في ما يلي ترجمة عربية لهذه القصّة بالعبرية، رواها راضي بن الأمين بن صالح صدقة الصباحي (رتسون بن بنيميم بن شلح صدقة الصفري، ١٩٢٢-١٩٩٠) ونُشرت في الدورية السامرية أ. ب. - أخبار السامرة، العددين ١٢٣٠-١٢٣١، ١٥ شباط ٢٠١٧، ص. ٦٦-٦٩.
هذه الدورية التي تصدر مرّتين شهريًا في مدينة حولون جنوبي تل أبيب، فريدة من نوعها: إنّها تستعمل أربع لغات بأربعة خطوط أو أربع أبجديات: العبرية أو الآرامية السامرية بالخطّ العبري القديم، المعروف اليوم بالحروف السامرية؛ العبرية الحديثة بالخطّ المربّع/الأشوري، أي الخطّ العبري الحالي؛ العربية بالرسم العربي؛ الإنجليزية (أحيانًا لغات أخرى كالفرنسية والألمانية والإسبانية) بالخطّ اللاتيني.
بدأت هذه الدورية السامرية في الصدور منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدر بانتظام، تُوزَّع مجّانًا على كلّ بيت سامري في نابلس وحولون، قرابة الثمانمائة سامري، وهنالك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين بالدراسات السامرية، في شتّى بلدان العالم. هذه الدورية، ما زالت حيّة تُرزق، لا بل وتتطوّر بفضل إخلاص ومثابرة المحرّريْن الشقيقين، بنياميم (الأمين) ويفت (حُسني)، نجْلي المرحوم راضي صدقة الصباحي (رتسون صدقة الصفري، ٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).
””الملك عبد الله حسن ومُحسن للسامريين
لا تقُصّوا لي عن الملك عبد الله، جدّ الملك حُسين، فرأسي يعِجّ بالحكايات عن هذا الملك. كان ملكًا مليحًا ومُحسنًا لابناء الطائفة السامرية الصغيرة في نابلس، في أواخر أربعينات ومستهلّ خمسينات القرن العشرين، إلى أن اغتيل، حينما كان يصلّي في المسجد الأقصى في القدس. [عبد الله الأوّل ابن الحسين بن علي الهاشمي، ١٨٨٢-١٩٥١، والمغتال خيّاط مقدسي اسمه مصطفى شكري عشي]. كما وكان عبد الله طيّبًا ومحسنًا عندما كان أميرا.
من الصعوبة بمكان معرفة ما الذي جعله يُحسن لنا، ربّما لأنّه كان شعبيًا ”كل هلقدّه“، ولم يترفّع كالمتوقّع من شخص يحمِل لقب أمير أو ملك. احترمه معظم الناس وقدّروه جدّا. وكان أكثر من ذلك من وقّروه وبجّلوه. لم يعرف لا التكبّر ولا التغطرس. كلّ من ابتغى لقاءه استُقبل على الرَّحْب والسَعة، وفي أغلب الحالات لبّى له الملك التماسه. أَظنّ أنّ علاقته الطيّبة مع طائفتنا، بدأت تُثمر في أواخر أربعينات القرن العشرين، حين شكّل السامريون وفدًا للملك عبد الله، الذي أتى لزيارة بلدة الشونه بجانب مدينة أريحا [المقصود الشونة الجنوبية، إذ هناك شونة جنوبية في محافظة إربد، شونه لفظة تركية معناها مخزن]. استمع الملك بأسف عن وضع الطائفة العصيب جدًّا، ووعد بتقديم أفضل دعم ملكيّ. هذه العلاقة الطيّبة مع السامريين، أورثها لحفيده الحُسين، الذي يواصل في هذا التقليد، تقديم المساعدة وإقامة علاقات متعاطفة مع أبناء الطائفة في نابلس.
