عبد الوهاب الفقيه رمضان - إنقاذ الصحافة الورقية وهي تحتضر

ماذا لو أن مؤسسة صحافية قدمت مادتها في ألواح من الطين ؟ ماذا لو أن مؤسسة صحافية قدمت مادتها في أوراق البردي ؟ ماذا لو أن مؤسسة صحافية قدمت مادتها في قراطيس ؟ إنها مراحل مرت بها الإنسانية في تقديم ما انتجه فكرها مكتوبا في حقب مختلفة من التاريخ .
ألواح الطين عرفناها ، فهي المحمل الذي استعمله السومريون ومن عاصرهم ، أوراق البردي عرفناها فهي المحمل الذي استعمله الفراعنة ، وما التسمية الفرنسية papier إلا اقتباسا من اللفظ الإغريقي papyrus ومعناه نبتة البردي الذي تعالج لتصبح صالحة للكتابة . أما القراطيس فهي شيء طوته الذاكرة عمدا حتى تطمس كل حضارة كانت لدى العرب قبل مجيئ الإسلام ، ولو قامت الدراسات على المنهج الذي وضعه طه حسين سنة 1926 لكان الحال غير الحال . جاء في سورة الأنعام : "وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ ۗ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَىٰ نُورًا وَهُدًى لِّلنَّاسِ ۖ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا ۖ وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُوا أَنتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ ۖ قُلِ اللَّهُ ۖ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)" لم يأخذ لفظ قراطيس / قرطاس حظه لا إيتيمولوجيا ولا لغويا ولا تكنولوجيا بتنزيله حسب كل عصر طبعا . فباستعمال القرآن في منطقه الداخلي علم الإنسان كان وحيا أو إلهاما إلهيا أو أي شيء في معنييهما ، خلق الإنسان قادرا على الشفاهة والكتابة معا ، فالشفاهة في سورة البقرة "وعلم آدم الأسماء كلها" والكتابة في سورة اقرآ "علم بالقلم" والتعليم بالقلم لا يكون إلا كتابة ، وهذه القراءة تلغي المعنى "ما قبل التاريخ" أي ما قبل الكتابة إذ خلق الإنسان أول ما خلق كاتبا ، له أدوات الكتابة وله محملها . لكن في كل عصر ومصر عدد الكاتبين / القارئين دوما عدد محدود لأن تعليم الكتابة غير تعليم الشفاهة . فالشفاهة تُتعلم آليا تلقائيا عن طريق السماع وللإنسان قدرة على استيعاب هذا التعلم أسرع وأيسر وأكثر آلية من تعلمه الكتابة .
لكن هذه الكتابة إذا كانت قد وجدت منذ وجود آدم فأين آثارها ؟ سؤال وجيه ، والإجابة عنه على غاية من اليسر والبساطة . أليست الكتابة على مواد عضوية ؟ والمادة العضوية إلى زوال إذا طال الأمد . إذا كانت العظام قد صارت ترابا فكيف التصور بأن المحمل العضوي للكتابة سيصمد ؟ إن محمل قانون حمورابي مسلة من حجر الديوريت الأسود بطول 2.25 متر وهي موجودة حاليا بمتحف اللوفر في باريس . هل لعاقل في زمننا أن يتصور التلاميذ والتجار والكتاب والصحافيين والسياسيين وحتى العامة يتخذون حجر الديوريت محملا لكتاباتهم . إن من ولد في منتصف القرن الماضي مر بعدة مراحل في الكتابة ، وهو نسق غير متناسب في سرعته الخيالية مع نسق التطور في الزمن الغابر . في الكُتَّابِ استعمل قلم القصب والمداد ولوحة الخشب والطين لمحو ما حفظه من القرآن ليكتب ما يليه . في المدرسة العصرية استعمل الحبر والريشة ، ثم قلم الحبر ولعل أشهر ماركة وقتها واترمان ، ثم استعمل القلم الجاف . واليوم كل شيء الكتروني ، الحبر ولوحة المفاتيح والشاشة ، والتخزين ، عوض القرص الصلب والقرص الليزري بنوعيه سيدي وديفيدي والفلاشا ، كل هذه عوضت الأوراق والكراسات والكتب والسجلات بمختلف أنواعها . الأمم الحية تمكن تلامذتها منذ المرحلة الابتدائية باستعمال الكمبيوتر لكل تلميذ واستعمال السبورة التفاعلية بالنسبة للمعلم . ونحن مازلنا نمنع تلميذ البكالوريا من استعمال الحاسبة الالكترونية . إن استشراف المستقبل والإعداد له يستوجب منا تمكين التلميذ من كل الوسائل الالكترونية ومن كل الوسائل المعلوماتية حتى في الاختبار . أجل يتاح له استعمال الانترنت وهو يجيب عن أسئلة الامتحان . ليس صحيحا أن المعلومة جاهزة لكل من هب ودب ، إنما اقتناص المعلومة وتوظيفها توظيفا سليما يعد مهارة ومرقى من مراقي المعرفة . فاليوم لم يعد الطالب يتعلم العلم بل أصبح التعليم الناجح والناجع هو تعليم المتعلم كيف يتعلم . إن منع الكمبيوتر عن الطالب في الدرس وفي الاختبار كالحكم عليه أن يقطع مسافة من الكيلومترات مشيا على القدمين عوض استعمال وسيلة من وسائل النقل ولو كانت دراجة . حرمان التلميذ من استعمال اكسل مثلا كما لو فُرض عليه حمل ثقل عوض جره بالعجلات . صفحة واحدة من صفحات اكسل قادرة على جمع كل المعلومات عن دولة من الدول . الخانات العمودية في الصفحة الواحدة 1048576 والخانات الأفقية 16384 والمجموع 17179869184 . مع الآليات في العمليات الحسابية الأربع وآليات البحث واستحضار المعلومة المصلوب في هذا الكم من الخانات . لماذا هذا الإصرار على القديم ؟ ولماذا كل هذا العداء ضد كل جديد ؟ استعمال الجديد ليس ترفا ولا ميلا للأرستقراطية ولا علاقة لها لا من قريب ولا من بعيد بكل معنى من معاني الطبقية . ترك القديم واستعاضته بالجديد حتمية لا مفر منها كترك الطعام القديم لصالح الطعام الجديد . لو أن شخصا له هاتف جوال ضاع منه فعوضه بهاتف جديد ورقم جديد ، كل متصل يستعمل الرقم القديم حكمه حكم من لم يتصل . تلك هي الصيرورة والسيرورة بين القديم والجديد.
إنتاج الكتابة احتاج على مر العصور تكنولوجيات كل منها ملائمة لعصرها، وفي الحضارة العربية كانت هذه الصناعة تسمى الوِراقة والمشتغل فيها يسمى ورّاقا : ومن أشهر الوراقين العرب أبو الحسن علي بن المغيرة الأثرم (توفي 232 هـ) – أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر طيفور (توفي 280 هـ) – أبو زكريا يحيى بن عدي بن زكرياء المنطقي (توفي 364 هـ) – أبو الفرج محمد بن إسحق النديم صاحب الفهرس (توفي 384 هـ) – أبو الحسين الوراق (توفي 319 هـ) وغيرهم كثير ، ولعله ليس من الأناقة الأدبية المرور دون ذكر ثمرات الأوراق لابن حجة الحموي وقصة حذاء الطنبوري فيه .
إلى جانب الوراقة كانت صناعة الخط ، ولعله ليس مبالغة القول بأن ابن مقلة هو أستاذ الأساتذة في هذا الفن ، لكن استبداد الحاكم العربي دوما كان حاضرا لإفساد كل جميل . ولابن مقلة رسالة في الخط والقلم . صنفها وحققها هلال ناجي صدرت كتابا عن سلسلة خزانة التراث بعنوان : ابن مقلة خطاطا وأديبا وإنسانا مع تحقيق في رسالته في الخط والقلم . النسخة التي تيسر الاطلاع عليها هي الطبعة الأولى في 165 صفحة ، طباعة ونشر دار الشؤون الثقافية العامة – بغداد 1991 . أما ذكر إفساد ملوك الاستبداد كل شيء جميل متعلق بالتنكيل ، إذ قطعت يده وما قاله يغني عن كل قول : "يد خدمتُ بها الخلافة ثلاث دفعات لثلاثة خلفاء وكتبتُ بها القرآن دفعتين تُقطع كما تُقطع يد اللصوص ؟" واهتز لهذا المصاب أبو بكر الصولي فقال :
لئن قطعوا يمنى يديه لخوفهم = لأقلامه لا للسيوف الصــــــــوارم
فما قطعوا رأيا إذا ما أجالــه = رأيت المنايا في اللِّحى والغلاصم
وكأنما قطع اليد لم يشبع السادية لدى الحاكم فقطع لسانه .
