وصلتني رسالة في البريد الإلكتروني من طرف أخي عبد الله، يدعوني فيها للانضمام إليه في تلك القرية السويسرية التي يدعوها "الجنّة". لكنّي لستُ أدري ما أُجيب.
تركتُ الرسالة جانبا ورُحتُ أكتُب في مُدوّنتي على الإنترنت. إنّها نافذتي الوحيدة على العالم. أنا هنا حرّ طليق، أفعل ما أشاء. أمّا الواقع فسجن كبير.
أخي الأكبر، ياسر، يدرس في إيطاليا. منذ خمس سنوات لم تُشاهدهُ أمي المسكينة إلّا من وراء شاشة الكمبيوتر. وأختي، رقيّة، تزوّجها كريم، شابّ أردني من الكرك. أنا سعيد لأجلهما. أمّا أخي، عبد الله، صاحب الرسالة فيكبرني بسنتين. لقد فارقنا منذ شهور قليلة. لطالما أراد الخروج من هذه الشرنقة الكبرى. استسلم، أو بالأحرى قال لليأس: "لا" وعانق الحياة كما يزعُم هو.
مثلت صورتُه أمام عينيّ. أتذكّر حينما قال لي: "لا يا أخي الصغير، الاستسلام شيء آخر".
وجدتُ في مدونتي رسالة، يبدو أنّ صاحبها من كوكب آخر. يسألني من أين أنا؟ ألم ينظر إلى الصور؟ رغم ذلك أجبته وأنا أتصنّع الغموض:
أقطُن مدينة تُعطي لنصف ساكنيها، إحساسا ذو نقيضين: الإحساس الأول رغبة غريبة في الهرب وكأنّك في سجن. والثاني أن تشعر بأنّك في مدينة لا تريد مغادرتها إلى أي مكان آخر. تُريد أن تطأ قدماك كل شبر من أرضها. تودُّ لو تدُقُّ كل البيوت وتُسلّم على من فيها وتُخبرهم بأنّك صامد مثلهم، وبأنّك لن تهرب. على الأقل في الوقت الحالي.
يغمرني الشعور الثاني في أكثر الأحيان. وأتمنّى حينما يستبدّ بي لو أصير سريعا سوبرمان هذه المدينة. أُحقق العدالة فيها، وأمحقُ الظلم الذي استشرى كالعفن. حتّى أصاب العالم كلّه.
مدينتي المقدّسة تلوّثت بفوضى البشر ونفايات السياسة النتنة. العيشُ فيها فيلم لم يُصوّر بعد لأنّه لا فائدة منه. فما الجدوى من مشاهدة فيلم تراه واقعا كلّ يوم؟ إنّه مسلسل لا تنتهي حلقاته.
ظُلمُ الآخر يتمثّلُ مُهرّجا شريرا يقتلُنا ويُضحكهم. وكي لا يكتشف العالمُ خُدعته الخفيّة، تراه يتلاعب بكرات الموت. ليس لها لون غير ألوان الخوف والدم.
سألتُ صاحبنا في المدوّنة: "هل عرفت مدينتي؟"
لم يُجب. لم يكن ينتظر جوابا كثيفا وكثير المفردات كهذا. لكنّه سألني بعد لحظات: "ومن أنت؟"
أحسستُ وكأنّي أخاطب إنسانا آليا، لا يحمل في رقاقته الإلكترونية غير عدد مُبرمج من الأسئلة والأجوبة. أو لعلّه جاسوس إلكتروني. لست أعلم، فأمثاله يترصّدوننا وينصبون لنا الكمائن حتّى في العالم الافتراضي.
ولأنّني كنتُ فارغا عاطلا، أجبتُه بتذاكي.
أنا، من أنا؟ أنا كائن يعيشُ في مناخ مُشبّع بالعسكر، بالأسيجة، بالأسلحة، بالجرافات وبنقاط التفتيش. أنا أكثر من مُراقب؛ أنا مُهدّد، لا بل أنا مُعرّض للانقراض. لكن حمدا لله لن أنقرض. أتدري لماذا؟ لأنّ موّرثات جنسنا ـ نحن الصامدون ـ تتكوّن كاليخضور في أوراق الزيتون والليمون والزيزفون وفي جذورها. وأصلُها من التراب والشمس اللّذان يُغذّيانها...
نظرتُ من نافذة غرفتي. كان هناك عصفور يدعوني للخروج. قُلتُ له: "ليت عالمنا بسيط مثل عالمكم!"
عالمُنا بسيط في الأصل لكنّنا عقّدناه. صار معقّدا لدرجة أن هذا العالم القرية، يشتمُّ فيه الجارُ حريق جاره، بل يتفرّج على ناره بينما يتناولُ الفستق. وقد يرقص عليها كالهنود الحمر.
وجدتُ مشاعري تدفعُ أطراف أناملي، لأن تدقّ أكثر على لوحة المفاتيح. انتقلتُ إلى صفحة من مدّونتي كانت فارغة. إنّها صفحة: (من أنا؟)
ورحتُ أستطردُ، تاركا حيّز الأنا الضعيف ملتجئا إلى حيّز أقوى، كأنّي أنزل من أغصان غضّة طرية، نحو الجذع ثمّ الجذور. فأجدني أتحسّسُ جزءا أكثر صلابة في شجرة الصُّمود. كتبتُ وأنا عند الجذع تحديدا:
"أبي اسمه عمّار، وهو كجلّ الآباء في مدينتي. أوّل شيء يُتقنه الأب هنا، هو أن يصبر ويصبر ويصبر. عليه أن يحتوي كلّ الصبر الذي في العالم، كي يبُثّه في أسرته. إنّه قبس من الصبر والأمل. ولو مثّلناه أسطورة لكان رجلا يمتصّ الطوفان على مشارف اليابسة، ليُبخّره ويعيده غيثا يغسلُ العالم من ذنوبه.
وعند الجذور قلتُ:
أمّا الأمّ في مدينتنا، فما أعظمها! أمّي هي التي تضمّد جراحنا جميعا. دموعُها تنسكبُ في الداخل كي لا نراها. إنّها تتحمّل كل شيء. الأمومة وحدها عبء ثقيل، وهي تحمل فوقها العالم كلّه. أمّي تتحمّل منذ ولادتنا أوجاعا أصعب من آلام الحمل والولادة. فآلام الأمّ في مدينتنا درجات، وأقساها أن ترى الامُّ أبناءها يعيشون عالما، الفراغُ أفضل منه. ذهب إخوتي كلّهم وبقيتُ أنا. وقد صارت اليوم تُفضي إلينا بفيض شوقها. إنّها تشتري من أبي الأمل كلّ صباح مقابل لحظات هدوء خالية من الشكاوى.
"ياسر بخير، هو يدرُس ليُصبح طبيبا قد الدُّنيا." يقول لها أبي، ويستطرد:
"رُقيّة ستتصّل بك بعد قليل كعادتها كلّ مساء وستسمعين أخبارها. وقد نذهب إليها العام القادم، وسنُمضي أسبوعا".
تسمعُ أمّي منه هذه اللازمة التي يكررها كل يوم، وعندما يصل إلى هذه الكلمة تقول دائما: "نمضي شهرا وليس أسبوعا" وهو يُكمل: "حسنا اتفقنا." ثمّ يواصل: "وعبد اللّه تعرفينه، إنّه فتى شاطر."
تنظُر إليه شزرا، يفهم أبي قصدها، ويُجيبُ نظرتها دون أن يُحمّلها عناء الكلام قائلا: "أنا أعرف. أنا أعرف لقد اشتقت إليهم. ما عسانا نفعل؟ كلّنا في الشوقُ شرقُ".
كتبتُ كل هذا على تلك الصفحة من مُدوّنتي وتوقّفت. محوتُ كلّ ما كتبتُه، بعدما أحسستُ أن ذلك الشعور الذي حملني كجواد أصيل غير مروّض، قد استقرّ في مكان رحب هو كالبراري. في هذا الوقت بالذّات، باغت سمعي ذلك الرنين الذي يحدثه سكايب. وصلتني رسالة أخرى من أخي عبد الله: "ألا تجيب؟ هل تذكرُ حديث البارحة؟ أم تُراك تراجعت؟".
لم أقدر على الإجابة. إحساسي بنقيضيه الأول والثاني، يخنقانني. يريد كلاهما أن تكون له اليد الطولى في تحديد مصيري.
نظرتُ من نافذتي التي تُطلّ على الأقصى. بيتنا في حارة السعدية تلك الحارة الأبيّة، والغروب من غرفتي لا أقايضه بكلّ عجائب العالم. ولا أجمل من تلك اللحظة، حيث يستتبُّ الأمان في نفسك، فيصادفُ الشمس عند مغيبها، وهي تحاذي قبة الصخرة، فلا تدري أيّهما الشمس.
أقنعني العصفور في النهاية بالخروج، وقبل ذلك عُدتُ لرسالة أخي عبد الله. وكتبتُ:
"اعذرني أخي، عليّ أن أكون هنا لأرى هذا الغروب. وعليّ أن أمكث هنا أكثر كي أشهد الشروق".
