لم يغمض لي جفن ولا لزوجتي منذ عدة ايام وفرت احلامنا الشحيحة باجنحة من ارق ، كان يصلنا بكاء ابني سلوان من غرفته يشخط سكون الليالي الدامسة بالقلق والترقب..استدارت لي زوجتي وكلمتني بصوت مثخن بالحرقة والعتاب..
_ هل قلبك من حجر..؟الا تسمع انين ابنك الذي تتفطر له جدران البيت..؟
جلستُ على السرير وظلام الغرفة لا اميز فيه سوى تهدجات لوعة تتكسر في صدر ابني تصلني شظاياها فتنغرز نارا في كل خلايا جسدي..لم اكن اتبين ملامح زوجتي سوى ما يلصف في عينيها من حيرة ورماد عجز..طوقت راسي بكلتا يدي خوفا عليه من الانفجار ،زفرت بقوة ..اجبت بخذلان..
_ وماذا اعمل له..؟ انا على يقين بان الشيخ فرهاد لا يوافق على زواج سلوان من ابنته خلود..لا احد يجرؤ على طلب يدها منه..انه يقود اكبر عشيرة في المدينة وكلامه هذه الايام حتى مع حاكم المدينة هاشم ابو رصيف نافذا ولا يسقط الى الارض..يظهران على الدوام متلازمين في الاماكن العامة ،وانا موظف بسيط وكل راتبي لا يساوي طبقة بيض فاسدة..
نهضتُ متثاقلا لأنير بؤس الغرفة بمصباح وحيد..كانت دموع زوجتي يزيدها ادرارا غيوم حزن هاربة من بحر حب يغرق سلوان فيه..اقتربت مني وهي تفرك يديها وتنشغ من مسرب دمع بلل وجنتيها وصدر دشداشتها..سألت برجاء..
_ الم تخبرني سابقا بان عشيرتك وقبيلة فرهاد تنزحان من قلب صحراء عربية واحدة وبينكما حاكت النساء اكثر من وشيجة قربى..؟
دفعني كلامها ان اشعل سيكارة واقلب هذا التاريخ بشهقتي دخان عميقتين ، لم استطع ان اثبت في مكاني..ذرعت الغرفة رواحا ومجيئا..اجبت بتلعثم..
_ ها..هذا صحيح ..صحيح ..
نفثت سحابة دخان كثيفة..ذيول الدخان تتلوى امامي ..لمحت على جدار الغرفة المهروش بالرطوبة اشباحا هلامية تترصدني..واصلت كلامي بجزع..
_ ساذهب الى قلعة فرهاد واطرق هذا الباب الصدأ،وسآخذ معي كل شيوخ المدينة ووجهائها ومعظم اقاربي..سلوان وخلود يجب ان يرتقا ما تفتق من خيوط علاقتنا..
منذ الصباح الباكر كنت اجوب اسواق المدينة المتعبة واحياءها الشعبية الايلة للسقوط واحياء الشهداء والاسرى والمفقودين الحديثة والتي تشغلها اسماء وذاكرات رجال مروا من هنا ولم يستريحوا فيها..كان الحصار في نهاية الالفية الثانية يسوس وجوه الناس ويعصرها فتبدو ذابلة وبلا ملامح كالشمع التالف، على الارصفة تباع سقوف البيوت وشبابيك الغرف واعراض النساء بثمن بخس ، كان حاكم المدينة هاشم ابو رصيف يتبختر يوميا في الاسواق ببلادته وقيافته العسكرية المبالغ فيها يستر بين طياتها هروبه من الجندية مطلع شبابه يشبه طاووس هرم فقد بريق الوانه يجر وراءه قوافلَ من رجال متأنقين تصطاد له النساء وتقدمها على طبق دبق..لم يرتو شبقه وكلما ارتفعت اصوات استغاثات الصبايا حين تفض بكاراتهن كان يطلب المزيد فتستبدل المستعملات كالمناديل الورقية باخريات ،لم يجف بعد الحليب في افواههن ، وقبل ان يضيع صدى صوته ، لم يكن يقرصه الخوف او الندم فابن عمه الرئيس ذو الاسماء التي لا تعد ولا تحصى وعرشه المحفوظ بامر الله هناك في العاصمة كان يمسك البلد بمخالب من حديد واعطى عهدا بان يبقى ابد الدهر قائدا اوحدا على مصائر الناس ووليا على حياتهم ومماتهم ومن تسول له نفسه التفكير مجرد التفكير في لون دعائم الكرسي الذي يجلس عليه فان يديه سوف تكتويان بالخراب ولن تضما من خير هذا البلد سوى التراب..المواطنون ذاهلون مروضون بالحروب والموت والجوع ومن يطلب المزيد من العيش عليه ان يسبح ليل نهار بمآثر آل ابو رصيف وبطولاتهم المزيفة ونسبهم الذي ربطه المؤرخون التجار بالمعجزات والكرامات دون ان يجرأ احد التذكير بعقم اصولهم ولوثة تاريخهم كنفايات لفظتها الاقوام المغولية الغازية ..طرقتُ ابواب المدينة بابا بابا الغريبة منها والقريبة وحالما اجهر برغبتي بخطبة ابنة الشيخ فرهاد الى ولدي سلوان كانت الابتسامات الساخرة تطرز الوجوه والنصيحة واحدة من افواه الجميع..
