ككلّ صباح من الصّباحات الموشاة برائحة العشب والغيم وزقزقة العصافير وهديل الحمام ووشوشة الأطفال وشغبهم في الأزقة المتربة والحارات الفسيحة ووحشة الشتاءات المعلقة خلف زفير الأيام المتشابهة كأسنان المشط وشقشقة نسائم الصمت والفراغ والعزلة والتيه كنت أراه خلف صفصافة هرمة قرب ركبة بيته مطلا على حوش حاييم الذي لم يسكنه أحد بعد أن تركه مالكه الأصلي حاييم الذي غادر هو ومن معه من الطائفة اليهودية إلى باريس فجر الإستقلال وحل محله لفيف من الجن إستولى عليه عنوة مفترشا سجادة من جلد الماشية وأمامه إبريق الشاي وغرافا من الماء لم أشأ الإقتراب منه ولا فكرت مجرد التفكير ولو للحظة واحدة في إقتحام عزلته والصمت الذي ران عليه منذ أن "وهن عظمه وإشتعل الرأس شيبا" لولا انه ناداني في صباح يوم غائم سائلا عني وعن شؤوني وأحوال البلد ..كان على علم أني صديق إبنه الوحيد عبد العزيز منذ أن جئنا إلى الدنيا معا في سنة واحدة وشهر واحد ويوم واحد ومرحنا معا ولعبنا معا وتشابكنا معا قال لي بصوته الخائر الواهن كصوت جدي عند ما كان على أهبة الإستعداد لمغادرة الحياة متأثرا بداء السكر الذي قضى عليه قضاء مبرما (إتهلاو في رواحكم يا بني ) فلقد تعبنا كثيرا من أجل أن نراكم رجالا ولم أنتبه لحبات من الدموع كانت تهطل مدرارا من مآقي عينيه منعه كبرياؤه من مسح آثارها بأطراف منديل كان بين يديه سارعت إلى تهدئته والحنو عليه كأب فقد السيطرة على عواطفه ..كنت أشعر أني أمام طفل صغير إفتك منه ثدي أمه بالقوة أو لحظة شغب مسروقة من زمنه ووقته الذي لا مكان فيه للنهي أو الترهيب …وضعت يدي على جبينه فوجدته حاميا لاهبا رغم برودة الطقس نسبيا ولم أشعر إلا وأنا أستمع له مشدوها ساهيا مقيما في قلب الحكاية وجرسها …
قبل عبد العزيز يا و"دادي" كانت السنوات التي مرت بي رتيبة مملة لا طعم فيها للحياة إرتبطت بأربعة نساء كلهن غادرن أرضي وحوضي دون نتيجة تذكر أو مجرد صوت صبي يلهوا بيننا كأنني أنا سبب عقمهن قيل لي بعد أن إرتبطت بعمتك الجازية توضأ من ماء الغدير قبل الفجر ثم رتل الفاتحة وسورة مريم مائة وخمسين مرة و توكل على الله فعلت ذلك لمدة أربعين يوما دون ملل أو سهو قرب ضريح سيدي عبد العزيز الحاج وعندما جاء الفرج وجاء الذكر التي تمنيته طويلا سميته عبد العزيز تبركا بإسم ذلك الولي الصالح الذي وجد نفسه وحيدا في الخلاء لا أنيس له سوى حجرة صماء يبثها شكواه والألم النازف فيه ..الموكب الذي كان يحاول اللحاق به غادر براري" الشارف" صوب البقاع …كم ذرف الشيخ من الدموع وهو وحيد يتوسد تلك الحجرة الصماء ..نأت المراكب عنه وهولازال يذرف دموع الحسرة للذي ضاع منه لعل جنا أو طيرا تحسس دبيب محنته والحلم الذي عشش فيه ..