بعد الوراقة حلت الطباعة ، ومراحلها عديدة ، من المطبعة الحجرية إلى قوالب الرصاص ، فأوفسيت فالليزرية ، واليوم أصبح من المتيسر للإنسان العادي امتلاك مطبعة بمواصفات وبثمن معقول لم تتيسر لدور نشر كبيرة في القرن الماضي وما سبقه . وأصبح الكاتب ينتج نصا بحروف مطبعية بالخط الذي يختاره .
هل في عصر يوفر كل هذه التكنولوجيا للكتابة وللحصول على المعرفة فكل مكتبات الدنيا وكل وكالات الأخبار تتواجد معه حيثما وجد كالهواء الذي يتنفسه ، يكفي أن يمتلك كمبيوترا وكهرباء وخطا هاتفيا وخطا انترنت . هل لعاقل أن يجبر عاقلا على انتظار الصباح لقراءة أخبار سبق له أن اطلع عليها قبل أن ينام في ليلته ؟
كل المؤسسات الصحفية في العالم تشتكي من انحدار المبيعات من صحفها ، كل دور النشر في العالم تشتكي في أنه قل الإقبال على بضاعتهم . يذكرني هذا الأمر بندوة احتفالية حضرتها ذات صيف بالبرج الفاطمي بالمهدية : كانت المناسبة الاحتفاء بالكتاب ، كنت يومها نشازا إذ أعلنت للجميع أنني أصررت على الحضور لأنعى الكتاب الورقي . الغريب أن أحدا من الحاضرين لم يسمع الكلمتين معا "الكتاب الورقي" . كل الآذان اكتفت بسماع الكتاب . يذكرني بحدث آخر ، تحدثت عن التكنولوجيا النانوية في ندوة أخرى بنفس المدينة ، فأبت الآذان إلا سماع النووية . كثير من العامة وحتى الخاصة يتباكون على الكتاب ، كأن الكتاب الورقي باق ما بقي الإنسان .
كان حرفي ماهرا في صناعة حذوة الحصان ، وكون ثروة من صناعته ، يوم حلت الدراجة محل الخيل في التنقل حول ورشته إلى إصلاح الدراجات الهوائية ، حين كثر عدد الدراجات النارية صار ميكانيكيا يصلح الدراجات النارية ، اليوم يمتلك أكبر ورشة في ميكانيكا السيارات والشاحنات والجرارات . لو فعل المنشغلون بالصحافة ما فعله صانع حذوة الحصان فإنهم سيستمرون ، أما إذا أصروا أن يصنعوا حذوة حصان في زمن لا أحد يركب فيه حصانا فسيأتي يوم لا يبيعون فيه صحيفة واحدة . ما الحل ؟ الحل أن يقدم المحتوى في محمل يناسب العصر . أن توزع الصحيفة الكترونيا بصيغة (بي دي آف) مثلا . وحتى لا ينال القارئ صحيفته مجانا فيجوع الصحافي ثمة حلان ، إما أن تكون العلاقة بين المؤسسة ومقتني الصحيفة . أو أن تكون العلاقة بين المؤسسة الصحفية وشركة الانترنت . هي فكرة عامة ، وإجراءاتها العملية من اختصاص أهل الدراية .
وبذلك تصل الصحيفة لصاحبها وهو في بيته ، إما في علاقة مباشرة بينه وبين المؤسسة الصحفية ، بعقد تحدد شروطه وبثمن أقل طبعا . أو أن كل من يرغب في تنزيل الصحيفة ينزلها والعداد يشتغل ، وعلى عدد التنزيلات يُدفع للمؤسسة الصحفية بعقد بينها وبين مؤسسة الانترنت . وهكذا كما أن لا دولة من دول العالم اليوم تنشر قوانينها في عمود من حجر الديوريت كما فعل حمورابي قبل 3768 سنة ، فكذلك إذا أراد المشتغلون بالصحافة عدم الإفلاس ألا يقدموا بضاعتهم في محمل ورقي .


عبد الوهاب الفقيه رمضان
كاتب تونسي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى