عبد الواحد المكني - مظاهر منسية من التديّن الشعبي بمغارب القرن التاسع عشر

خلّف حدث استعمار الجزائر سنة 1830، من جملة ما خلّف، نشأة نواة فرنسية للدراسات الانتروبولوجية تدعّمت بعد استعمار تونس (في 1881) ثم المغرب الأقصى (1912). وقد ركّزت هذه النواة التي تُكنَى عند البعض بالمدرسة الانتروبولوجية الاستعمارية على المظاهر المجتمعية غير المألوفة و الخارقة للعادة من منظور المستوطنين الأوروبيين ومن زاوية الذهنية الغربية، فكانت ظواهر الأعراف المحلية وأنواع الجريمة و العقاب وضروب السحر والشعوذة مجلبة لفضول المستكشفين والدارسين. هذا ولابد من التأكيد على أنّ المدونة المخزنية والجبائية هي بطبعها قاصرة عن توفير مادّة للتبحّر في عالم التدين الشعبي و الصوفي الذي انتشر ببلاد المغرب خلال العصر الحديث، فكان اللجوء إلى تاريخ المناقب
( انظر: لطفي عيسى، مغرب المتصوفة: الانعكاسات السياسية والحراك الاجتماعي من القرن 10 إلى القرن 17، مركز النشر الجامعي تونس 2005) الذي يتطلب سلاحا نقديا ثاقبا أو إلى الأدب الأنتروبولوجي الاستعماري الذي قدّم لنا نصوصا مسكونة في الغالب الأعمّ بهاجس النزعة المركزية الأوروبية، وقد انصبّ معظم تركيز المدونة الاثنوغرافية على مظاهر التدين الشعبي والصوفي، وتبحّر باحثو الإناسة في دراسة عالم الصلحاء والمرابطين و الإخوان، وخلّفت هذه المعاينات الانتروبولوجية وهذه البحوث الميدانية مجموعة من التآليف النادرة التي أسهم في انتاجها أكاديميو القرن التاسع عشر وعسكريوه ومستكشفوه، والذين هيؤا المجال بدراساتهم هذه لفقهاء القضاء ورجال السياسة وتقنيي الأمن لمزيد فهم طرق ” تسيير” تلك المجتمعات المستعمرة وسبل إخضاعها بحنكة وحكمها بيسر.

يمكننا أن نذكر في هذا الصدد ثلاثة من أبرز النصوص الأنتروبولوجية التي توغّلت في مظاهر التديّن السائر ببلاد المغارب مع تخصيص واضح ومفهوم لمجتمع الجزائرن وقد ركّزت هذه النصوص على الاسلام الطرقي ودور الصلحاء في تأطير المجموعات المحلية دينيا وثقافيا وسياسيا، ومن أشهر هذه النصوص ثلاثة أولها صدر سنة 1884: للوي(س )ران و يتعلق بـ “دراسة حول الاسلام بالجزائر”

Rinn ( Louis), Étude sur l’islam en Algérie, Alger , 1884.

ومؤلفها ولج الأكاديميا من معبر العسكر، فقد كان رئيس كتيبة مشاة ورئيس مكتب استعلامات في مكاتب الشؤون الأهلية ثم نائب رئيس الجمعية التاريخية بالجزائر.

وثاني هذه النصوص هي لأدموند دوتي، وهو أستاذ بالمدرسة العليا للآداب بالجزائر وصدر سنة 1900: ” خواطر حول الاسلام المغاربي: المرابطون”

Doutté ( Edmond), Notes sur l’islam Maghrébin, Paris,Le roux, 1900.

وثالثها لريني باسّي الذي شغل منصب مدير المدرسة العليا للأداب بالجزائر وعضو الجمعية الدبية بباريس بعنوان: ” بحوث حول ديانة البربر”

Basset ( René) , Recherches sur la réligion des berbères, Paris ,Le roux, 1910.

ونعرض في هذه الورقة الأولى لظاهرة صدمت انتباه الانتروبولوجيين الفرنسيين، وتتمثل في الدور الهام والحسّاس الذي لعبته المرأة في دائرة تأثير الاسلام الطرقي المتحصّن بالزوايا، وخاصة دور “الصالحات” ( مؤنث صالح) أو ” الوليات ” ( وتسميهم لغة العصر أيضا: الستّ والسيدة وللاّ والمجذوبة والبهلولة ….) وهن” نساء – قائدات ” ورائدات لهنّ تأثير ديني وثقافي واجتماعي هامّ تعدّت جغرافية قداسته مضارب العرش والدوار، لتشمل جهات ونطاقات ممتدّة وقد حدثتنا النصوص كما الروايات الشفوية عن تزهّد عدد كبير منهن واختيارهن لمسلك العزوف عن الزواج والإعراض عن الزينة والشهوات وأغراض الدنيا، وهو خط نمطي في تاريخ الصلاح الأنثوي بالمغارب يقابله خط استثنائي زاغ عن الأمثولة الصوفية الرائجة؛ فقد حدّثنا النصوص والمرويات المأثورة عن أنماط من الولاية الأنثوية المغاربية لفّها النسيان أو التناسي بفعل طغيان قالب رمزي نمطي لصورة الصالحة-الراهبة و المتزهدة.

اصطدم الأتنوغرافيون الفرنسيون بأنماط “شاذة” وغير مالوفة في عالم الصالحات بالجزائر في القرن التاسع عشر، فمنهنّ من اخترن تأسيس السلطة وفرض” الكاريزما” الطرقية عبر سلوكات غير مألوفة مثل البطولة والفروسية و”الفتونة”، أو التزّيي بلابس الرجال والتشبّه بسلوكهم وممارساتهم، أو أيضا عبر “الإباحية الصوفية” وهي ظواهرتستدعي وقفة تحليلية نفسية وأنتروبولوجية.

{{” بطولة” الصالحات :}}

هي ضرب من “الفتونة” التسائية أو” الصعلكة المرابطية ” اشتهرت بها بعض السيدات أو الفتيات الشابات فاقتادتهن إلى الريادة الولائية أو تدعيم الصلاح و”البركة” بفضل إشاعة مرويات تلك البطولات.

ومن ضمن تلك الملاحم المحليّة تلك التي جدّت سنة 1847 عندما قامت ”فاطمة بنت سيدي التواتي” من أولاد سيدي ابراهيم بقتل زوجها مدّعية أنّ الرصاصة التي أردته صريعا نزلت من السماء، وكانت هذه المرأة شابّة فاتنة بالغة الحسن فادّعت الانجذاب و”البركة”وسرعان ما أصبح لها أتباع ومريدون، منهم من كان مسلّحا ومتوثبا للمنازلات وكانوا يأتمرون بأوامرها ويبطشون بمن يثيرهم أو يعارضهم وكان هودج هذه “الولية ” يتنقل من مكان إلى آخر لجمع العطيّات والهدايا والنذر، وأصبح موكبها المتجوّل مثل “قداستها” السائحة يتزايد من يوم إلى آخر وأثار فزع السلطات الأمنية الفرنسية، خشية أن يتحوّل فريق الأتباع والمريدين المتحفزين إلى قوّة تقطع الطرقات وتهدّد أمن العساكروالمعمرين الفرنسيين، بعد أن نجحت الولية في استعمال أزلامها للضغط على السكان المحليين وإخضاعهم لطاعتها، بادّعاء المكاشفة حينا وبكشف القوة أحيانا أخرى.

{{” صالحات “متشبهات بالرجال:}}

استقطبت ظاهرة تجوال الصالحات في جزائر القرن التاسع عشر بأزياء رجالية فضول الملاحظين، فقد تحدّثوا عن “الصالحة ذهبة” وهي فتاة بلغ سنّها حوالي 19 عشر ربيعا، ابنة مزارع معدم وفقير، وشدّت الانتباه منذ سنّ الرابعة عشر بحضور حفلات الموسيقى ” العوّادة” فكانت تتخمّر في الرقص وتبالغ فيه، ثم أصبحت “درويشة”. والأهمّ من كل هذا انها أصبحت لا تلبس إلا الملابس الرجالية فكانت تتزيّى بقندورة وبرنس وشاشية وتمشي حافية القدمين.