ليس من عادة الحجر أن يطيرولا جناح له فالذين أطعمهم عندما جفت الأرض وخانتها السماء ولم يجدوا ما يسد الرمق مما أستودعه في سنوات عمره المنقضي من قمح وشعير ومؤونة أسفل الحفرة العميقة وراء الحجرة التي تتوسط شغاف القلب زعموا أنهم رأوه ما بين الطواف قرب الكعبة فلماذا ننكر على هذه الحجرة الكريمة أنها سمعت أنينه ثم طارت به كما لم تفعل من قبل… ؟ كانوا بالعشرات بل بالمئات ممن غادروا وهاد بلدتنا والبلدات المجاورة لها عبر الإبل التي كانت تبصم بحوافرها أديم الأرض وتربتها المتشققة ..دامت الرحلة أياما بل أشهرا وعندما عادوا قالوا أنهم قد رأوه هناك رأي العين كما لو كان معهم أو خلفهم أو أمامهم .. كيف حدث .ذلك .. ؟ قيل أن الطير الذي تحسس دبيب محنته قال أن روحه التي "أطعمتهم من جوع وآمنتهم من خوف " هي التي رأوها هناك أو تجلت لهم وما كذبوا أو خيل إليهم …كنا أطفالا نمرح بجوار الحجرة الصماء المقدسة وكان الكبار يطلبون منا أن نقبل جبين الحجر ونردد إسمه العزيز المبارك مبتعدين قدر الإمكان عن العبث واللهو قريبا من حوافي الحجرة وبلاطها الأملس ..لم نستغرب أبدا ما سمعناه عنه من كرامات وصلت حد الحلول الصوفي بعض الرجال كانوا يقولون أن هذا الشيخ الذي ينام خلف هذا المزار والذي تنبجس منه ذرية صالحة كان الأخ الشقيق لسيدي بوزيد إفترقا بجوار الفيافي المنسية خلف براري الشارف قال الأول للثاني " ريح من عندي وريح من عندك ونعمرو هذا البر الخالي " .. أعطينا أرجلنا للريح بسرعة فائقة …الوجهة كانت خلوة الشيخ الآمنة وجدت نفسي فجأة أمامه … ناولني قليلا من التمر وكأس حليب سال لتوه من ضرع عنزة في مرعى خصيب بينما خارج الخلوة كانت تمتد أمام لمح البصر غابات كثيفة من أشجار النخيل الباسقة المتطاولة عنان السماء خيل إلي أني في بغداد أو بسكرة ولست في الشارف كنت أمام كتاب مفتوح من كتب التاريخ المنسية ..إستغربت عندما رأيت كل كراماته الصوفية وعناقيد البركة تتجلى أمام بصري بكل علاماتها الضوئية المزيلة لأسئلة الشك والتردد التي طالما أسرتني وحالت بيني وبين أن أراه في ملكوته وفي معراج أوبته ماثلا لي هاربا من سطوة الغيب ..كنت تحت تأثير الخوف و"فوبيا " التردد والشك لم يتجاهل وجودي أبدا طالبا منه العون والبركة ولا أنا تجاهلت رؤياه والنور الذي رفرف في محرابه وكل التفاصيل المعروضة للنزهة والفرجة والذهول رأيته يصر إصرراه المحموم على أن أردد معه بعض الأوراد والتسابيح الشجية في سبك لغوي وإنشاد ساحر يخرج من شفتيه موشحا بشآبيب الرحمة والإجلال لكن ثمة أوراد أخرى لم أتمكن من حفظها أو ترديدها قال لي بصوته الهادئ الحنون ستتعود عليها مع الوقت وكنت أستغرب من أين له بكل هذه الأوراد المتداخلة الغامضة في لغتها وفي تراكيبها ومصادرها الشرقية الضاربة في أعماق التاريخ وعندما إنصرفت متوجها إلى بيتنا الواهن كبيت العنكبوت وللقرية المجاورة لمزار الشيخ ومقامه على ظهر حمار أشهب رج أذني إيقاع صوت شبح لم أتبين مصدره ولا ماذا يريد مني كان الراوي يريد الإنصراف بعد أن بدأ التعب يتسلل إليه لم أتبين من مصدر الشبح سوى قوله " يا شيخي