ما أن ضغطت على جرس الباب الخشبي الضخم العتيق حتى هرول لفتحه واستقبالي ثلاثة صبية بكل ما يحملون من براءة الطفولة ومن كنوزها المخبوءة فيهم. فتحت ذراعي على مصراعيهما، انحنيت قليلا وأخذتهم ثلاثتهم في حضن واحد وأمعنت فيهم تقبيلا بكل ما يكنه لهم قلبي من حب وشغف. إنهم أبناء أخي أحمد.
دون شعور مني ولا تفكير قادتني قدماي إلى الطابق الأول. توقفت حيثما أراد لاشعوري أمام غرفة بعينها. أدرت المفتاح الساكن في ثقب بابها. لفحتني رائحة الرطوبة وأنا أخطو أولى خطواتي داخلها. أسرعت إلى النافذة المقابلة لعين الشمس أشرعها، فتسلل شعاع ذهبي بدد الظلام وأضفى دفئا على المكان، واقتحم الغرفة هواء صباحي منعش.
طفت بأرجاء الغرفة ونفسي رازحة تحت عبء من الذكرى والحنين، أقلب ناظري في محتوياتها التي ما زالت على حالها تراوح مواضعها كما عهدتها منذ زمان.
لم أكن أدري أن للمكان وجعا وللأشياء وجعا. لم أكن أعرف أن الجدران والأسرة والخزائن والكراسي والسجاد يمكن أن تحدث الألم في الروح بكل هذا العمق حتى نحسه في الجسد. يؤلمنا المكان حين لا نجد ذلك الذي نحبه حيث يمكن أن يكون ماديا وروحيا بين أشيائه، ونجده معنويا في كل مكان حيث نكون.
رنوت طويلا إلى صورة قد اتخذت مكانها بعناية منذ زمن، لكنني لم أكن أنتبه لوجودها لاعتيادي عليها. تأملتها مليا حيث أدنيتها من ناظري الذين يستعينان بنظارات طبية. شعرت بالدمع يدب في أعماق عيني، ثم ما لبث أن سال مدرارا على وجنتي، وانعقدت سيوله في أسفل ذقني، ثم تقاطرت حباته كيفما اتفق لها.
ها أنا وجها لوجه معك أبي، لكن صمتا رهيبا يفصل بيننا على غير العادة، لم يرد أن يتبدد ولا أن تنقشع غيومه فيرحل. شُد بصري إليك مشدوها في استطلاع ودهشة. ألا يمكن أن تقع المعجزة فتكلمني أبي، فأهرع إليك بكل قلبي وأرتمي في أحضانك؟
هذا الحزن الذي يطوقني كان قد سقط ذات غفلة بذرة في هذا البيت. ارتوى من دموعنا حتى ترعرع وصار شجرة وارفة نستظل بظلها بعد أن غاب عنا ظل أبي.
تفرع الحزن في وتفرعن علي. لكأنني كنت في شوق إليه حين قدم يوما يسكنني، سارعت إليه وأخذته بالأحضان. لم أكن أعلم أنه يتقن فن الاحتلال فاحتلني، استوطن في وشاركني المكان. أما آن له أن يلملم أطراف شمله ويرحل عني بعيدا؟
يوم فقدتك يا أبت، فقدت معك الحياة جميعها في من فقدت. تمنيت لو مت هناك لما احتضنتك للوداع. لم أنس تلك الوقفة الرهيبة وأنا أغالب ما أكتم من وجعي، والصبر خانه الكبت بصدري. النار تتقد بجوانحي وكأن زيتا يراق على جوانبها. غالبت في سري قضاء الله لكني غلبت.
عصفت العاصفة عصفها فصار البيت من دونك كهفا. رحلت يا أبت منحنيا تحت أوجاعك، محتميا بصبرك وإيمانك.
ها أنت كما أنت أبي؛ ما زلت شامخا في الصورة كما كنت في واقع الحياة؛ لكأنك لم ترحل. ما زلت أراك في ملامح زياد، في عيون رائد، وأسمعك بصوت أحمد. وفي كل جزء من بيتك ما زلت حاضرا كما الأمس، تحتل الأماكن حيث كنت.
ارتميت على كرسي وأغمضت عيني واتكأت على حائط الصبر وأبحرت في الماضي أجتر الأحداث. استسلمت إلى موجة من الذكريات اجتاحتني كالطوفان. رجتني كما الزلازل والبراكين وحملتني إلى حيث شاءت.
ركعت أمام ذكريات هجمت على الذاكرة تتدافع و تتزاحم، أنتقي منها ما كان ناصعا جليا، أحدق بها وأقلبها على أوجهها.
بقيت على هذا الحال وكأن الزمان قد توقفت لحظاته. أيقظتني فجأة نبرة صوت أبي، فانتفضت من شرودي وهرعت ألتقي صاحب الصوت. كان أخي أحمد، أغلى هدية جاد بها الزمان علي. زاد نشيجي وأنا أرتمي في أحضانه.
دون شعور مني ولا تفكير قادتني قدماي إلى الطابق الأول. توقفت حيثما أراد لاشعوري أمام غرفة بعينها. أدرت المفتاح الساكن في ثقب بابها. لفحتني رائحة الرطوبة وأنا أخطو أولى خطواتي داخلها. أسرعت إلى النافذة المقابلة لعين الشمس أشرعها، فتسلل شعاع ذهبي بدد الظلام وأضفى دفئا على المكان، واقتحم الغرفة هواء صباحي منعش.
طفت بأرجاء الغرفة ونفسي رازحة تحت عبء من الذكرى والحنين، أقلب ناظري في محتوياتها التي ما زالت على حالها تراوح مواضعها كما عهدتها منذ زمان.
لم أكن أدري أن للمكان وجعا وللأشياء وجعا. لم أكن أعرف أن الجدران والأسرة والخزائن والكراسي والسجاد يمكن أن تحدث الألم في الروح بكل هذا العمق حتى نحسه في الجسد. يؤلمنا المكان حين لا نجد ذلك الذي نحبه حيث يمكن أن يكون ماديا وروحيا بين أشيائه، ونجده معنويا في كل مكان حيث نكون.
رنوت طويلا إلى صورة قد اتخذت مكانها بعناية منذ زمن، لكنني لم أكن أنتبه لوجودها لاعتيادي عليها. تأملتها مليا حيث أدنيتها من ناظري الذين يستعينان بنظارات طبية. شعرت بالدمع يدب في أعماق عيني، ثم ما لبث أن سال مدرارا على وجنتي، وانعقدت سيوله في أسفل ذقني، ثم تقاطرت حباته كيفما اتفق لها.
ها أنا وجها لوجه معك أبي، لكن صمتا رهيبا يفصل بيننا على غير العادة، لم يرد أن يتبدد ولا أن تنقشع غيومه فيرحل. شُد بصري إليك مشدوها في استطلاع ودهشة. ألا يمكن أن تقع المعجزة فتكلمني أبي، فأهرع إليك بكل قلبي وأرتمي في أحضانك؟
هذا الحزن الذي يطوقني كان قد سقط ذات غفلة بذرة في هذا البيت. ارتوى من دموعنا حتى ترعرع وصار شجرة وارفة نستظل بظلها بعد أن غاب عنا ظل أبي.
تفرع الحزن في وتفرعن علي. لكأنني كنت في شوق إليه حين قدم يوما يسكنني، سارعت إليه وأخذته بالأحضان. لم أكن أعلم أنه يتقن فن الاحتلال فاحتلني، استوطن في وشاركني المكان. أما آن له أن يلملم أطراف شمله ويرحل عني بعيدا؟
يوم فقدتك يا أبت، فقدت معك الحياة جميعها في من فقدت. تمنيت لو مت هناك لما احتضنتك للوداع. لم أنس تلك الوقفة الرهيبة وأنا أغالب ما أكتم من وجعي، والصبر خانه الكبت بصدري. النار تتقد بجوانحي وكأن زيتا يراق على جوانبها. غالبت في سري قضاء الله لكني غلبت.
عصفت العاصفة عصفها فصار البيت من دونك كهفا. رحلت يا أبت منحنيا تحت أوجاعك، محتميا بصبرك وإيمانك.
ها أنت كما أنت أبي؛ ما زلت شامخا في الصورة كما كنت في واقع الحياة؛ لكأنك لم ترحل. ما زلت أراك في ملامح زياد، في عيون رائد، وأسمعك بصوت أحمد. وفي كل جزء من بيتك ما زلت حاضرا كما الأمس، تحتل الأماكن حيث كنت.
ارتميت على كرسي وأغمضت عيني واتكأت على حائط الصبر وأبحرت في الماضي أجتر الأحداث. استسلمت إلى موجة من الذكريات اجتاحتني كالطوفان. رجتني كما الزلازل والبراكين وحملتني إلى حيث شاءت.
ركعت أمام ذكريات هجمت على الذاكرة تتدافع و تتزاحم، أنتقي منها ما كان ناصعا جليا، أحدق بها وأقلبها على أوجهها.
بقيت على هذا الحال وكأن الزمان قد توقفت لحظاته. أيقظتني فجأة نبرة صوت أبي، فانتفضت من شرودي وهرعت ألتقي صاحب الصوت. كان أخي أحمد، أغلى هدية جاد بها الزمان علي. زاد نشيجي وأنا أرتمي في أحضانه.