تركتُ الرسالة جانبا ورُحتُ أكتُب في مُدوّنتي على الإنترنت. إنّها نافذتي الوحيدة على العالم. أنا هنا حرّ طليق، أفعل ما أشاء. أمّا الواقع فسجن كبير.
أخي الأكبر، ياسر، يدرس في إيطاليا. منذ خمس سنوات لم تُشاهدهُ أمي المسكينة إلّا من وراء شاشة الكمبيوتر. وأختي، رقيّة، تزوّجها كريم، شابّ أردني من الكرك. أنا سعيد لأجلهما. أمّا أخي، عبد الله، صاحب الرسالة فيكبرني بسنتين. لقد فارقنا منذ شهور قليلة. لطالما أراد الخروج من هذه الشرنقة الكبرى. استسلم، أو بالأحرى قال لليأس: "لا" وعانق الحياة كما يزعُم هو.
مثلت صورتُه أمام عينيّ. أتذكّر حينما قال لي: "لا يا أخي الصغير، الاستسلام شيء آخر".
وجدتُ في مدونتي رسالة، يبدو أنّ صاحبها من كوكب آخر. يسألني من أين أنا؟ ألم ينظر إلى الصور؟ رغم ذلك أجبته وأنا أتصنّع الغموض:
أقطُن مدينة تُعطي لنصف ساكنيها، إحساسا ذو نقيضين: الإحساس الأول رغبة غريبة في الهرب وكأنّك في سجن. والثاني أن تشعر بأنّك في مدينة لا تريد مغادرتها إلى أي مكان آخر. تُريد أن تطأ قدماك كل شبر من أرضها. تودُّ لو تدُقُّ كل البيوت وتُسلّم على من فيها وتُخبرهم بأنّك صامد مثلهم، وبأنّك لن تهرب. على الأقل في الوقت الحالي.
يغمرني الشعور الثاني في أكثر الأحيان. وأتمنّى حينما يستبدّ بي لو أصير سريعا سوبرمان هذه المدينة. أُحقق العدالة فيها، وأمحقُ الظلم الذي استشرى كالعفن. حتّى أصاب العالم كلّه.
مدينتي المقدّسة تلوّثت بفوضى البشر ونفايات السياسة النتنة. العيشُ فيها فيلم لم يُصوّر بعد لأنّه لا فائدة منه. فما الجدوى من مشاهدة فيلم تراه واقعا كلّ يوم؟ إنّه مسلسل لا تنتهي حلقاته.
ظُلمُ الآخر يتمثّلُ مُهرّجا شريرا يقتلُنا ويُضحكهم. وكي لا يكتشف العالمُ خُدعته الخفيّة، تراه يتلاعب بكرات الموت. ليس لها لون غير ألوان الخوف والدم.
سألتُ صاحبنا في المدوّنة: "هل عرفت مدينتي؟"
لم يُجب. لم يكن ينتظر جوابا كثيفا وكثير المفردات كهذا. لكنّه سألني بعد لحظات: "ومن أنت؟"
أحسستُ وكأنّي أخاطب إنسانا آليا، لا يحمل في رقاقته الإلكترونية غير عدد مُبرمج من الأسئلة والأجوبة. أو لعلّه جاسوس إلكتروني. لست أعلم، فأمثاله يترصّدوننا وينصبون لنا الكمائن حتّى في العالم الافتراضي.
ولأنّني كنتُ فارغا عاطلا، أجبتُه بتذاكي.
أنا، من أنا؟ أنا كائن يعيشُ في مناخ مُشبّع بالعسكر، بالأسيجة، بالأسلحة، بالجرافات وبنقاط التفتيش. أنا أكثر من مُراقب؛ أنا مُهدّد، لا بل أنا مُعرّض للانقراض. لكن حمدا لله لن أنقرض. أتدري لماذا؟ لأنّ موّرثات جنسنا ـ نحن الصامدون ـ تتكوّن كاليخضور في أوراق الزيتون والليمون والزيزفون وفي جذورها. وأصلُها من التراب والشمس اللّذان يُغذّيانها...
نظرتُ من نافذة غرفتي. كان هناك عصفور يدعوني للخروج. قُلتُ له: "ليت عالمنا بسيط مثل عالمكم!"
عالمُنا بسيط في الأصل لكنّنا عقّدناه. صار معقّدا لدرجة أن هذا العالم القرية، يشتمُّ فيه الجارُ حريق جاره، بل يتفرّج على ناره بينما يتناولُ الفستق. وقد يرقص عليها كالهنود الحمر.
