جثم الصمت ، الوحشة مقيتة وقيثارة ذلك المساء الأخرس عزفت برتابة تناغمت مع نزوع الشمس لتتلفع ببردة غروب وشيك . هدوء يسبق صخب ما وكأن كل شيء حول ذلك المكان يتأهب للاحتفاء بمولود فوق العادة ، شبح سيخطف الأبصار بسحنته الكالحة ، يقفز من فوق جدار المستحيل نحو عتبة لحياة أقسى من طعم موت رفضه قبل برهة.
لم يدم الأمر أكثر من دقائق ليشهد الفضاء المترامي حول قبر ( عبد الله أبو الليل ) عودته إلى الدنيا بضغطة قوية نحو الأعلى ، لفظة هازئة تبعثرت لها أحجار القبر ، أفزعت كل ما حوله من هول ذلك العجب ، ليسقط هو متمسكا بقانون الجاذبية على شفا حفرته الفاغرة .
ـ لا .. لا.. لست أنا .. أبدا لست أنا . تمتم وهو يتحسس الأتربة والأحجار والحصى التي لطمت وجهه وتناثرت حول قبره
ـ ربما أكون أنا .. ولكن كيف لي أن احتمل ما حدث؟!
لحظات مرتبكة أسفرت عن كائن يشبه رسول احد الكواكب ، بدا مثل روبرت قديم حين اتكأ على يديه ونهض ليربت الأرض بقدمين ذابلتين متلمسا سبيل العودة بفزع ودهشة . آثار مشيعيه المرسومة على صفحة الرمال تدله طريق عودته الخرافية تلك . الحيوانات والطيور التي حضيت بشرف مقابلته ، نفرت منه ، رمقته من بعيد ، فلقد الفته دما ولحما وها هو يعود شيئا ما لاتحتمله حدقات عيونها ، مشغول عنها بوضعه الذي تعقد كثيرا ، فحواسه ضعفت وهو على مقربة من قبر ساخن . الذي بقي ملتصقا به هو ( عبد الله ابو الليل ) اسمه متأرجحا في دماغ فرمتته اللحظات الباعثة على الانبهار .
بضع خطوات رسمها على أديم الذكريات وفي لحظة فتح فكيه بكل ما أوتي من قوة ، انتظر صرخته البعيدة ، كانت غائرة أكثر مما يجب ، توسل بها فجاءت باهته لاتبعث على الصدى ، خذلته بعد أن وثق بها العمر كله .
ـ من سيصدق هذا .. عبد الله يعود من الموت ؟!
ـ أنا وحدي .. ولا داعي لأن أثقل كاهلهم معي .
رأسه المتخشب تلاطمته أفكار مبتورة ، لازال يربت الأرض عائدا والريح تجاذب كفنه المتسربل ، تشبع وجهه وأطرافه تيبسا وجفافا ، يتتبع هلال الأقدام المرسومة فهي وحدها دليل على انه مات قبل فترة وجيزة .
ـ هل قامت قيا ... ؟! بدأ يفكر بربع عقل
ـ ليس قبل ان تموت ...
عجبا هذا الصوت الذي يطرق مسامعه المثقلة بالأتربة ، يجيبه ، يحفر في ركام محنته ، يعرفه ... ولا يعرفه .
ـ من أنت ؟ وبالكاد كان الصوت ينفد من أعماقه .
ـ أنا طائرك المحتفي بك ... انتظر منك ذهولا آخر ...
وقف عبد الله ، أصاخ السمع ، حملق في السماء نحو مصدر الصوت ، ليرى طائرا عملاقا ينشر ريشاته يخيم فوق رأسة كعباءة سوداء ، ثم يرتفع ليرسم دوائر وهمية في الفضاء . لم يعره اهتماما فلقد راى الكثير من أمثاله . خطواته رغم تعثرها كانت تقربه رويدا من معالم وجود راح يشكل أبعاده في زوايا مخيلة طفل صغير امتلكها للتو . الصحراء تبتعد لتحل مكانها خضرة طوقت خصر قريته بحنان . ثمة منظر هزه بعنف ، خشخش عظامه الناحلة ، استوقفه ليعيد تشكيل ذاكرة فتى بريء في دواخله ، ارتجف لمرأى النهر الصغير الذي أوصلته قدماه للسير بمحاذاته ، فجأة صدر عنه نشيج بدأ يتصاعد ، استعاد جزءا من خلايا ذاكرته المذهولة بموته القريب حين رمق ثيابه مرمية على ضفة النهر .. قميصه ، سرواله ملقاة على وسادة من قصب مبتل. اقترب اكثر ، تحسس الأعواد ، إنها هي التي وسدوه عليها قبل زمن قصير .