استقبال الملك عبد الله
إنّ موضوع القصّة، لا يدور حول الملك حُسين، بل حول جدّه عبد الله. هل حكيت لكم أنّه كان ملكًا شعبيًا، أم لا؟ إسمعوا إذن، هذه قصّة ما سمعتُها من الآخرين، بل هي عن حادث عاينته بأمّ عينيّ. ذات مرّة في أربعينات القرن الماضي، دعا سادة نابلس الملكَ عبد الله لزيارة مدينتهم زيارة رسمية. أذكر أنّهم زيّنوا كلّ المدينة على شرفه. لم تعرف نابلس احتفالًا كذاك منذ قرون. في المكان الذي تقوم عليه مكتبة المدينة الراهنةُ، المنشية، عملوا جاهدين في تحضير الوليمة الكبرى على شرف الملك. وصل الملك عبد الله على رأس حاشية كبيرة، شمَلت وزراءه ورؤساء جيشه، كما وحضر رؤساء الجيش البريطاني في الأردن أيضا، وبرز فيهم غلوب باشا الشهير [Sir John Bagot Glubb، جون باغوت غلوب الملقّب بأبي حنيك، ١٨٩٧-١٩٨٦، قاد جيش الأردن ١٩٣٩-١٩٥٦].
باحة المنشية مشيّدة بشكل قوسين ضخمين، متّصلين الواحد بالآخر، ويشكّلان دائرة كبيرة و”دُحش“ فيها كل وجهاء مدينة نابلس، رئيسها سليمان النابلسي، أعضاء البلدية ورؤساء الحمائل. كما كان في مَعِيّة الأفاضل كاهنُنا الأكبر، المرحوم ناجي بن خضر (أبيشع بن فنحاس) والكاهنان الشقيقان، عمران (عمرم) وصدقة، ابنا الكاهن الأكبر إسحق، لعلاقاتهما المتشعّبة مع شخصيات نابلس. كان لي صديقان من عائلة كنعان النابلسية، نزيه وتيسير، وبفضل مكانتهما تمكّنت وبنحو خاصّ جدّا، أن أقف معهما بجانب الدرابزين، حيث كان من الممكن الإشراف بدون عائق، على المكان الذي جلس فيه الملك عبد الله وحاشيته.
الوليمة الكبيرة
مثاليًا كان النظام. فُرشت السجاجيد السميكة على المصطبة الرحبة. الملك كان يمتعض من أساليب التأثيث الغربية، ولذلك أقام وجهاء نابلس الذين عرفوا ذلك، صفًّا طويلًا من المساند وعشرات الوسائد التي قعد عليها باسترخاء الملك عبد الله ومرافقوه. منظر قائم بذاته، كان الموقد الكبير الذي أُعدّ للملك، أقيم أمام المتحلّقين في آخر الصفّ الطويل المخصّص للوجهاء ورؤساء البلدات المجاورة، ومخاتير قرى كثيرة في محيط نابلس. كلّ واحد منهم كان يتقدّم ويقف بين يدي الملك، يقوم رئيس بلدية نابلس بتعريف الملك به، والمتقدّم يُقبّل يد الملك منحنيًا إنحناءة كبيرة. ثمّ عانقه الملك بحركة تنمّ عن البركة. كلّ هذه المراسم، كانت بمثابة إعلان ولاء مُجدّد، وهذا أثلج صدر الملك عبد الله.
بعد الانتهاء من مرحلة المعانقات الرسمية وتقبيل اليد، رجع الملك ومرافقوه إلى الوسائد الوثيرة. وكان ذلك أَمارة لافتتاح الوليمة الكبيرة. أُحضرت صوان نحاسية كبيرة محمّلة بكم هائل من سلَطات متنوّعة. هذه الصواني كانت صغيرة، مقارنة بالصواني الضخمة، أو بالأحرى ”سدورة“ النحاس التي وُضع على كلّ واحد منها، خروف كامل مشويٌ جيدًّا، مملوء بخليط من الأرز والصنوبر، ورائحته تضوّعت بعيدا.