_ رحم الله امرءا عرف قدر نفسه..
الوحيد صديقي ماجد ابن خال هاشم ابو رصيف والهارب من عار انتسابه اليه نصحني بالتريث وان امدد قدميّ على قدر غطائي ،فقد تسمم هواء المدينة بفضائح فرهاد واعوانه ،وحين الححت عليه بالمجيء معي اردف بعصبية ..
_ قد اصادف هاشم عند فرهاد ..انا رحلت من هناك وفضلت العيش في مدينتكم ،هاشم وابن عمه المحفوظ عرشه بامر الله والكثير من اقاربي لصوص وقتلة انا اعرفهم جيدا وقد اقسمت على ان لا يجمعني معهم سقف واحد
من شجعني على اجتياز تلك الارض الرخوة من التردد هو السيد جلال الذي ما ان سمع بان المدينة قد نفضت يدها عني وقايضت براءة محبتي بالصدود حتى طرق بابي ترتسم على محياه ابتسامة عريضة تضيء صفحة وجهه المخططة بلحيثة كثيفة بيضاء تخفف من دكنة عمامته السوداء والتي انسجم لونها مع جبته البنية اللون فزادته وقارا وهيبة..
_ سأذهب معك الى قلعة الشيخ فرهاد رغم القطيعة التي دخلها معي وحذت حذوه كل ذيوله في المدينة..
عند القلعة والتي تقع في طرف المدينة الشمالي..كانت سيارات عديدة تزدحم عند الساحات القريبة ،حكومية بستائر مسدلة ومدنية كثيرة منها موديلاتها حديثة ،يمنحها المحفوظ عرشه بامر الله ثمن الذمم الرخيصة ،تتوهج الوانها وماركاتها الفاخرة تحت الشمس اللاهبة..يحرس باب القلعة عدد من الحرس المدججين بالسلاح والعيون الذئبية والمطلقين شواربهم اسفل ذقونهم عرفت بانهم من يسهر على راحة هاشم ابو رصيف ومن يحميه، قاموا بتفتيشنا نحن الثلاثة انا وابني والسيد جلال ،نظرات الحرس المتوعدة توخزنا وتزرع فينا رعبا لا يدوم لساعة او ساعتين بل اياما وسنينا..دخلنا مضيف القلعة كان شيوخ المدينة ووجهاؤها واقاربي يملأون المكان ويغلقون دائرة تحيط الشيخ فرهاد وهاشم ابو رصيف الجالسين بصدر المضيف..الارائك الوثيرة تصطف فيه وتنبعث من المكان رائحة عتيقة زنخة ، تُشنق على الجدران صور لوجوه وشخوص ما زالت حكاياتها وصدى خطواتها وضحكاتها ورنين فناجين قهوتها تعبق في ذاكرة الحاضرين ..فرهاد وهاشم وشاغلوا الارائك يتهندمون باللباس العسكري ، يقظون وعلى اهبة الاستعداد لخوض المعركة المصيرية الفاصلة،بدا معظمهم فزاعات ممسوخة بلا ملامح تثير القرف والضحك لو وضعت في اراض زراعية كخيالات مآته لبصقت عليها العصافير ،صافحنا الجميع ، هاشم ابو رصيف لم يقدم لنا الا اطراف اصابعه وقام الحرس الذي يقف عند راسه بتعقيمها بمواد مطهرة ،كان الضحك يخنقني عند بعضهم وخاصة ستار ابن عمي البدين والذي ظهر ببدلة الخاكي كبرميل من اللحم المترجرج تفتق قميصه لتطل طيات متمردة من بطنه الكبيرة بين بيوت ازراره وفوق النطاق العريض ..جلسنا عند ذيل المضيف ، لم يبادلنا احد التحية جهارا ،كانت دقات قلب ابني والذي كاد ان يخرج من صدره اسمعها بوضوح وتطعنني باستمرار..تكهرب جو المضيف بالنظرات الغاضبة ، تلفت الشيخ فرهاد الى هاشم ابو رصيف فاستنسخ منه امتعاضا قاتما ازاد به سمرة وجهه..عدّل بدلته العسكرية كقائد يهم بشرح خطة حربية خطيرة ..بادر بالسؤال..
_ يا ابا سلوان اخبرني ما هو الشيء الذي جئت من اجله ..؟ لقد اجتمع اليوم في المضيف كل اقاربي لامر هام..
اشار بيده الى الجالسين ، كنت الاحق يده وهي ترقم الوجوه واحدا واحدا لكني توقفت عند ابن عمي الذي تبادلت واياه نظرات طويلة..اجبرني في النهاية على ان انكس راسي..اراد السيد جلال ان يتكلم لكن هاشم ابو رصيف الجمه بيده..اشار لي فرهاد بالحديث..تنحنحت ..كان الكلام يخرج من صدري حادا كالسكاكين..
_ عفوا ايها الشيخ لكن ولدي سلوان زميل ابنتك في الكلية وقد تخرجا معا واليوم جئت مع السيد جلال طالبين يد ابنتك الى ولدي سلوان..
همّ السيد جلال ان يضيف شيئا ، اشار له الشيخ فرهاد الممتقع الوجه بالسكوت..نهض من كرسيه..اقترب مني..لم يسخّر عينيه كي يراني جالسا امامه بل كي يطلق منهما سهاما تنخر جسدي الواهن..وقفنا لاستقباله..كنت حبيس نظراته ..
_ كيف تجرأ ان تطلب هذا الامر امام ابن عمي سيدنا حاكم المدينة وامام الشيوخ والوجهاء اقربائي ..؟
اجبت بذهول ..
_ كيف اجرأ..! نحن اهل ،واجدادي واجدادك اصدقاء قدموا من البادية ووطئت اقدامهم قديما صحراء واحدة..
تلفت فرهاد بقلق في المضيف ، كان يحاول ان يهش ذباب هذا الكلام قبل ان يحط على اذان سامعيه..قال بامتعاض..
_ اجدادي واجدادك اصدقاء..!
قلب نظره في وجوه الجميع..طوق بيديه جميع الحاضرين..سأل..
_ من اين جئتم..؟
نطقت الفزاعات دون استثناء..
_ جئنا منذ قديم الزمان مع قبيلة ال ابو رصيف..
انبرى ابن عمي ستار مخاطبا اياي بلهجة خشنة..
_ انت منبوذ منا وتحاول ان تشوه اصلنا..نحن من ال ابو رصيف ابا عن جد..الجبناء هم من شوش علينا حياتنا..
اقترب مني فرهاد..عقب بشماته..
_ هل سمعت ابن عمك..؟
نظر الى السيد جلال بغضب..كلمني دون ان يسقط عينيه عنه ..
_ هناك من يحاول ان يخرب اصولنا ومدننا..لقد تفتحت عيوننا ولن نخطأ ثانية..
التفت الى هاشم ابو رصيف ،الابتسامة الشامتة لم تعكر ملامح الصلف المحفورة ابديا في وجهه ..اشار بيديه الى هاشم كمن يلقي خطبة..
_ هؤلاء نسبنا ..هاشم وابن عمه ذو الاسماء التي لا تعد ولا تحصى وعرشه المحفوظ بامر الله وكل سلالتهم من الملوك هم الاصل وما انا وكل شيوخ المدينة ووجهائها فروع لهذا الاصل المبارك..نحن ننتمي اليهم مذ خلقت الارض..
سحب نفسا عميقا..جثم سكون اعمى على المضيف..صاح بصوت عال..
_ هل قلبك من حجر..؟الا تسمع انين ابنك الذي تتفطر له جدران البيت..؟
جلستُ على السرير وظلام الغرفة لا اميز فيه سوى تهدجات لوعة تتكسر في صدر ابني تصلني شظاياها فتنغرز نارا في كل خلايا جسدي..لم اكن اتبين ملامح زوجتي سوى ما يلصف في عينيها من حيرة ورماد عجز..طوقت راسي بكلتا يدي خوفا عليه من الانفجار ،زفرت بقوة ..اجبت بخذلان..
_ وماذا اعمل له..؟ انا على يقين بان الشيخ فرهاد لا يوافق على زواج سلوان من ابنته خلود..لا احد يجرؤ على طلب يدها منه..انه يقود اكبر عشيرة في المدينة وكلامه هذه الايام حتى مع حاكم المدينة هاشم ابو رصيف نافذا ولا يسقط الى الارض..يظهران على الدوام متلازمين في الاماكن العامة ،وانا موظف بسيط وكل راتبي لا يساوي طبقة بيض فاسدة..
نهضتُ متثاقلا لأنير بؤس الغرفة بمصباح وحيد..كانت دموع زوجتي يزيدها ادرارا غيوم حزن هاربة من بحر حب يغرق سلوان فيه..اقتربت مني وهي تفرك يديها وتنشغ من مسرب دمع بلل وجنتيها وصدر دشداشتها..سألت برجاء..
_ الم تخبرني سابقا بان عشيرتك وقبيلة فرهاد تنزحان من قلب صحراء عربية واحدة وبينكما حاكت النساء اكثر من وشيجة قربى..؟
دفعني كلامها ان اشعل سيكارة واقلب هذا التاريخ بشهقتي دخان عميقتين ، لم استطع ان اثبت في مكاني..ذرعت الغرفة رواحا ومجيئا..اجبت بتلعثم..
_ ها..هذا صحيح ..صحيح ..
نفثت سحابة دخان كثيفة..ذيول الدخان تتلوى امامي ..لمحت على جدار الغرفة المهروش بالرطوبة اشباحا هلامية تترصدني..واصلت كلامي بجزع..
_ ساذهب الى قلعة فرهاد واطرق هذا الباب الصدأ،وسآخذ معي كل شيوخ المدينة ووجهائها ومعظم اقاربي..سلوان وخلود يجب ان يرتقا ما تفتق من خيوط علاقتنا..
منذ الصباح الباكر كنت اجوب اسواق المدينة المتعبة واحياءها الشعبية الايلة للسقوط واحياء الشهداء والاسرى والمفقودين الحديثة والتي تشغلها اسماء وذاكرات رجال مروا من هنا ولم يستريحوا فيها..كان الحصار في نهاية الالفية الثانية يسوس وجوه الناس ويعصرها فتبدو ذابلة وبلا ملامح كالشمع التالف، على الارصفة تباع سقوف البيوت وشبابيك الغرف واعراض النساء بثمن بخس ، كان حاكم المدينة هاشم ابو رصيف يتبختر يوميا في الاسواق ببلادته وقيافته العسكرية المبالغ فيها يستر بين طياتها هروبه من الجندية مطلع شبابه يشبه طاووس هرم فقد بريق الوانه يجر وراءه قوافلَ من رجال متأنقين تصطاد له النساء وتقدمها على طبق دبق..لم يرتو شبقه وكلما ارتفعت اصوات استغاثات الصبايا حين تفض بكاراتهن كان يطلب المزيد فتستبدل المستعملات كالمناديل الورقية باخريات ،لم يجف بعد الحليب في افواههن ، وقبل ان يضيع صدى صوته ، لم يكن يقرصه الخوف او الندم فابن عمه الرئيس ذو الاسماء التي لا تعد ولا تحصى وعرشه المحفوظ بامر الله هناك في العاصمة كان يمسك البلد بمخالب من حديد واعطى عهدا بان يبقى ابد الدهر قائدا اوحدا على مصائر الناس ووليا على حياتهم ومماتهم ومن تسول له نفسه التفكير مجرد التفكير في لون دعائم الكرسي الذي يجلس عليه فان يديه سوف تكتويان بالخراب ولن تضما من خير هذا البلد سوى التراب..المواطنون ذاهلون مروضون بالحروب والموت والجوع ومن يطلب المزيد من العيش عليه ان يسبح ليل نهار بمآثر آل ابو رصيف وبطولاتهم المزيفة ونسبهم الذي ربطه المؤرخون التجار بالمعجزات والكرامات دون ان يجرأ احد التذكير بعقم اصولهم ولوثة تاريخهم كنفايات لفظتها الاقوام المغولية الغازية ..طرقتُ ابواب المدينة بابا بابا الغريبة منها والقريبة وحالما اجهر برغبتي بخطبة ابنة الشيخ فرهاد الى ولدي سلوان كانت الابتسامات الساخرة تطرز الوجوه والنصيحة واحدة من افواه الجميع..
_ رحم الله امرءا عرف قدر نفسه..
الوحيد صديقي ماجد ابن خال هاشم ابو رصيف والهارب من عار انتسابه اليه نصحني بالتريث وان امدد قدميّ على قدر غطائي ،فقد تسمم هواء المدينة بفضائح فرهاد واعوانه ،وحين الححت عليه بالمجيء معي اردف بعصبية ..
_ قد اصادف هاشم عند فرهاد ..انا رحلت من هناك وفضلت العيش في مدينتكم ،هاشم وابن عمه المحفوظ عرشه بامر الله والكثير من اقاربي لصوص وقتلة انا اعرفهم جيدا وقد اقسمت على ان لا يجمعني معهم سقف واحد
من شجعني على اجتياز تلك الارض الرخوة من التردد هو السيد جلال الذي ما ان سمع بان المدينة قد نفضت يدها عني وقايضت براءة محبتي بالصدود حتى طرق بابي ترتسم على محياه ابتسامة عريضة تضيء صفحة وجهه المخططة بلحيثة كثيفة بيضاء تخفف من دكنة عمامته السوداء والتي انسجم لونها مع جبته البنية اللون فزادته وقارا وهيبة..
_ سأذهب معك الى قلعة الشيخ فرهاد رغم القطيعة التي دخلها معي وحذت حذوه كل ذيوله في المدينة..
عند القلعة والتي تقع في طرف المدينة الشمالي..كانت سيارات عديدة تزدحم عند الساحات القريبة ،حكومية بستائر مسدلة ومدنية كثيرة منها موديلاتها حديثة ،يمنحها المحفوظ عرشه بامر الله ثمن الذمم الرخيصة ،تتوهج الوانها وماركاتها الفاخرة تحت الشمس اللاهبة..يحرس باب القلعة عدد من الحرس المدججين بالسلاح والعيون الذئبية والمطلقين شواربهم اسفل ذقونهم عرفت بانهم من يسهر على راحة هاشم ابو رصيف ومن يحميه، قاموا بتفتيشنا نحن الثلاثة انا وابني والسيد جلال ،نظرات الحرس المتوعدة توخزنا وتزرع فينا رعبا لا يدوم لساعة او ساعتين بل اياما وسنينا..دخلنا مضيف القلعة كان شيوخ المدينة ووجهاؤها واقاربي يملأون المكان ويغلقون دائرة تحيط الشيخ فرهاد وهاشم ابو رصيف الجالسين بصدر المضيف..الارائك الوثيرة تصطف فيه وتنبعث من المكان رائحة عتيقة زنخة ، تُشنق على الجدران صور لوجوه وشخوص ما زالت حكاياتها وصدى خطواتها وضحكاتها ورنين فناجين قهوتها تعبق في ذاكرة الحاضرين ..فرهاد وهاشم وشاغلوا الارائك يتهندمون باللباس العسكري ، يقظون وعلى اهبة الاستعداد لخوض المعركة المصيرية الفاصلة،بدا معظمهم فزاعات ممسوخة بلا ملامح تثير القرف والضحك لو وضعت في اراض زراعية كخيالات مآته لبصقت عليها العصافير ،صافحنا الجميع ، هاشم ابو رصيف لم يقدم لنا الا اطراف اصابعه وقام الحرس الذي يقف عند راسه بتعقيمها بمواد مطهرة ،كان الضحك يخنقني عند بعضهم وخاصة ستار ابن عمي البدين والذي ظهر ببدلة الخاكي كبرميل من اللحم المترجرج تفتق قميصه لتطل طيات متمردة من بطنه الكبيرة بين بيوت ازراره وفوق النطاق العريض ..جلسنا عند ذيل المضيف ، لم يبادلنا احد التحية جهارا ،كانت دقات قلب ابني والذي كاد ان يخرج من صدره اسمعها بوضوح وتطعنني باستمرار..تكهرب جو المضيف بالنظرات الغاضبة ، تلفت الشيخ فرهاد الى هاشم ابو رصيف فاستنسخ منه امتعاضا قاتما ازاد به سمرة وجهه..عدّل بدلته العسكرية كقائد يهم بشرح خطة حربية خطيرة ..بادر بالسؤال..
