال ألا وهو تمكين اليهود الكراد من الإحلال محل الأشوريين والكلدانيين باعتبار انها مناطق يهودية حيث مراقد الأنبياء اليهود . وتحقيق حلم اسرائيل الكبرى بضم هذه الأراضي إلى اسرائيل. وقد ذكرالصحفي الامريكي ويي مادسون في مقالاته عام 2003 أن الاكراد سيحلون محل الكلدان والاشوريين بعلم من الامريكان وأن الأمريكين يسهلون مهمتهم.


لكل هذا أدعوا المفكرين العرب والمثقفين في كل مكان من العالم لعمل جبهة تقف أمام تزوير التاريخ ومحو الذاكرة العربية وتواجه تدمير الآثار وسرقتها من متاحف الوطن العربي وتعيد قراءة التاريخ وتصحيحه مما حاق به من تشويه وظلم وتغيير في الوقائع.

وأدعو مجموعة "مفكرون ضد التزوير نحو تحرير فلسطين من أسر الخيال الصهيوني" أن يوسعوا من فكرة هذا النشاط ليكون تحالفا ثقافيا ضد تزوير التاريخ العربي كله خاصة بعد ما حدث في مصر وسوريا والعراق واليمن والمتتبع لهذا التدمير يرى اليد الصهيونية من ورائه حتى بارتكاب هذه الفظائع بأيدي داعش ومثيلاتها لأنها صناعتهم باعترافهم وبامتياز.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى