بادرني لحظة أن دخل مكتبي وهو يحمل باهتمام وحرص شديد دفترا تحت ابطه، وكأنه يتم حديثا كنا بدأناه من قبل .
- على أي طاولة ينبغي لي أن أمسك بالمصيبة وان اشرّحها لأفهم المغزى .
حاولت ان افهم جاهدا ولمرات عديدة . لماذا هو يمنح نفسه هذا الحق في أن يقتحم مكتب المحاماة الذي اديره او أي مكان آخر اتواجد فيه ، ولماذا هو يفترض بأنه صديقي المقرب جدا او ربما الأوحد .
في آخر لقاء او اقتحام له بتعبير أدق ، حاولت ان اغير طريقتي في التعامل معه . فبدلا من مسايرته ومجاملته ، عمدت الى مناكفته حينا والتصرف معه ببرود وجفاء حينا آخر . لم يغضب مني وقتها .. بل خفض رأسه وانضغطت رقبته .. متخذا هيئة حيوان حزين مسكين . وقبل ان يغادر قال بصوت مجروح : غدا سأريك .
كانت اللهجة فيها تهديد مباغت فخزرته بنظرات حادة مستفهما . فأجاب بصوت حاول ان يسبغ عليه شيئا من القوة والثقة بالنفس لكنه رغم هذا خرج منكسرا وهو يردد
: غدا سأريك دفترا لم يره احدٌ من قبل .. وستطلع بنفسك على تفاصيل من سيرتي وآرائي في الفلسفة وعلم النفس والبراسيكولجيا.
ثم مضى مسرعا .. وقد اوصيت السكرتير ان يختلق له أي عذر حين يأتي غدا فلا يدخله مهما فعل .
لكن الغريب في الأمر انه لم يأت في اليوم التالي ومضت أيام عدة حتى نسيت انا الموضوع .. ويبدو ان السكرتير هو الآخر قد نسي .. او انه كان منشغلا بإعداد القهوة التي طلبت فغافله ودخل .
كانت ملامحه هذه المرة تشي بانفعال وتشنج قاس يفوق كل المرات التي سبقت . لم افهم سر هذا الانفعال ، رغم ان معرفتي به تمتد لخمس سنوات تقريبا هو عمر تحوله من زوج الى أرمل جاء وقتذاك ليوكلني في متابعة موضوع ارث من زوجته بوصفه الوريث الوحيد لأنه لم يكن له اولاد لنكتشف بعد ذلك ان زوجته لم تترك له أي ارث. نظرت اليه مليا .. ربما بطريقة مغايرة .. اشعرتني بالتعاطف معه كونه وحيدا وحزينا ويحاول ان يتشبث بأي شيء ، ليدفع عنه جور الوحدة وقسوتها التي اعرف طعم مرارتها ولكن بطريقة مختلفة .. كوني لم أتزوج وقد تجاوزت الاربعين . راودني سؤال في تلك اللحظة لم يخطر على بالي من قبل .. ترى هل انا اتعاطف معه لأنني في لا وعيي ادرك انني حين انظر اليه انما انظر الى صورتي في المرآة .. ولكن بعد ان اتقدم في العمر عقدا او عقدين .. هششت بيدي كمن يهش ذبابة وهمية ومعها هششت ذلك الهاجس الغريب . وابتسمت وأنا اتخيل ان صاحبي هذا قد نقل لي عدوى جنونه واضطرابه . ولكي استعيد توازني واستقراري الذهني قررت ان ابتعد عن النظر الى هوة ذلك البئر السحيق الذي يسمى باللاوعي .. وان اكرس تواصلي وتواشجي مع الواقع الذي اعيشه الآن واللحظة الحاضرة . وسريعا تسلسلت الافكار وتذكرت سؤاله عن الطاولة والمصيبة واسلوبه الي يكاد يكون سرياليا احيانا ، فحاولت أن أجاريه في عبثيته وأسئلته الغريبة .. فقلت له .
- على طاولة المطاولة .
نظر لي كالملذوع ثم صرخ .
- فيلسوف … نعم أنت فيلسوف ، وينبغي أن يدرك الآخرون مكانة آرائك في أمورهم .
غالبت ابتسامة كادت تفضحني أمام وجهه الذي إحمر وعيناه اللتان اتسعتا دون أن تفصحان عن معنى ما ، وخشيت أن يفضحني فمي الذي اتسع موشكا على الضحك فأخفيته بكفي ، وحاولت ان اسبغ على ملامحي مظهر الجد والتأثر بما يقول ، لكنه عاجلني بالكلام .
- هل تعرف ، كل مشاكل العالم يمكن حلها ببساطة ، بالنسبة لفيلسوف مثلك .