الجليل بيني وبينك بحر من الظلمات فلا أنا أستطيع التجلي فيك ولا أنت تجيئني في غسق الليل " كان صوت الشبح قريب مني .. أردت الهروب منه أو نسيانه ثم سرعان ما رحت أبحث عن راوي الحكاية و ظلال الشيخ الجليل والتراتيل الآتية من أعماق الجبال والأحراش والسهوب العارية وتجاويف التربة التي سقتها دموع السماء على إيقاع رقرقة غدير الماء فتشع منها قناديل الشيخ ووميض رؤياه بين كتبي والأوراق المتناثرة من مخطوطات قديمة مكتوبة بأحرف الدواة المستخلصة من سمغ حريق الصوف المبلل بقليل من الماء أثناء ذلك دمدم صوت "نائلة " مرسلا صدى أغنية " يا أهل الشارف غيثوني جدكم راه متين // جدكم حج على حجرة طار بلا جنحين"* فبقيت وحدي أرصع مقام الذاكرة بما إستقر في وجداني من أثر الحكاية
*مقطع أغنية من التراث النائلي
ــــــــــــــــــــــــــ
*قاص وناقد من الجزائر
قبل عبد العزيز يا و"دادي" كانت السنوات التي مرت بي رتيبة مملة لا طعم فيها للحياة إرتبطت بأربعة نساء كلهن غادرن أرضي وحوضي دون نتيجة تذكر أو مجرد صوت صبي يلهوا بيننا كأنني أنا سبب عقمهن قيل لي بعد أن إرتبطت بعمتك الجازية توضأ من ماء الغدير قبل الفجر ثم رتل الفاتحة وسورة مريم مائة وخمسين مرة و توكل على الله فعلت ذلك لمدة أربعين يوما دون ملل أو سهو قرب ضريح سيدي عبد العزيز الحاج وعندما جاء الفرج وجاء الذكر التي تمنيته طويلا سميته عبد العزيز تبركا بإسم ذلك الولي الصالح الذي وجد نفسه وحيدا في الخلاء لا أنيس له سوى حجرة صماء يبثها شكواه والألم النازف فيه ..الموكب الذي كان يحاول اللحاق به غادر براري" الشارف" صوب البقاع …كم ذرف الشيخ من الدموع وهو وحيد يتوسد تلك الحجرة الصماء ..نأت المراكب عنه وهولازال يذرف دموع الحسرة للذي ضاع منه لعل جنا أو طيرا تحسس دبيب محنته والحلم الذي عشش فيه ..ليس من عادة الحجر أن يطيرولا جناح له فالذين أطعمهم عندما جفت الأرض وخانتها السماء ولم يجدوا ما يسد الرمق مما أستودعه في سنوات عمره المنقضي من قمح وشعير ومؤونة أسفل الحفرة العميقة وراء الحجرة التي تتوسط شغاف القلب زعموا أنهم رأوه ما بين الطواف قرب الكعبة فلماذا ننكر على هذه الحجرة الكريمة أنها سمعت أنينه ثم طارت به كما لم تفعل من قبل… ؟ كانوا بالعشرات بل بالمئات ممن غادروا وهاد بلدتنا والبلدات المجاورة لها عبر الإبل التي كانت تبصم بحوافرها أديم الأرض وتربتها المتشققة ..دامت الرحلة أياما بل أشهرا وعندما عادوا قالوا أنهم قد رأوه هناك رأي العين كما لو كان معهم أو خلفهم أو أمامهم .. كيف حدث .ذلك .. ؟ قيل أن الطير الذي تحسس دبيب محنته قال أن روحه التي "أطعمتهم من جوع وآمنتهم من خوف " هي التي رأوها هناك أو تجلت لهم وما كذبوا أو خيل إليهم …كنا أطفالا نمرح بجوار الحجرة الصماء المقدسة وكان الكبار يطلبون منا أن نقبل جبين الحجر ونردد إسمه العزيز المبارك مبتعدين قدر الإمكان عن العبث واللهو قريبا من حوافي الحجرة وبلاطها الأملس ..لم نستغرب أبدا ما سمعناه عنه من كرامات وصلت حد الحلول الصوفي بعض الرجال كانوا يقولون أن هذا الشيخ الذي ينام خلف هذا المزار والذي تنبجس منه ذرية صالحة كان الأخ الشقيق لسيدي بوزيد إفترقا بجوار الفيافي المنسية خلف براري الشارف قال الأول للثاني " ريح من عندي وريح من عندك ونعمرو هذا البر الخالي " .. أعطينا أرجلنا للريح بسرعة فائقة …الوجهة كانت خلوة الشيخ الآمنة وجدت نفسي فجأة أمامه … ناولني قليلا من التمر وكأس حليب سال لتوه من ضرع عنزة في مرعى خصيب بينما خارج الخلوة كانت تمتد أمام لمح البصر غابات كثيفة من أشجار النخيل الباسقة المتطاولة عنان السماء خيل إلي أني في بغداد أو بسكرة ولست في الشارف كنت أمام كتاب مفتوح من كتب التاريخ المنسية ..إستغربت عندما رأيت كل كراماته الصوفية وعناقيد البركة تتجلى أمام بصري بكل علاماتها الضوئية المزيلة لأسئلة الشك والتردد التي طالما أسرتني وحالت بيني وبين أن أراه في ملكوته وفي معراج أوبته ماثلا لي هاربا من سطوة الغيب ..كنت تحت تأثير الخوف و"فوبيا " التردد والشك لم يتجاهل وجودي أبدا طالبا منه العون والبركة ولا أنا تجاهلت رؤياه والنور الذي رفرف في محرابه وكل التفاصيل المعروضة للنزهة والفرجة والذهول رأيته يصر إصرراه المحموم على أن أردد معه بعض الأوراد والتسابيح الشجية في سبك لغوي وإنشاد ساحر يخرج من شفتيه موشحا بشآبيب الرحمة والإجلال لكن ثمة أوراد أخرى لم أتمكن من حفظها أو ترديدها قال لي بصوته الهادئ الحنون ستتعود عليها مع الوقت وكنت أستغرب من أين له بكل هذه الأوراد المتداخلة الغامضة في لغتها وفي تراكيبها ومصادرها الشرقية الضاربة في أعماق التاريخ وعندما إنصرفت متوجها إلى بيتنا الواهن كبيت العنكبوت وللقرية المجاورة لمزار الشيخ ومقامه على ظهر حمار أشهب رج أذني إيقاع صوت شبح لم أتبين مصدره ولا ماذا يريد مني كان الراوي يريد الإنصراف بعد أن بدأ التعب يتسلل إليه لم أتبين من مصدر الشبح سوى قوله " يا شيخي الجليل بيني وبينك بحر من الظلمات فلا أنا أستطيع التجلي فيك ولا أنت تجيئني في غسق الليل " كان صوت الشبح قريب مني .. أردت الهروب منه أو نسيانه ثم سرعان ما رحت أبحث عن راوي الحكاية و ظلال الشيخ الجليل والتراتيل الآتية من أعماق الجبال والأحراش والسهوب العارية وتجاويف التربة التي سقتها دموع السماء على إيقاع رقرقة غدير الماء فتشع منها قناديل الشيخ ووميض رؤياه بين كتبي والأوراق المتناثرة من مخطوطات قديمة مكتوبة بأحرف الدواة المستخلصة من سمغ حريق الصوف المبلل بقليل من الماء أثناء ذلك دمدم صوت "نائلة " مرسلا صدى أغنية " يا أهل الشارف غيثوني جدكم راه متين // جدكم حج على حجرة طار بلا جنحين"* فبقيت وحدي أرصع مقام الذاكرة بما إستقر في وجداني من أثر الحكاية
*مقطع أغنية من التراث النائلي
ــــــــــــــــــــــــــ
*قاص وناقد من الجزائر