في كتابه الجديد “تمثلات العجيب في السيرة الشعبية العربية” الصادر ما بين دمشق وبغداد، يتناول الشاعر والباحث الأكاديمي العراقي صفاء ذياب، سيرة الملك سيف بن ذي يزن بما فيها من عجائب وغرائب. صدر الكتاب عن “دار صفحات للدراسات والنشر” بدمشق بالاشتراك مع “دار ميزوبوتاميا” في بغداد و”دار وراقون” في البصرة.
في مقدمة الكتاب يركز صفاء ذياب على أهمية السيرة الشعبية العربية التي تشكل محورًا مهما من محاور السرد العربي القديم والتي لم تكتب إلا في عصور متأخرة بعد أن كانت لزمن طويل نصًا شفاهيًا يحكى في المجالس والمقاهي الشعبية وهو ما تسبب في إهمالها من قبل الثقافة الرسمية على مدى قرون طويلة رغم أن السيرة الشعبية هي نصّ ثقافي بامتياز لأن تأليفه وروايته مرت بمراحل متعددة.
وبسؤاله عن أسباب اهتمامه والبحث في سيرة الملك سيف بن ذي يزن، يؤكد ضيفنا أنه “لم تكن السيرة محط اهتمامي حتى مرحلة متأخرة من بحثي، بل إن ما أثار اهتمامي على مدى سنوات طويلة هو العقلية العربية المنتجة للسرديات الكبرى، بدءاً من كتاب ‘التيجان في ملوك حمير’ لوهب بن منبه، الذي يعدُّ الكتاب السردي الأول عربياً، ومن ثمَّ كتب الجاحظ وأبي حيّان التوحيدي، والمبرَّد، وغيرها.
هذه المصادر جعلتني أفكر في البنية العقلية العربية وكيفية تشكُّلها”. وفي ملاحظة بسيطة، يلاحظ أن “العرب كانت تفكّر بشكل أو بآخر بالماورائيات وتفسير الحقائق، والبحث عن الجذور الأولى لتشكُّل الكون. لتأتي بعد ذلك الكتب الدينية، ليس بمعناها التشريعي، بل بما تحتويه من عجائبيات الأنبياء والأولياء ومن ينظر لهم الناس على أنّ لهم قدرات فوقية، إن كانت من عند الإله، أو بما حصل عليه من خلال التجربة.
هذه الحيثيات الأولية بدأت تسحب يدي إلى ما يفكّر به العامة من الناس، ومن مراجعة بسيطة لما قدّمه ليفي شتراوس في بحثه عن الجماعات البدائية وإنتاج الثقافة الشعبية، كانت الرؤى تذهب إلى الحكاية الشعبية العربية وطرائق إنتاجها، إلا أن القراءات الكثيرة دفعتني للاهتمام بالسيرة الشعبية التي كانت تجمع بين دفتيها الحكايات الشعبية والنظرة الدينية والطبقات الاجتماعية، وبالتالي ستكون جامعة لما قدمته العقلية العربية على مدى قرون طويلة من تفكيرها وإنتاجها للثقافة”.
ويضيف صفاء ذياب قائلا “لهذا كان من أهمّ دوافعي لدراسة السيرة الشعبية العربية محاولة فهم هذه العقلية وطرائق إنتاج ثقافتها، ومن ثمَّ حكاياتها. وبعد مراجعة بسيطة للسير، مثل سيرة عنترة بن شداد، وسيرة ذات الهمة، وسيرة الظاهر بيبرس، وغيرها، ستلحظ اختلاف سيرة سيف بن ذي يزن عن بقية السير، لكون راويها سعى لتقديم أهم ما أنتجه العقل العربي على مدى قرون طويلة، وإيمانه الكبير بالماورائيات التي تضم بين دفتيها العجائبيات، تلك التي عُرف العرب بأنهم من أهم من فكر بها وأعاد إنتاجها منذ نشأتهم الأولى”.
العجيب والعجائبي
يحدثنا ضيفنا عن أهمّ الخلاصات الرئيسية التي توصل إليها في دراسته حول عجائب هذه السيرة فيقول “ربما أستطيع أن أقول إن من أهم ما فهمته من خلال البحث والتنقيب في الكتب العربية والمترجمة، والتي يقف على رأسها كتاب تزفيتان تودوروف ‘مدخل إلى الأدب العجائبي’، أن ما يجب أن يدرس في موضوع العجائبيات النصوص التي لها مرجعية تاريخية، مثل السّيرة الشعبية والحكاية الشعبية ونصوص التاريخ، أو النصوص التي تدور حول شخصيات تاريخية أو من يؤمن القارئ بها بأنها شخصية واقعية ولها وجود حقيقي.
لهذا كان الاختيار عائدا لأمرين مهمين في هذا الكتاب، الأول سيرة سيف بن ذي يزن، الذي تؤكد كتب التاريخ على وجوده، والثاني دراستي ‘العجيب’ في هذه السيرة، وليس العجائبي أو الغريب. وهذا راجع لأسباب كثيرة، من أهمها أن العجائبي باعتباره جنسا من الصعب الإمساك به وقراءته، فهو جنس متلاشٍ أبداً، يدوم للّحظات التي يشعر فيها المتلقي بالقلق والحيرة والخوف والدهشة، ومن ثمَّ ينتهي هذا الجنس ليكون أحد جنسين موازيين له، العجيب أو الغريب بحسب تودوروف. فالعجيب هو ما يدرس به الكتب التي تدور حول شخصيات لها مرجع حقيقي، أما الغريب فيمكن دراسة ما عدا ذلك، من روايات وأحلام وتوهم”.
ويعقّب صفاء ذياب قائلاً “غير أننا وجدنا أن أغلب النقاد انشغلوا بالعجائبي وأهملوا الجنسين الموازيين له، فدرسوه في الرواية والقصة، في الوقت الذي كان على النقاد والباحثين أن يدرسوا كلاّ من العجيب والغريب بالدرجة نفسها من الأهمية التي درسوا فيها العجائبي، لأن الأخير لا يخرج عن كونه حالة انتقالية بين جنسين يتشكل من خلالهما؛ وهما العجيب والغريب، ومن ثمَّ يبقى العجائبي رهناً بالخطاب البلاغي المتمثل باللغة أكثر مما هو بنية صورية تثير القارئ أو المتلقّي، فما يربط بين المرسل والمرسل إليه هو ذلك اللفظ الذي يثير الدهشة أكثر من الصور المتخيّلة أو المبنية على أساس خلخلة أفق التوقع. في حين يكون التخييل من بنية العجيب وليس العجائبي، والأول هو ما يؤدي إلى التردد اللازم لتشكل جنس العجائبي (المتلاشي دائماً). لهذا عُدَّ العجيب أصلاً للعجائبي وليس العكس.
ويضيف ذياب قائلا “إذا كان العجيب مرتبطاً بالتخييل، فإن العجائبي يرتبط بالفعل. فلا يمكن أن نصف شخصية بأنها شخصية عجائبية، بل يجب وصفها بالعجيبة إذا كان العجيب أصلاً في بنيتها، في حين يكون الفعل العجائبي صادراً عن أيّ شخصية تقوم بفعل فوق طبيعي، إن كانت شخصية طبيعية أو عجيبة. لهذا، يختلف الفعل العجائبي عن الشخصية العجيبة، فالفعل العجائبي يحدث في لحظة واحدة لا يمكن الإمساك بها، لحظة تردّد وخوف، تحدث وتنتهي من دون أن يتمكن الراوي من وصفها وصفاً دقيقاً والإحاطة بتفاصيلها. في حين تكون الشخصية العجيبة ثابتة على عجائبيتها، لهذا يتمكن الراوي من وصفها وصفاً دقيقاً ومسترسلاً”.
تصحيح المصطلحات
نسأل مُحاورنا عن رأيه حول أسباب إهمال السيرة الشعبية العربية من قبل الثقافة الرّسمية لقرون طويلة رغم أنها محور مهمّ من محاور السرد العربي القديم؟ فيشير إلى أنه “ما زال الكتّاب العرب، والقراء من بعدهم، يرفضون أن تكون كتاباتهم شعبية، بمعنى أنهم لا يريدون أن يطلق مصطلح ‘شعبي’ على ما ينشرونه أو يتداولونه فيما بينهم. وكأن هذا المصطلح يدل على الدونية أو المستوى الأقل سمواً مما يفكرون فيه وما ينتجونه من نصوص إبداعية أو جماليات فنية بمختلف فروعها.
وفي بحثنا عن هذا المصطلح، ندرك أننا على خطأ لا يغتفر، فحين نسمّي سيرة عنترة بن شداد وحمزة البهلوان وغيرهما بـ’السيرة الشعبية’، فذلك يعني أن هناك شعباً كاملاً أو شعوباً أنتجت هذه السيرة، أما الحكاية الشعبية فلها تعبيراتها الخاصة، ومفاهيمها التي تختلف عن السرديات الأخرى. لأنها؛ أي الحكاية الشعبية، نتاج بيئة صغيرة، تحكمها ظروف وأعراف اجتماعية خاصة”.
ويضيف قائلاً “في إحدى النقاشات التي دارت حول الأدب الشعبي في اتحاد الأدباء العراقيين، قال أحد الباحثين إن الأدب الشعبي هو ما يكتب باللغة الدارجة أو العامية، وهذا هو الخطأ الكبير الذي تتداوله المقالات وبعض الدراسات، لأن كلمة شعبي تعني ‘الثقافة التي تنشأ عن شعب’ حسب ما يرى يوهان غوتفريد هردر، فكل ما يمكن أن ينتج من ثقافة في مدينة مثل بغداد أو البصرة أو الموصل أو غيرها، هي ثقافة شعبية. العقال الذي يرتديه قلة من الناس لا يسمى شعبياً، حتى يشرع الآخرون بارتدائه ليكون سمة هذه المدينة أو ذلك البلد، ليسمّى بعد ذلك شعبياً. القصة التي تذاع بين الناس، ويرددها الكبار والصغار تكون شعبية، حتى لو كانت ‘مائة عام من العزلة’ لماركيز. وهكذا يتنامى الشعبي ليغدو ثقافة بلد ما.
ومن ثمَّ كانت الثقافة السائدة على مدى أكثر من أربعة عشر قرناً هي الثقافة السلطوية، الثقافة التي لا تريد لغير خطاب الخليفة أو الملك أو الرئيس أن يكون موازياً لها، فبقيت الثقافة الشعبية؛ ومنها السيرة الشعبية والحكاية الشعبية والفولكلور، على الهامش. لذا يمكن القول بأن الشعبي هو فكرة يمكن من خلالها بناء الممارسات الثقافية والاجتماعية، وتصنيفها، غير أن هناك خطين متوازيين لا يلتقيان في مفاهيمنا الثقافية هما الشعبي والسلطوي، وكلاهما يرفض أحدهما الآخر، بحسب مفاهيم الأقوى والأضعف، حتى على مستوى التفكير الشعبي”.
السيرة ورواتها
نتابع حوارنا مع الباحث العراقي ليحدثنا عن أبرز المراحل التي مرت بها السير الشعبية تأليفًا ورواية بحسب المصادر التاريخية التي اعتمدها في دراسته، فيقول “من الصعب الوقوف عند المراحل الأولى لرواية السيرة الشعبية، لأنها نصٌّ مفتوح، لم يغلق إلا بعد تدوينه الذي تحدده الباحثة المصرية ألفت الروبي بالقرن الرابع عشر، في زمن المماليك بمصر.
غير أنه ليس من الصعب الوقوف على طبقات السيرة ورواتها، فتجد داخل فصولها وحكاياتها أكثر من راوٍ، وكل راوٍ يبني حكايته على خطابه هو، وخطاب المرحلة والزمن الذي يعيش فيه. لهذا تجد داخل السيرة تفسيرات لآيات قرآنية من جهة، وحكايات عربية وفارسية وتركية، بل وحتى أوروبية، قديمة. ربما هذا من جهة تشابه الحكايات الشفاهية بين الشعوب، لكن من الصعب تحديد أصل أيّ حكاية وجذرها والمدينة التي بدأت تروى فيها”.
ويعقب ذياب قائلا “لكن الملاحظة المهمة في دراستنا للسيرة الشعبية هي أن الخطابات تتغير في كل مرحلة من مراحلها. في بداياتها؛ مثلاً، تبحث عن استقرار الحكاية وتوجيهها بطرائق كلاسيكية، تنبني على الاستباق والاسترجاع، وسرد لولادة البطل المتفرد والمراحل الأولى لحياته، ومن ثمَّ تبدأ التحولات في رسم ملامح الشخصية والشخصيات المحيطة بها. غيرّ أن الخطابات تبدأ بالتغير وبثِّ رسائلها بعد أن يصل البطل للمواجهة، فيظهر أقوام وجماعات وشخصيات غالباً ما تكون من أعداء المدن التي دخلت معهم في حروب وصراعات منذ زمن طويل، كالصراع العربي الفارسي، أو الإسلامي اليهودي، أو الكفر والإيمان. وهذه المراحل تضاف عن طريق الرواة الذين يدسّون خطاباتهم مع كل زمن يروون فيه السيرة أو الحكايات التي بقيت حتى الآن من دون أبٍ شرعي لها”.
ويوضح ذياب ما ذهب إليه قائلاً “رسائل الرواة لم تكن مباشرة، بل كانوا يدسّون سياساتهم بطرائق شتَّى، وصولاً إلى مرحلة التدوين التي يمكن عن طريقها فهم الرسائل الكثيرة. هذا التدوين هو تحول من خطية زمنية إلى مسافة وفضاء، أي من ظواهر تدرك بالسمع إلى ظواهر تقرأ بالبصر؛ حسب ما تشير الأكاديمية التونسية نور الهدى باديس، مبينةً أن ما يصلنا مكتوباً منها يغيب عنه جوانب عدة، فبالمشافهة ومشهد إنتاج المعنى، مع حضور الأطراف، يتلقى أحدها عن الآخر بطريقة مباشرة ويتحسس المعاني والمقاصد من مكونات المشهد برمته بما فيه من عناصر مقالية وعناصر مقامية وعناصر مشهدية تتجاوز المقام في مفهومه الضيق.
لكن ماذا يحدث عندما تتحول هذه اللعبة ويصبح المتكلم كاتباً والمتلقي قارئاً؟ المهم في هذه المرحلة توقُّف الخطابات عند حدٍّ ما بدلاً من أن تبقى شفاهية يُدَسُّ فيها كل عام خطاب جديد”.
* فلسطين
أوس داوود يعقوب
* المصدر:
صفاء ذياب: سيرة "سيف بن ذي يزن" أعظم إبداعات التفكير العربي | أوس داوود يعقوب | صحيفة العرب
في مقدمة الكتاب يركز صفاء ذياب على أهمية السيرة الشعبية العربية التي تشكل محورًا مهما من محاور السرد العربي القديم والتي لم تكتب إلا في عصور متأخرة بعد أن كانت لزمن طويل نصًا شفاهيًا يحكى في المجالس والمقاهي الشعبية وهو ما تسبب في إهمالها من قبل الثقافة الرسمية على مدى قرون طويلة رغم أن السيرة الشعبية هي نصّ ثقافي بامتياز لأن تأليفه وروايته مرت بمراحل متعددة.
وبسؤاله عن أسباب اهتمامه والبحث في سيرة الملك سيف بن ذي يزن، يؤكد ضيفنا أنه “لم تكن السيرة محط اهتمامي حتى مرحلة متأخرة من بحثي، بل إن ما أثار اهتمامي على مدى سنوات طويلة هو العقلية العربية المنتجة للسرديات الكبرى، بدءاً من كتاب ‘التيجان في ملوك حمير’ لوهب بن منبه، الذي يعدُّ الكتاب السردي الأول عربياً، ومن ثمَّ كتب الجاحظ وأبي حيّان التوحيدي، والمبرَّد، وغيرها.
هذه المصادر جعلتني أفكر في البنية العقلية العربية وكيفية تشكُّلها”. وفي ملاحظة بسيطة، يلاحظ أن “العرب كانت تفكّر بشكل أو بآخر بالماورائيات وتفسير الحقائق، والبحث عن الجذور الأولى لتشكُّل الكون. لتأتي بعد ذلك الكتب الدينية، ليس بمعناها التشريعي، بل بما تحتويه من عجائبيات الأنبياء والأولياء ومن ينظر لهم الناس على أنّ لهم قدرات فوقية، إن كانت من عند الإله، أو بما حصل عليه من خلال التجربة.