فتحت ملفا من ملفات القضايا القريبة من يدي وأمسكت القلم وبدأت ادون بعض الملاحظات من ملف القضية ، دون ان انسى رسم تقطيبة تليق بالمحامين حين ينغمسون في عملهم . لكنه وبدلا من أن يستأذن بالانصراف جلس على المقعد القريب ووضع ساقا فوق أخرى مواصلا حديثه .
- اسمع .. لقد خطرت لي فكرة ربما تكون مكملة لنظريتك ، ما رأيك لو أننا تخيلنا أن للمصيبة جسدا كي نـشّرحه ، ما رأيك بالضفدع مثلا .
رأيت وجهه يشرق بابتسامة طفل بالرغم من عمره الذي جاوز الستين ، وكأنه قد اكتشف النظرية النسبية مجددا ، تؤازره عيناه اللتان راحتا تتأرجحان وكأنهما تتابعان قفز الضفدع قبل اصطياده .
قلت: اختيارك للضفدع جاء في محله ولا سيما وانني قد قرأت مرة معلومة تقول ان الضفدع هو من بين الكائنات النادرة والقليلة جدا الوحيد الذي يستطيع ان يغير جنسه .
قال : ما لنا وللجنس الآن ؟
قلت مستعيرا شيئا من سرياليته او جنونه : كيف ؟.. فالمصيبة مؤنثة واذا ما حولناها الى صفة التذكير ستصبح (مصيب) .
قال وقد اشرقت ابتسامته العريضة مرة أخرى : نعم .. نعم .. اصبت .. (وضحك بطريقة من يضحك لنكتة لم يقلها بعد ثم اكمل بإشارة ذات مغزى) نعم نعم انت مصيب .
طريقته في الكلام جعلتني اتخيل شكل الضفدع ولزوجته فحاولت ان اغير من موجة استرساله على هذا المنوال فقلت .
- اقترح عليك استبدال الضفدع بالفراشة .
فز صاحبي من أحلام جنة أو جحيم ملئ بالضفادع ، فنظر إلي غير مصدق لما سمعته أذناه . قال :-
ــ رجاءً .. هلا أعدت عليّ القول .
ــ فراشة .
ــ ها … فراشة نعم فراشة .
ثم قام من مجلسه وقد احمر وجهه .. ولكي أكون دقيقا علي القول انه لم يقم بل نتر جسده بانتفاضة أرعبتني ، ثم أشار نحوي بيده متوعدا .
ــ أي فراشة ! … هل تسخر مني ؟
فكرت في تلك اللحظة ان اغتنم فرصة غضبه فاطرده .. لكني عدت واحجمت حين فكرت بالألم الذي سيصيبه جراء هذا الموقف المهين.. فهو رغم كل الجنون الذي يصيبه احيانا او يدعيه .. انسان طيب ونقي القلب في زمن ندر ان نرى من هو مثله . فقلت له معابثا .
ــ اسمع .. يا من ناوشته المصائب جميع أنواع اللكمات والركلات ، حتى صار جلده منيعا ونال حظوة امتلاك صولجان الهش في وجه المصائب بدرابة راع يهش في وجه قطيعه ، اسمع .. أنا لا اكره الضفادع ، ولكن هل تعلم ان عمر الفراشات على الأرض هو خمسون مليون سنة .. وان ما نشاهده من حشرات تشبه الفراشات هي في الحقيقة تدعى (ابو دقيق) لأن الفراشات الحقيقية لا تظهر في النهار .
عندها اشرق وجهه من جديد وصفق بيده هذه المرة ثم أشار بأصابعه إلي ، واخرج الأحرف من فمه بحس صائغ يتملى بتلمس ما صنعت يداه .
ــ عالم وفيلسوف .. نعم لن أخطئ هذه المرة ، أنت عالم وفيلسوف ، وسيكتب عنك التاريخ .
اعجبتني اللعبة .. واستفزني مدحه الزائف لي .. فعمدت الى المبالغة بالعبث معه . فقلت .
- لكن من أين سنجيء بفراشة حقيقية .. والفراشات التي نراها كل يوم زائفة .
مسح جبهته بظاهر كفه .. وبدا أكثر قلقا واضطرابا من السابق .. نظر الي بحيرة وكأنه طفل يبحث عن جواب لدى والده الذي يصغره بعقدين .
- اقترح ان نعود للضفادع فهي متوفرة . ثم اني لا أحب الفراشات الميتة لأنها تذكرني بدفتر التحنيط .
وأشرت الى الدفتر الذي كان قد وضعه أمامه على الطاولة الصغيرة .. بطريقة موحية .. مذكرا اياه بوعده لي في ان يطلعني على كتاباته .
لكنه بدلا من ذلك قام بعصبية من مكانه ووضع الدفتر مرة أخرى تحت ابطه وهو يضغط عليه بقوة .. ثم خرج دون ان يودعني .