من البدهي أنّني، كوني ابنًا للطائفة الإسرائيلية السامرية، لم ينشرح صدري عند رؤية ذلك، ولكن هذا شأن آخر. أكبر خروف وُضع أمام الملك، في حين أنّ ثلاثين خروفًا آخر كل منها أصغر منه، وُضعت على امتداد القوسين، مقابلَ أعين مئات المدعوّين المشرقة. وعلى أطراف الصواني المحمّلة بالخِرفان المحشية، وحولَها تلال من الأرز، وُضعت عشرات الملاعق ليستعملها الضيوف، كما هي الحال عند أهل المدينة، فقرون قد ولّت منذ أن جلس آباؤهم في خيام العرب في الصحراء. انتظر الجميع إشارة البدء في الوليمة، وكانت بالطبع من طرف الملك عبد الله نفسه.
راحة الملك
إنحنى النابلسي، رئيس بلدية نابلس، التقط مِلعقة مذهّبة وقدّمها للملك. أكثر من ألف عين واكبت ذلك، ردّ الملك عبد الله يد رئيس البلدية الممدودة. مال الملك نحو الخروف المشويّ، دسّ يده في الأرز والصنوبر، ملأ كفّه، كوّر الأرز بشكل كرة صغيرة، والتقمها. أعاد الكرّة ثانية كما في الأولى. واكب رئيس البلدية الملكَ عبد الله مبهورا، إلا أنّه سُرْعان ما استعاد جأشه، أسقط المِلعقة من يده وقلّد فِعل الملك. قام بنفس الشيء مئاتُ المدعوّين خَشية من إغاظة الملك. دفعة واحدة، سُمع صوت خشخشة عالٍ صادرٌ عن مئات الملاعق. حطّ المدعوّون الملاعق على الصواني، مقلّدين طريقة أكل الملك ورئيس البلدية. انطلقت هُتافات ونداءات لحياة الملك عبد الله. قهقه الملك وسُرْعان ما ضحك الجميع. الاستقبال كُلّل بنجاح تامّ.
في خِتام الوليمة وسلسلة التجشؤات، التي تنمّ عن الرضا، مال الملك ليستمع لأحاديث وجهاء بجواره. ثم سُرْعان ما جذبت انتباهَه ملامحُ وجه رئيس البلدية. النابلسي لم يشترك في ضحك أفراد حاشية الملك عبد الله، والحقّ يقال أنّّه بدا حزينا. ”لماذا أنت كئيب“؟ سأل الملك رئيس بلدية نابلس، ”هل ذلك بسبب رفضي المِلعقة التي حاولت تقديمها لي“؟ ”من أنا وما أنا يا ملكي لتنتبه لعبد حقير مثلي“؟ أجاب رئيس البلدية. ”ولكن لا بشاشةَ على وجه“، قال الملك عبد الله، ”قل لي ما يُضايقك“؟ ”لا يغتاظ عليّ جلالة الملك، ولكن أسألك فقط“، قال النابلسي بصوت خنوع، ”لماذا رفض جلالته المعظّم أن يأكل بالملعقة التي مددتها له وآثر الأكل براحته“؟ واكب المتجمّعون الحوار بتأهّب وهم يخشون أنّ شرًّا سينزل برئيس البلدية، على ما صدر منه من وقاحة، في رأي الكثيرين منهم. لم يبدُ الملك غاضبًا من استفسار رئيس بلدية نابلس. بالعكس، بدأ بالضحك بصوت عالٍ، إلى أن انضمّ إليه كلّ الحاضرين في المنشية، ينظر الواحد إلى الآخر، وجميعهم مستغربون في الوقت ذاته، ما سبب ضحك الملك. عندما خفت صوت الضحك الأخير قال الملك عبد الله لرئيس البلدية ”إعلم أنّني ابن ملوك الصحراء، وأمقُت كلّ تعاليم الإفرنج الحديثة. ولم آكل بالملعقة التي تلِج أفواهًا كثيرة ”كل هلقدّه“، في حين أن راحتي تدخل فمي فقط“؟
جرّت إجابة الملك صيحاتٍ عاليةً من التأييد من قبِل كلّ المجتمعين. قام الملك ومعه مرافقوه، ودّع مضيفيه بعناقات متكرّرة وقفل عائدًا إلى عمّان. أتفهمون الآن، إلى أيّ حدّ، كان الملك عبد الله شعبيًا؟“
هذه الدورية التي تصدر مرّتين شهريًا في مدينة حولون جنوبي تل أبيب، فريدة من نوعها: إنّها تستعمل أربع لغات بأربعة خطوط أو أربع أبجديات: العبرية أو الآرامية السامرية بالخطّ العبري القديم، المعروف اليوم بالحروف السامرية؛ العبرية الحديثة بالخطّ المربّع/الأشوري، أي الخطّ العبري الحالي؛ العربية بالرسم العربي؛ الإنجليزية (أحيانًا لغات أخرى كالفرنسية والألمانية والإسبانية) بالخطّ اللاتيني.
بدأت هذه الدورية السامرية في الصدور منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدر بانتظام، تُوزَّع مجّانًا على كلّ بيت سامري في نابلس وحولون، قرابة الثمانمائة سامري، وهنالك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين بالدراسات السامرية، في شتّى بلدان العالم. هذه الدورية، ما زالت حيّة تُرزق، لا بل وتتطوّر بفضل إخلاص ومثابرة المحرّريْن الشقيقين، بنياميم (الأمين) ويفت (حُسني)، نجْلي المرحوم راضي صدقة الصباحي (رتسون صدقة الصفري، ٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).
””الملك عبد الله حسن ومُحسن للسامريين
لا تقُصّوا لي عن الملك عبد الله، جدّ الملك حُسين، فرأسي يعِجّ بالحكايات عن هذا الملك. كان ملكًا مليحًا ومُحسنًا لابناء الطائفة السامرية الصغيرة في نابلس، في أواخر أربعينات ومستهلّ خمسينات القرن العشرين، إلى أن اغتيل، حينما كان يصلّي في المسجد الأقصى في القدس. [عبد الله الأوّل ابن الحسين بن علي الهاشمي، ١٨٨٢-١٩٥١، والمغتال خيّاط مقدسي اسمه مصطفى شكري عشي]. كما وكان عبد الله طيّبًا ومحسنًا عندما كان أميرا.
من الصعوبة بمكان معرفة ما الذي جعله يُحسن لنا، ربّما لأنّه كان شعبيًا ”كل هلقدّه“، ولم يترفّع كالمتوقّع من شخص يحمِل لقب أمير أو ملك. احترمه معظم الناس وقدّروه جدّا. وكان أكثر من ذلك من وقّروه وبجّلوه. لم يعرف لا التكبّر ولا التغطرس. كلّ من ابتغى لقاءه استُقبل على الرَّحْب والسَعة، وفي أغلب الحالات لبّى له الملك التماسه. أَظنّ أنّ علاقته الطيّبة مع طائفتنا، بدأت تُثمر في أواخر أربعينات القرن العشرين، حين شكّل السامريون وفدًا للملك عبد الله، الذي أتى لزيارة بلدة الشونه بجانب مدينة أريحا [المقصود الشونة الجنوبية، إذ هناك شونة جنوبية في محافظة إربد، شونه لفظة تركية معناها مخزن]. استمع الملك بأسف عن وضع الطائفة العصيب جدًّا، ووعد بتقديم أفضل دعم ملكيّ. هذه العلاقة الطيّبة مع السامريين، أورثها لحفيده الحُسين، الذي يواصل في هذا التقليد، تقديم المساعدة وإقامة علاقات متعاطفة مع أبناء الطائفة في نابلس.