_ يا ابا سلوان اخبرني ما هو الشيء الذي جئت من اجله ..؟ لقد اجتمع اليوم في المضيف كل اقاربي لامر هام..
اشار بيده الى الجالسين ، كنت الاحق يده وهي ترقم الوجوه واحدا واحدا لكني توقفت عند ابن عمي الذي تبادلت واياه نظرات طويلة..اجبرني في النهاية على ان انكس راسي..اراد السيد جلال ان يتكلم لكن هاشم ابو رصيف الجمه بيده..اشار لي فرهاد بالحديث..تنحنحت ..كان الكلام يخرج من صدري حادا كالسكاكين..
_ عفوا ايها الشيخ لكن ولدي سلوان زميل ابنتك في الكلية وقد تخرجا معا واليوم جئت مع السيد جلال طالبين يد ابنتك الى ولدي سلوان..
همّ السيد جلال ان يضيف شيئا ، اشار له الشيخ فرهاد الممتقع الوجه بالسكوت..نهض من كرسيه..اقترب مني..لم يسخّر عينيه كي يراني جالسا امامه بل كي يطلق منهما سهاما تنخر جسدي الواهن..وقفنا لاستقباله..كنت حبيس نظراته ..
_ كيف تجرأ ان تطلب هذا الامر امام ابن عمي سيدنا حاكم المدينة وامام الشيوخ والوجهاء اقربائي ..؟
اجبت بذهول ..
_ كيف اجرأ..! نحن اهل ،واجدادي واجدادك اصدقاء قدموا من البادية ووطئت اقدامهم قديما صحراء واحدة..
تلفت فرهاد بقلق في المضيف ، كان يحاول ان يهش ذباب هذا الكلام قبل ان يحط على اذان سامعيه..قال بامتعاض..
_ اجدادي واجدادك اصدقاء..!
قلب نظره في وجوه الجميع..طوق بيديه جميع الحاضرين..سأل..
_ من اين جئتم..؟
نطقت الفزاعات دون استثناء..
_ جئنا منذ قديم الزمان مع قبيلة ال ابو رصيف..
انبرى ابن عمي ستار مخاطبا اياي بلهجة خشنة..
_ انت منبوذ منا وتحاول ان تشوه اصلنا..نحن من ال ابو رصيف ابا عن جد..الجبناء هم من شوش علينا حياتنا..
اقترب مني فرهاد..عقب بشماته..
_ هل سمعت ابن عمك..؟
نظر الى السيد جلال بغضب..كلمني دون ان يسقط عينيه عنه ..
_ هناك من يحاول ان يخرب اصولنا ومدننا..لقد تفتحت عيوننا ولن نخطأ ثانية..
التفت الى هاشم ابو رصيف ،الابتسامة الشامتة لم تعكر ملامح الصلف المحفورة ابديا في وجهه ..اشار بيديه الى هاشم كمن يلقي خطبة..
_ هؤلاء نسبنا ..هاشم وابن عمه ذو الاسماء التي لا تعد ولا تحصى وعرشه المحفوظ بامر الله وكل سلالتهم من الملوك هم الاصل وما انا وكل شيوخ المدينة ووجهائها فروع لهذا الاصل المبارك..نحن ننتمي اليهم مذ خلقت الارض..
سحب نفسا عميقا..جثم سكون اعمى على المضيف..صاح بصوت عال..