عام 1999
- على أي طاولة ينبغي لي أن أمسك بالمصيبة وان اشرّحها لأفهم المغزى .
حاولت ان افهم جاهدا ولمرات عديدة . لماذا هو يمنح نفسه هذا الحق في أن يقتحم مكتب المحاماة الذي اديره او أي مكان آخر اتواجد فيه ، ولماذا هو يفترض بأنه صديقي المقرب جدا او ربما الأوحد .
في آخر لقاء او اقتحام له بتعبير أدق ، حاولت ان اغير طريقتي في التعامل معه . فبدلا من مسايرته ومجاملته ، عمدت الى مناكفته حينا والتصرف معه ببرود وجفاء حينا آخر . لم يغضب مني وقتها .. بل خفض رأسه وانضغطت رقبته .. متخذا هيئة حيوان حزين مسكين . وقبل ان يغادر قال بصوت مجروح : غدا سأريك .
كانت اللهجة فيها تهديد مباغت فخزرته بنظرات حادة مستفهما . فأجاب بصوت حاول ان يسبغ عليه شيئا من القوة والثقة بالنفس لكنه رغم هذا خرج منكسرا وهو يردد
: غدا سأريك دفترا لم يره احدٌ من قبل .. وستطلع بنفسك على تفاصيل من سيرتي وآرائي في الفلسفة وعلم النفس والبراسيكولجيا.
ثم مضى مسرعا .. وقد اوصيت السكرتير ان يختلق له أي عذر حين يأتي غدا فلا يدخله مهما فعل .
لكن الغريب في الأمر انه لم يأت في اليوم التالي ومضت أيام عدة حتى نسيت انا الموضوع .. ويبدو ان السكرتير هو الآخر قد نسي .. او انه كان منشغلا بإعداد القهوة التي طلبت فغافله ودخل .
كانت ملامحه هذه المرة تشي بانفعال وتشنج قاس يفوق كل المرات التي سبقت . لم افهم سر هذا الانفعال ، رغم ان معرفتي به تمتد لخمس سنوات تقريبا هو عمر تحوله من زوج الى أرمل جاء وقتذاك ليوكلني في متابعة موضوع ارث من زوجته بوصفه الوريث الوحيد لأنه لم يكن له اولاد لنكتشف بعد ذلك ان زوجته لم تترك له أي ارث. نظرت اليه مليا .. ربما بطريقة مغايرة .. اشعرتني بالتعاطف معه كونه وحيدا وحزينا ويحاول ان يتشبث بأي شيء ، ليدفع عنه جور الوحدة وقسوتها التي اعرف طعم مرارتها ولكن بطريقة مختلفة .. كوني لم أتزوج وقد تجاوزت الاربعين . راودني سؤال في تلك اللحظة لم يخطر على بالي من قبل .. ترى هل انا اتعاطف معه لأنني في لا وعيي ادرك انني حين انظر اليه انما انظر الى صورتي في المرآة .. ولكن بعد ان اتقدم في العمر عقدا او عقدين .. هششت بيدي كمن يهش ذبابة وهمية ومعها هششت ذلك الهاجس الغريب . وابتسمت وأنا اتخيل ان صاحبي هذا قد نقل لي عدوى جنونه واضطرابه . ولكي استعيد توازني واستقراري الذهني قررت ان ابتعد عن النظر الى هوة ذلك البئر السحيق الذي يسمى باللاوعي .. وان اكرس تواصلي وتواشجي مع الواقع الذي اعيشه الآن واللحظة الحاضرة . وسريعا تسلسلت الافكار وتذكرت سؤاله عن الطاولة والمصيبة واسلوبه الي يكاد يكون سرياليا احيانا ، فحاولت أن أجاريه في عبثيته وأسئلته الغريبة .. فقلت له .
- على طاولة المطاولة .
نظر لي كالملذوع ثم صرخ .
- فيلسوف … نعم أنت فيلسوف ، وينبغي أن يدرك الآخرون مكانة آرائك في أمورهم .
غالبت ابتسامة كادت تفضحني أمام وجهه الذي إحمر وعيناه اللتان اتسعتا دون أن تفصحان عن معنى ما ، وخشيت أن يفضحني فمي الذي اتسع موشكا على الضحك فأخفيته بكفي ، وحاولت ان اسبغ على ملامحي مظهر الجد والتأثر بما يقول ، لكنه عاجلني بالكلام .
- هل تعرف ، كل مشاكل العالم يمكن حلها ببساطة ، بالنسبة لفيلسوف مثلك .
فتحت ملفا من ملفات القضايا القريبة من يدي وأمسكت القلم وبدأت ادون بعض الملاحظات من ملف القضية ، دون ان انسى رسم تقطيبة تليق بالمحامين حين ينغمسون في عملهم . لكنه وبدلا من أن يستأذن بالانصراف جلس على المقعد القريب ووضع ساقا فوق أخرى مواصلا حديثه .
- اسمع .. لقد خطرت لي فكرة ربما تكون مكملة لنظريتك ، ما رأيك لو أننا تخيلنا أن للمصيبة جسدا كي نـشّرحه ، ما رأيك بالضفدع مثلا .
رأيت وجهه يشرق بابتسامة طفل بالرغم من عمره الذي جاوز الستين ، وكأنه قد اكتشف النظرية النسبية مجددا ، تؤازره عيناه اللتان راحتا تتأرجحان وكأنهما تتابعان قفز الضفدع قبل اصطياده .
قلت: اختيارك للضفدع جاء في محله ولا سيما وانني قد قرأت مرة معلومة تقول ان الضفدع هو من بين الكائنات النادرة والقليلة جدا الوحيد الذي يستطيع ان يغير جنسه .
قال : ما لنا وللجنس الآن ؟
قلت مستعيرا شيئا من سرياليته او جنونه : كيف ؟.. فالمصيبة مؤنثة واذا ما حولناها الى صفة التذكير ستصبح (مصيب) .
قال وقد اشرقت ابتسامته العريضة مرة أخرى : نعم .. نعم .. اصبت .. (وضحك بطريقة من يضحك لنكتة لم يقلها بعد ثم اكمل بإشارة ذات مغزى) نعم نعم انت مصيب .
طريقته في الكلام جعلتني اتخيل شكل الضفدع ولزوجته فحاولت ان اغير من موجة استرساله على هذا المنوال فقلت .
- اقترح عليك استبدال الضفدع بالفراشة .
فز صاحبي من أحلام جنة أو جحيم ملئ بالضفادع ، فنظر إلي غير مصدق لما سمعته أذناه . قال :-
ــ رجاءً .. هلا أعدت عليّ القول .
ــ فراشة .
ــ ها … فراشة نعم فراشة .
ثم قام من مجلسه وقد احمر وجهه .. ولكي أكون دقيقا علي القول انه لم يقم بل نتر جسده بانتفاضة أرعبتني ، ثم أشار نحوي بيده متوعدا .
ــ أي فراشة ! … هل تسخر مني ؟
فكرت في تلك اللحظة ان اغتنم فرصة غضبه فاطرده .. لكني عدت واحجمت حين فكرت بالألم الذي سيصيبه جراء هذا الموقف المهين.. فهو رغم كل الجنون الذي يصيبه احيانا او يدعيه .. انسان طيب ونقي القلب في زمن ندر ان نرى من هو مثله . فقلت له معابثا .
ــ اسمع .. يا من ناوشته المصائب جميع أنواع اللكمات والركلات ، حتى صار جلده منيعا ونال حظوة امتلاك صولجان الهش في وجه المصائب بدرابة راع يهش في وجه قطيعه ، اسمع .. أنا لا اكره الضفادع ، ولكن هل تعلم ان عمر الفراشات على الأرض هو خمسون مليون سنة .. وان ما نشاهده من حشرات تشبه الفراشات هي في الحقيقة تدعى (ابو دقيق) لأن الفراشات الحقيقية لا تظهر في النهار .
عندها اشرق وجهه من جديد وصفق بيده هذه المرة ثم أشار بأصابعه إلي ، واخرج الأحرف من فمه بحس صائغ يتملى بتلمس ما صنعت يداه .
ــ عالم وفيلسوف .. نعم لن أخطئ هذه المرة ، أنت عالم وفيلسوف ، وسيكتب عنك التاريخ .
اعجبتني اللعبة .. واستفزني مدحه الزائف لي .. فعمدت الى المبالغة بالعبث معه . فقلت .
- لكن من أين سنجيء بفراشة حقيقية .. والفراشات التي نراها كل يوم زائفة .
مسح جبهته بظاهر كفه .. وبدا أكثر قلقا واضطرابا من السابق .. نظر الي بحيرة وكأنه طفل يبحث عن جواب لدى والده الذي يصغره بعقدين .
- اقترح ان نعود للضفادع فهي متوفرة . ثم اني لا أحب الفراشات الميتة لأنها تذكرني بدفتر التحنيط .
وأشرت الى الدفتر الذي كان قد وضعه أمامه على الطاولة الصغيرة .. بطريقة موحية .. مذكرا اياه بوعده لي في ان يطلعني على كتاباته .
لكنه بدلا من ذلك قام بعصبية من مكانه ووضع الدفتر مرة أخرى تحت ابطه وهو يضغط عليه بقوة .. ثم خرج دون ان يودعني .
عام 1999