استقبال الملك عبد الله
إنّ موضوع القصّة، لا يدور حول الملك حُسين، بل حول جدّه عبد الله. هل حكيت لكم أنّه كان ملكًا شعبيًا، أم لا؟ إسمعوا إذن، هذه قصّة ما سمعتُها من الآخرين، بل هي عن حادث عاينته بأمّ عينيّ. ذات مرّة في أربعينات القرن الماضي، دعا سادة نابلس الملكَ عبد الله لزيارة مدينتهم زيارة رسمية. أذكر أنّهم زيّنوا كلّ المدينة على شرفه. لم تعرف نابلس احتفالًا كذاك منذ قرون. في المكان الذي تقوم عليه مكتبة المدينة الراهنةُ، المنشية، عملوا جاهدين في تحضير الوليمة الكبرى على شرف الملك. وصل الملك عبد الله على رأس حاشية كبيرة، شمَلت وزراءه ورؤساء جيشه، كما وحضر رؤساء الجيش البريطاني في الأردن أيضا، وبرز فيهم غلوب باشا الشهير [Sir John Bagot Glubb، جون باغوت غلوب الملقّب بأبي حنيك، ١٨٩٧-١٩٨٦، قاد جيش الأردن ١٩٣٩-١٩٥٦].
باحة المنشية مشيّدة بشكل قوسين ضخمين، متّصلين الواحد بالآخر، ويشكّلان دائرة كبيرة و”دُحش“ فيها كل وجهاء مدينة نابلس، رئيسها سليمان النابلسي، أعضاء البلدية ورؤساء الحمائل. كما كان في مَعِيّة الأفاضل كاهنُنا الأكبر، المرحوم ناجي بن خضر (أبيشع بن فنحاس) والكاهنان الشقيقان، عمران (عمرم) وصدقة، ابنا الكاهن الأكبر إسحق، لعلاقاتهما المتشعّبة مع شخصيات نابلس. كان لي صديقان من عائلة كنعان النابلسية، نزيه وتيسير، وبفضل مكانتهما تمكّنت وبنحو خاصّ جدّا، أن أقف معهما بجانب الدرابزين، حيث كان من الممكن الإشراف بدون عائق، على المكان الذي جلس فيه الملك عبد الله وحاشيته.
الوليمة الكبيرة
مثاليًا كان النظام. فُرشت السجاجيد السميكة على المصطبة الرحبة. الملك كان يمتعض من أساليب التأثيث الغربية، ولذلك أقام وجهاء نابلس الذين عرفوا ذلك، صفًّا طويلًا من المساند وعشرات الوسائد التي قعد عليها باسترخاء الملك عبد الله ومرافقوه. منظر قائم بذاته، كان الموقد الكبير الذي أُعدّ للملك، أقيم أمام المتحلّقين في آخر الصفّ الطويل المخصّص للوجهاء ورؤساء البلدات المجاورة، ومخاتير قرى كثيرة في محيط نابلس. كلّ واحد منهم كان يتقدّم ويقف بين يدي الملك، يقوم رئيس بلدية نابلس بتعريف الملك به، والمتقدّم يُقبّل يد الملك منحنيًا إنحناءة كبيرة. ثمّ عانقه الملك بحركة تنمّ عن البركة. كلّ هذه المراسم، كانت بمثابة إعلان ولاء مُجدّد، وهذا أثلج صدر الملك عبد الله.
بعد الانتهاء من مرحلة المعانقات الرسمية وتقبيل اليد، رجع الملك ومرافقوه إلى الوسائد الوثيرة. وكان ذلك أَمارة لافتتاح الوليمة الكبيرة. أُحضرت صوان نحاسية كبيرة محمّلة بكم هائل من سلَطات متنوّعة. هذه الصواني كانت صغيرة، مقارنة بالصواني الضخمة، أو بالأحرى ”سدورة“ النحاس التي وُضع على كلّ واحد منها، خروف كامل مشويٌ جيدًّا، مملوء بخليط من الأرز والصنوبر، ورائحته تضوّعت بعيدا.
من البدهي أنّني، كوني ابنًا للطائفة الإسرائيلية السامرية، لم ينشرح صدري عند رؤية ذلك، ولكن هذا شأن آخر. أكبر خروف وُضع أمام الملك، في حين أنّ ثلاثين خروفًا آخر كل منها أصغر منه، وُضعت على امتداد القوسين، مقابلَ أعين مئات المدعوّين المشرقة. وعلى أطراف الصواني المحمّلة بالخِرفان المحشية، وحولَها تلال من الأرز، وُضعت عشرات الملاعق ليستعملها الضيوف، كما هي الحال عند أهل المدينة، فقرون قد ولّت منذ أن جلس آباؤهم في خيام العرب في الصحراء. انتظر الجميع إشارة البدء في الوليمة، وكانت بالطبع من طرف الملك عبد الله نفسه.
راحة الملك
إنحنى النابلسي، رئيس بلدية نابلس، التقط مِلعقة مذهّبة وقدّمها للملك. أكثر من ألف عين واكبت ذلك، ردّ الملك عبد الله يد رئيس البلدية الممدودة. مال الملك نحو الخروف المشويّ، دسّ يده في الأرز والصنوبر، ملأ كفّه، كوّر الأرز بشكل كرة صغيرة، والتقمها. أعاد الكرّة ثانية كما في الأولى. واكب رئيس البلدية الملكَ عبد الله مبهورا، إلا أنّه سُرْعان ما استعاد جأشه، أسقط المِلعقة من يده وقلّد فِعل الملك. قام بنفس الشيء مئاتُ المدعوّين خَشية من إغاظة الملك. دفعة واحدة، سُمع صوت خشخشة عالٍ صادرٌ عن مئات الملاعق. حطّ المدعوّون الملاعق على الصواني، مقلّدين طريقة أكل الملك ورئيس البلدية. انطلقت هُتافات ونداءات لحياة الملك عبد الله. قهقه الملك وسُرْعان ما ضحك الجميع. الاستقبال كُلّل بنجاح تامّ.
في خِتام الوليمة وسلسلة التجشؤات، التي تنمّ عن الرضا، مال الملك ليستمع لأحاديث وجهاء بجواره. ثم سُرْعان ما جذبت انتباهَه ملامحُ وجه رئيس البلدية. النابلسي لم يشترك في ضحك أفراد حاشية الملك عبد الله، والحقّ يقال أنّّه بدا حزينا. ”لماذا أنت كئيب“؟ سأل الملك رئيس بلدية نابلس، ”هل ذلك بسبب رفضي المِلعقة التي حاولت تقديمها لي“؟ ”من أنا وما أنا يا ملكي لتنتبه لعبد حقير مثلي“؟ أجاب رئيس البلدية. ”ولكن لا بشاشةَ على وجه“، قال الملك عبد الله، ”قل لي ما يُضايقك“؟ ”لا يغتاظ عليّ جلالة الملك، ولكن أسألك فقط“، قال النابلسي بصوت خنوع، ”لماذا رفض جلالته المعظّم أن يأكل بالملعقة التي مددتها له وآثر الأكل براحته“؟ واكب المتجمّعون الحوار بتأهّب وهم يخشون أنّ شرًّا سينزل برئيس البلدية، على ما صدر منه من وقاحة، في رأي الكثيرين منهم. لم يبدُ الملك غاضبًا من استفسار رئيس بلدية نابلس. بالعكس، بدأ بالضحك بصوت عالٍ، إلى أن انضمّ إليه كلّ الحاضرين في المنشية، ينظر الواحد إلى الآخر، وجميعهم مستغربون في الوقت ذاته، ما سبب ضحك الملك. عندما خفت صوت الضحك الأخير قال الملك عبد الله لرئيس البلدية ”إعلم أنّني ابن ملوك الصحراء، وأمقُت كلّ تعاليم الإفرنج الحديثة. ولم آكل بالملعقة التي تلِج أفواهًا كثيرة ”كل هلقدّه“، في حين أن راحتي تدخل فمي فقط“؟
جرّت إجابة الملك صيحاتٍ عاليةً من التأييد من قبِل كلّ المجتمعين. قام الملك ومعه مرافقوه، ودّع مضيفيه بعناقات متكرّرة وقفل عائدًا إلى عمّان. أتفهمون الآن، إلى أيّ حدّ، كان الملك عبد الله شعبيًا؟“