ونفس الأمر تقريبا تمت معاينته في جهة تلمسان عند الصالحة تركية بنت عمار التي اختارت لنفسها اسما ذكوريا (ابن تريك) وكانت تركب الفرس وتحرث الأرض وتقوم بألعاب الفروسية ولا تلبس إلا أزياء الرجال.

ينطبق الأمر نفسه أيضا على الصالحة الخادم بنت بالرابح من دوار المعزة، وغيرها كثيرات. ومثل هؤلاء الصالحات لم يتزوّجن البتّة وفي تاريخ الجزائر نماذج لعديد المتشابهات اللائي اخترن رغم جمالهن تقمّص شخصية الرجل، ولا ندري إن كان ذلك من مستلزمات الصلاح أم من مخلفاته.

{{بغاء الصالحات المقدّس أو الحبّ في فناء الزاوية:}}

هناك صالحات إناث وجميلات اخترن وهب أنفسهن للعابرين، وهي حالة ولية بمنطقة صافي بالمغرب الأقصى، وينطبق ذات الأمر على الولية عائشة القائمة زاويتها علي الطريق بين مكناس وفاس والتي اشتهرت بتوفير هذه “الضيافة الايروتيكية ” للوافدين دون أن ينال ذلك من تأثيرها على المريدين والأتباع، بل علّه مجلبة التبجيل والايمان بالجذب.

وعند عروش أولاد العابدي في جبال الأوراس يسمح للمطلقات بتعاطي البغاء العلني قبل إعادة التزوج والبقاء عند عائلاتهن بصفة طبيعية. وقد حاولت السلط الإدارية التدخل لمنع هذه الظاهرة، فوجدت معارضة شديدة من كل سكان العرش لأنّ ذلك من شأنه أن يؤثر على مردود الصابة وقطع “البركة”.

نحن إزاء ظواهر استثنائية ارتبطت بتاريخ التدين الشعبي المغاربي عامة، وبتاريخ التصوف المنقبي بصفة مخصوصة. وهي بلا شك تتطلب وقفة “بسيكوتاريخية”. فبلاد المغارب كانت تعجّ بالصالحات بديعات الحسن والّائي كانت أنوثتهن من دعائم صلاحهن وتأثيرهن الولائي على الأتباع و المريدين، فهل إن تخيّر مثل هذه السلوكيات الاستثنائية هو أمر عارض أم قديم متجدد؟

ليست مظاهر البطولة الأنثوية والقيادة النسوية ومزج القداسة بالقوة إلا صورة عائدة من صور المرأة البربرية – القائدة وعلى رأسها صورة الكاهنة التي نجحت في الجمع بين القيادة الحربية الميدانية والريادة الروحية الدينية.

أمّا التشبّه بالرجال فهو سلوك ولائي أنثوي، لمزيد جلب الاحترام و التقدير في بيئة ذكورية تستعمل فيه الصالحة سلاح الذكورية( الإسم والمركوب والملبوس و المنطوق…) لتأكيد ريادة الأنثى – الولية. وهو إلى جانب ذلك ضرب من السلوك النفسي الجنسي لإناث متخنثات متشبهات بالرجال لم يجدن الفرصة لإشاعة مكبوتهنّ إلا عبر معبر التصوّف و الا نجذاب.

أمّا البغاء المقدّس في فناء المعبد لاستجداء الخصب الالهي وإبعاد الشرور، فهو أمر قديم حدّثتنا عنه النصوص القديمة منذ العصر الروماني بشمال إفريقيا وقبله، وظل مسترسلا ومتخفيا بلباس العصورالمتعاقبة، ووجد في الثقافة الولائية منفذا لللاسترسال وفي الزاوية الخضراء حصنا يعوض فناء المعبد المتوهج حبّا وخصبا وقداسة.

تبدو للوهلة الأولى هذه المظاهر ” صادمة، شاذّة واستثنائية”، لكنها لم تخرج عن سياق الأمد الطويل في تاريخ الذهنيات والثقافة المغاربية.

( يتبع)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى