جاء في الجزء الخامس والستين من كتاب " إتحاف الخلان ":
حدثنا شيخنا أبو الفضل النجداني، قال:
أخبرني الشيخ مستهل الغَنَويّ ، الملقب بلعاب المَنية ، قال:
كنتُ وزيراً للشرطة و الجواسيس في حكومة المستبد بالله، فطلبتُ لقاءه يوما كي أحيطه علما بآخرالأخبار عن أعداء نجدان ، و توجهتُ إليه حيث ينتظرني ، في القاعة الكبرى بقصر الطغيان ، فوجدته جالسا على سرير المُلك، ممسكا سبحة بيمناه ، وبالقرب منه صورته الرسمية في إطار من الذهب الخالص ، و قد كُتبَ تحتها بخط كوفي بديع ( كلا، إن الإنسان ليطغى) . فلما وقفتُ بين يديه حييتُه بتحية الطغاة ، ثم قلتُ له :
- يا مولاي المستبد بالله، بلغَنا أن بعض أعداء الأمة من شعراء الشواهد النحوية قد استطاعوا الانتقال خفية من نجدان العاصمة إلى حاضرة درَنْسيب ، على ضفة النهر المتبخر.
فقطب حاجبيه و اكتفى بالقول :
- فلا يَغْرُرْك تقلُّبُهمْ في البلاد .
قلت :
- و اعلم يا مولاي أن رجالَنا هناك يتربصون بأولئك المجرمين ليلا و نهارا للانقضاض عليهم حالما تسنح الفرصة.
فحرك رأسه و قال :
- قلْ تربّصُوا فإني معكم من المتربصين .
قلت :
- و أما شعراء الضرورة ، يا مولاي ، فلم يبق أحد منهم طليقا في أرض نجدان الآمنة .
فلما سمع المستبد ذلك ، نظر إلي متفرسا ثم قال :
- فما بكت عليهم السماء و الأرض و ما كانوا منظَرين.
قلت و قد اعتراني شيء من الارتباك :
- و قد أخبرناكم في حينه، يا مولاي ، باعتقال واحد من كبار أعداء الأمة ، و هو الخطيب التبريزي ، قبضنا على عدوّ الله بأحد المطاعم و أمامه أصناف لا تُعد من الطعام و ألوان لا تُحصى من الشراب .
فرفع المستبد عينيه إلى السقف و بقي يتأمل نقوشه قبل أن يقول:
- قلْ لا يستوي الخبيثُ و الطيبُ و لو أعجبك كثرة ُ الخبيث.
فبقيتُ صامتا لدى سماع تلك الآية غير أنه أشار إلي بأن أستمر فقلت :
- و أما الشعراء العُشْي ، فقد أظفرَنا الله بهم ، فاعتقلنا منهم أعشى قيس و أعشى باهلة و أعشى بني نهشل و أعشى بني سليم.
فلما فرغتُ من كلامي ذاك ، نظر إلي الطاغية نظرة انخلع لها قلبي من مكانه و قال لي :
- هم الشعراء الأعشون ، أو إن شئتَ فهُم العُشْو ، أيها الشيخ الوزير ، فلمَ تقول العُشْي ؟
ثم إنه سكت قليلا كما يفعل دائما في مثل هذه المواقف و عاد يقول :
- و لا تهنُوا و لا تحزنوا و أنتم الأعْلَون إن كنتم مؤمنين .
قال الشيخ لعاب المنية :
فصرتُ و الله أبلع ريقي بصعوبة، لكنني واصلت قائلاً :
- و قد أظفرنا الله أيضا بالرجاز المارقين ، الخارجين على إجماع الأمة ، و سيرناهم في القيود إلى جزيرة دهلك ، بأمر منكم يا مولاي.
فابتسم الطاغية لما ذكرتُ له اعتقال الرجاز و ما كان من نفيهم إلى تلك الجزيرة السحيقة ، ثم قال:
- و تَرى المجرمين يومئذ مُقَرَّنين في الأصفاد.
قال الشيخ الوزير :
فلم أزل أعرض عليه الأخبار و هو يجيبني بآيات من كتاب الله و أنا أعجب من حضور بديهته و من قوة ذاكرته إلى أن أمرني بالانصراف فغادرت القصر مسرورا بالنجاة من غضبه ، و لما بلغت الباب الخارجي استرعت انتباهي لوحة كبيرة من الأبنوس معلقة بأعلى ذلك الباب و قد نُقش عليها بخط لا مثيل له في الجمال: " إنما العاجز من لا يستبد ."
حدثنا شيخنا أبو الفضل النجداني، قال:
أخبرني الشيخ مستهل الغَنَويّ ، الملقب بلعاب المَنية ، قال:
كنتُ وزيراً للشرطة و الجواسيس في حكومة المستبد بالله، فطلبتُ لقاءه يوما كي أحيطه علما بآخرالأخبار عن أعداء نجدان ، و توجهتُ إليه حيث ينتظرني ، في القاعة الكبرى بقصر الطغيان ، فوجدته جالسا على سرير المُلك، ممسكا سبحة بيمناه ، وبالقرب منه صورته الرسمية في إطار من الذهب الخالص ، و قد كُتبَ تحتها بخط كوفي بديع ( كلا، إن الإنسان ليطغى) . فلما وقفتُ بين يديه حييتُه بتحية الطغاة ، ثم قلتُ له :
- يا مولاي المستبد بالله، بلغَنا أن بعض أعداء الأمة من شعراء الشواهد النحوية قد استطاعوا الانتقال خفية من نجدان العاصمة إلى حاضرة درَنْسيب ، على ضفة النهر المتبخر.
فقطب حاجبيه و اكتفى بالقول :
- فلا يَغْرُرْك تقلُّبُهمْ في البلاد .
قلت :
- و اعلم يا مولاي أن رجالَنا هناك يتربصون بأولئك المجرمين ليلا و نهارا للانقضاض عليهم حالما تسنح الفرصة.
فحرك رأسه و قال :
- قلْ تربّصُوا فإني معكم من المتربصين .
قلت :
- و أما شعراء الضرورة ، يا مولاي ، فلم يبق أحد منهم طليقا في أرض نجدان الآمنة .
فلما سمع المستبد ذلك ، نظر إلي متفرسا ثم قال :
- فما بكت عليهم السماء و الأرض و ما كانوا منظَرين.
قلت و قد اعتراني شيء من الارتباك :
- و قد أخبرناكم في حينه، يا مولاي ، باعتقال واحد من كبار أعداء الأمة ، و هو الخطيب التبريزي ، قبضنا على عدوّ الله بأحد المطاعم و أمامه أصناف لا تُعد من الطعام و ألوان لا تُحصى من الشراب .
فرفع المستبد عينيه إلى السقف و بقي يتأمل نقوشه قبل أن يقول:
- قلْ لا يستوي الخبيثُ و الطيبُ و لو أعجبك كثرة ُ الخبيث.
فبقيتُ صامتا لدى سماع تلك الآية غير أنه أشار إلي بأن أستمر فقلت :
- و أما الشعراء العُشْي ، فقد أظفرَنا الله بهم ، فاعتقلنا منهم أعشى قيس و أعشى باهلة و أعشى بني نهشل و أعشى بني سليم.
فلما فرغتُ من كلامي ذاك ، نظر إلي الطاغية نظرة انخلع لها قلبي من مكانه و قال لي :
- هم الشعراء الأعشون ، أو إن شئتَ فهُم العُشْو ، أيها الشيخ الوزير ، فلمَ تقول العُشْي ؟
ثم إنه سكت قليلا كما يفعل دائما في مثل هذه المواقف و عاد يقول :
- و لا تهنُوا و لا تحزنوا و أنتم الأعْلَون إن كنتم مؤمنين .
قال الشيخ لعاب المنية :
فصرتُ و الله أبلع ريقي بصعوبة، لكنني واصلت قائلاً :
- و قد أظفرنا الله أيضا بالرجاز المارقين ، الخارجين على إجماع الأمة ، و سيرناهم في القيود إلى جزيرة دهلك ، بأمر منكم يا مولاي.
فابتسم الطاغية لما ذكرتُ له اعتقال الرجاز و ما كان من نفيهم إلى تلك الجزيرة السحيقة ، ثم قال:
- و تَرى المجرمين يومئذ مُقَرَّنين في الأصفاد.
قال الشيخ الوزير :
فلم أزل أعرض عليه الأخبار و هو يجيبني بآيات من كتاب الله و أنا أعجب من حضور بديهته و من قوة ذاكرته إلى أن أمرني بالانصراف فغادرت القصر مسرورا بالنجاة من غضبه ، و لما بلغت الباب الخارجي استرعت انتباهي لوحة كبيرة من الأبنوس معلقة بأعلى ذلك الباب و قد نُقش عليها بخط لا مثيل له في الجمال: " إنما العاجز من لا يستبد ."