ـ كذب الطائر .. لقد مت .. ردد وهو ينحني على ثيابه ، يتمدد حيا هذه المرة ، عيناه تلتهمان ما حوتا من فضاء وأشجار وكائنات..
ـ كيف حدث ذلك لي .. كيف استبدل موتي بصحو بليد .. أي فزع سينتاب أهلي الذين لا اعرفهم ، أقاربي ، أصدقائي وأنا انزلق في حياة زفها موت ؟ الأفكار المحرقة تجفف لسانه ، عطش شديد يقوده نحو ضفة النهر ، مد يده ليغترف منه بحجم حرقة قلبه ، غير ان ما لمحته عيناه في صفحة النهر الرقراقة كان فضيعا ، قاسيا ، فملامح وجهه بدت رهيبه ، لم يكن سوى مخلوق سريالي بعين واحدة ونصف رأس . أرتعدت أوصاله ، أشاح بوجهه الممسوخ ، وانكفأ فوق فراش القصب ، الوجل واليأس أطاحا بما تبقى له من امل
أغمض عينيه ، تمنى إغفاءة يستعيد بها نصف رأسه المسروق ، يرمم بها ما سفح من ذكرياته المفقودة، كم سيطول به الوقت ليحلم ، توسل ، تشبث بأخر فرصة لنصف رأس يحلم . لم يحدث شيء ، لم يندس في غمار عالم اخر .. بقي هو عبد الله ابو الليل نفسه وأكثر من ذلك راح يتلاشى ، ينكمش ، نسي اسمه ، افتقرت مخيلته ، تيبست أوصاله حين رأى ذلك الطائر العملاق يعاود رسم دوائر طيرانه ، يقترب بجناحين مثل شراعين ، يحوم حول كيانه لينقض عليه بمخالبه الحادة ، يرتفع به إلى الأعلى . لم يكن عبد الله يشعر بشيء عندما كان يفتح عينيه مرارا ليرى الناس قد تجمهروا يحملقون بذلك الطائر الخرافي يحمل جثة ، يرسم دوائر تضييق ... تضييق لتتسع لاحقا متباعدا في الفضاء الذي ساهم في ابتلاعهما معا.
* الصباح
لم يدم الأمر أكثر من دقائق ليشهد الفضاء المترامي حول قبر ( عبد الله أبو الليل ) عودته إلى الدنيا بضغطة قوية نحو الأعلى ، لفظة هازئة تبعثرت لها أحجار القبر ، أفزعت كل ما حوله من هول ذلك العجب ، ليسقط هو متمسكا بقانون الجاذبية على شفا حفرته الفاغرة .
ـ لا .. لا.. لست أنا .. أبدا لست أنا . تمتم وهو يتحسس الأتربة والأحجار والحصى التي لطمت وجهه وتناثرت حول قبره
ـ ربما أكون أنا .. ولكن كيف لي أن احتمل ما حدث؟!
لحظات مرتبكة أسفرت عن كائن يشبه رسول احد الكواكب ، بدا مثل روبرت قديم حين اتكأ على يديه ونهض ليربت الأرض بقدمين ذابلتين متلمسا سبيل العودة بفزع ودهشة . آثار مشيعيه المرسومة على صفحة الرمال تدله طريق عودته الخرافية تلك . الحيوانات والطيور التي حضيت بشرف مقابلته ، نفرت منه ، رمقته من بعيد ، فلقد الفته دما ولحما وها هو يعود شيئا ما لاتحتمله حدقات عيونها ، مشغول عنها بوضعه الذي تعقد كثيرا ، فحواسه ضعفت وهو على مقربة من قبر ساخن . الذي بقي ملتصقا به هو ( عبد الله ابو الليل ) اسمه متأرجحا في دماغ فرمتته اللحظات الباعثة على الانبهار .
بضع خطوات رسمها على أديم الذكريات وفي لحظة فتح فكيه بكل ما أوتي من قوة ، انتظر صرخته البعيدة ، كانت غائرة أكثر مما يجب ، توسل بها فجاءت باهته لاتبعث على الصدى ، خذلته بعد أن وثق بها العمر كله .
ـ من سيصدق هذا .. عبد الله يعود من الموت ؟!
ـ أنا وحدي .. ولا داعي لأن أثقل كاهلهم معي .
رأسه المتخشب تلاطمته أفكار مبتورة ، لازال يربت الأرض عائدا والريح تجاذب كفنه المتسربل ، تشبع وجهه وأطرافه تيبسا وجفافا ، يتتبع هلال الأقدام المرسومة فهي وحدها دليل على انه مات قبل فترة وجيزة .
ـ هل قامت قيا ... ؟! بدأ يفكر بربع عقل
ـ ليس قبل ان تموت ...
عجبا هذا الصوت الذي يطرق مسامعه المثقلة بالأتربة ، يجيبه ، يحفر في ركام محنته ، يعرفه ... ولا يعرفه .
ـ من أنت ؟ وبالكاد كان الصوت ينفد من أعماقه .
ـ أنا طائرك المحتفي بك ... انتظر منك ذهولا آخر ...
وقف عبد الله ، أصاخ السمع ، حملق في السماء نحو مصدر الصوت ، ليرى طائرا عملاقا ينشر ريشاته يخيم فوق رأسة كعباءة سوداء ، ثم يرتفع ليرسم دوائر وهمية في الفضاء . لم يعره اهتماما فلقد راى الكثير من أمثاله . خطواته رغم تعثرها كانت تقربه رويدا من معالم وجود راح يشكل أبعاده في زوايا مخيلة طفل صغير امتلكها للتو . الصحراء تبتعد لتحل مكانها خضرة طوقت خصر قريته بحنان . ثمة منظر هزه بعنف ، خشخش عظامه الناحلة ، استوقفه ليعيد تشكيل ذاكرة فتى بريء في دواخله ، ارتجف لمرأى النهر الصغير الذي أوصلته قدماه للسير بمحاذاته ، فجأة صدر عنه نشيج بدأ يتصاعد ، استعاد جزءا من خلايا ذاكرته المذهولة بموته القريب حين رمق ثيابه مرمية على ضفة النهر .. قميصه ، سرواله ملقاة على وسادة من قصب مبتل. اقترب اكثر ، تحسس الأعواد ، إنها هي التي وسدوه عليها قبل زمن قصير .
ـ كذب الطائر .. لقد مت .. ردد وهو ينحني على ثيابه ، يتمدد حيا هذه المرة ، عيناه تلتهمان ما حوتا من فضاء وأشجار وكائنات..
ـ كيف حدث ذلك لي .. كيف استبدل موتي بصحو بليد .. أي فزع سينتاب أهلي الذين لا اعرفهم ، أقاربي ، أصدقائي وأنا انزلق في حياة زفها موت ؟ الأفكار المحرقة تجفف لسانه ، عطش شديد يقوده نحو ضفة النهر ، مد يده ليغترف منه بحجم حرقة قلبه ، غير ان ما لمحته عيناه في صفحة النهر الرقراقة كان فضيعا ، قاسيا ، فملامح وجهه بدت رهيبه ، لم يكن سوى مخلوق سريالي بعين واحدة ونصف رأس . أرتعدت أوصاله ، أشاح بوجهه الممسوخ ، وانكفأ فوق فراش القصب ، الوجل واليأس أطاحا بما تبقى له من امل
أغمض عينيه ، تمنى إغفاءة يستعيد بها نصف رأسه المسروق ، يرمم بها ما سفح من ذكرياته المفقودة، كم سيطول به الوقت ليحلم ، توسل ، تشبث بأخر فرصة لنصف رأس يحلم . لم يحدث شيء ، لم يندس في غمار عالم اخر .. بقي هو عبد الله ابو الليل نفسه وأكثر من ذلك راح يتلاشى ، ينكمش ، نسي اسمه ، افتقرت مخيلته ، تيبست أوصاله حين رأى ذلك الطائر العملاق يعاود رسم دوائر طيرانه ، يقترب بجناحين مثل شراعين ، يحوم حول كيانه لينقض عليه بمخالبه الحادة ، يرتفع به إلى الأعلى . لم يكن عبد الله يشعر بشيء عندما كان يفتح عينيه مرارا ليرى الناس قد تجمهروا يحملقون بذلك الطائر الخرافي يحمل جثة ، يرسم دوائر تضييق ... تضييق لتتسع لاحقا متباعدا في الفضاء الذي ساهم في ابتلاعهما معا.
* الصباح