وجدتُ مشاعري تدفعُ أطراف أناملي، لأن تدقّ أكثر على لوحة المفاتيح. انتقلتُ إلى صفحة من مدّونتي كانت فارغة. إنّها صفحة: (من أنا؟)
ورحتُ أستطردُ، تاركا حيّز الأنا الضعيف ملتجئا إلى حيّز أقوى، كأنّي أنزل من أغصان غضّة طرية، نحو الجذع ثمّ الجذور. فأجدني أتحسّسُ جزءا أكثر صلابة في شجرة الصُّمود. كتبتُ وأنا عند الجذع تحديدا:
"أبي اسمه عمّار، وهو كجلّ الآباء في مدينتي. أوّل شيء يُتقنه الأب هنا، هو أن يصبر ويصبر ويصبر. عليه أن يحتوي كلّ الصبر الذي في العالم، كي يبُثّه في أسرته. إنّه قبس من الصبر والأمل. ولو مثّلناه أسطورة لكان رجلا يمتصّ الطوفان على مشارف اليابسة، ليُبخّره ويعيده غيثا يغسلُ العالم من ذنوبه.
وعند الجذور قلتُ:
أمّا الأمّ في مدينتنا، فما أعظمها! أمّي هي التي تضمّد جراحنا جميعا. دموعُها تنسكبُ في الداخل كي لا نراها. إنّها تتحمّل كل شيء. الأمومة وحدها عبء ثقيل، وهي تحمل فوقها العالم كلّه. أمّي تتحمّل منذ ولادتنا أوجاعا أصعب من آلام الحمل والولادة. فآلام الأمّ في مدينتنا درجات، وأقساها أن ترى الامُّ أبناءها يعيشون عالما، الفراغُ أفضل منه. ذهب إخوتي كلّهم وبقيتُ أنا. وقد صارت اليوم تُفضي إلينا بفيض شوقها. إنّها تشتري من أبي الأمل كلّ صباح مقابل لحظات هدوء خالية من الشكاوى.
"ياسر بخير، هو يدرُس ليُصبح طبيبا قد الدُّنيا." يقول لها أبي، ويستطرد:
"رُقيّة ستتصّل بك بعد قليل كعادتها كلّ مساء وستسمعين أخبارها. وقد نذهب إليها العام القادم، وسنُمضي أسبوعا".
تسمعُ أمّي منه هذه اللازمة التي يكررها كل يوم، وعندما يصل إلى هذه الكلمة تقول دائما: "نمضي شهرا وليس أسبوعا" وهو يُكمل: "حسنا اتفقنا." ثمّ يواصل: "وعبد اللّه تعرفينه، إنّه فتى شاطر."
تنظُر إليه شزرا، يفهم أبي قصدها، ويُجيبُ نظرتها دون أن يُحمّلها عناء الكلام قائلا: "أنا أعرف. أنا أعرف لقد اشتقت إليهم. ما عسانا نفعل؟ كلّنا في الشوقُ شرقُ".
كتبتُ كل هذا على تلك الصفحة من مُدوّنتي وتوقّفت. محوتُ كلّ ما كتبتُه، بعدما أحسستُ أن ذلك الشعور الذي حملني كجواد أصيل غير مروّض، قد استقرّ في مكان رحب هو كالبراري. في هذا الوقت بالذّات، باغت سمعي ذلك الرنين الذي يحدثه سكايب. وصلتني رسالة أخرى من أخي عبد الله: "ألا تجيب؟ هل تذكرُ حديث البارحة؟ أم تُراك تراجعت؟".
لم أقدر على الإجابة. إحساسي بنقيضيه الأول والثاني، يخنقانني. يريد كلاهما أن تكون له اليد الطولى في تحديد مصيري.
نظرتُ من نافذتي التي تُطلّ على الأقصى. بيتنا في حارة السعدية تلك الحارة الأبيّة، والغروب من غرفتي لا أقايضه بكلّ عجائب العالم. ولا أجمل من تلك اللحظة، حيث يستتبُّ الأمان في نفسك، فيصادفُ الشمس عند مغيبها، وهي تحاذي قبة الصخرة، فلا تدري أيّهما الشمس.
أقنعني العصفور في النهاية بالخروج، وقبل ذلك عُدتُ لرسالة أخي عبد الله. وكتبتُ:
"اعذرني أخي، عليّ أن أكون هنا لأرى هذا الغروب. وعليّ أن أمكث هنا أكثر كي أشهد الشروق".