هذه الحيثيات الأولية بدأت تسحب يدي إلى ما يفكّر به العامة من الناس، ومن مراجعة بسيطة لما قدّمه ليفي شتراوس في بحثه عن الجماعات البدائية وإنتاج الثقافة الشعبية، كانت الرؤى تذهب إلى الحكاية الشعبية العربية وطرائق إنتاجها، إلا أن القراءات الكثيرة دفعتني للاهتمام بالسيرة الشعبية التي كانت تجمع بين دفتيها الحكايات الشعبية والنظرة الدينية والطبقات الاجتماعية، وبالتالي ستكون جامعة لما قدمته العقلية العربية على مدى قرون طويلة من تفكيرها وإنتاجها للثقافة”.
ويضيف صفاء ذياب قائلا “لهذا كان من أهمّ دوافعي لدراسة السيرة الشعبية العربية محاولة فهم هذه العقلية وطرائق إنتاج ثقافتها، ومن ثمَّ حكاياتها. وبعد مراجعة بسيطة للسير، مثل سيرة عنترة بن شداد، وسيرة ذات الهمة، وسيرة الظاهر بيبرس، وغيرها، ستلحظ اختلاف سيرة سيف بن ذي يزن عن بقية السير، لكون راويها سعى لتقديم أهم ما أنتجه العقل العربي على مدى قرون طويلة، وإيمانه الكبير بالماورائيات التي تضم بين دفتيها العجائبيات، تلك التي عُرف العرب بأنهم من أهم من فكر بها وأعاد إنتاجها منذ نشأتهم الأولى”.
العجيب والعجائبي
يحدثنا ضيفنا عن أهمّ الخلاصات الرئيسية التي توصل إليها في دراسته حول عجائب هذه السيرة فيقول “ربما أستطيع أن أقول إن من أهم ما فهمته من خلال البحث والتنقيب في الكتب العربية والمترجمة، والتي يقف على رأسها كتاب تزفيتان تودوروف ‘مدخل إلى الأدب العجائبي’، أن ما يجب أن يدرس في موضوع العجائبيات النصوص التي لها مرجعية تاريخية، مثل السّيرة الشعبية والحكاية الشعبية ونصوص التاريخ، أو النصوص التي تدور حول شخصيات تاريخية أو من يؤمن القارئ بها بأنها شخصية واقعية ولها وجود حقيقي.
لهذا كان الاختيار عائدا لأمرين مهمين في هذا الكتاب، الأول سيرة سيف بن ذي يزن، الذي تؤكد كتب التاريخ على وجوده، والثاني دراستي ‘العجيب’ في هذه السيرة، وليس العجائبي أو الغريب. وهذا راجع لأسباب كثيرة، من أهمها أن العجائبي باعتباره جنسا من الصعب الإمساك به وقراءته، فهو جنس متلاشٍ أبداً، يدوم للّحظات التي يشعر فيها المتلقي بالقلق والحيرة والخوف والدهشة، ومن ثمَّ ينتهي هذا الجنس ليكون أحد جنسين موازيين له، العجيب أو الغريب بحسب تودوروف. فالعجيب هو ما يدرس به الكتب التي تدور حول شخصيات لها مرجع حقيقي، أما الغريب فيمكن دراسة ما عدا ذلك، من روايات وأحلام وتوهم”.
ويعقّب صفاء ذياب قائلاً “غير أننا وجدنا أن أغلب النقاد انشغلوا بالعجائبي وأهملوا الجنسين الموازيين له، فدرسوه في الرواية والقصة، في الوقت الذي كان على النقاد والباحثين أن يدرسوا كلاّ من العجيب والغريب بالدرجة نفسها من الأهمية التي درسوا فيها العجائبي، لأن الأخير لا يخرج عن كونه حالة انتقالية بين جنسين يتشكل من خلالهما؛ وهما العجيب والغريب، ومن ثمَّ يبقى العجائبي رهناً بالخطاب البلاغي المتمثل باللغة أكثر مما هو بنية صورية تثير القارئ أو المتلقّي، فما يربط بين المرسل والمرسل إليه هو ذلك اللفظ الذي يثير الدهشة أكثر من الصور المتخيّلة أو المبنية على أساس خلخلة أفق التوقع. في حين يكون التخييل من بنية العجيب وليس العجائبي، والأول هو ما يؤدي إلى التردد اللازم لتشكل جنس العجائبي (المتلاشي دائماً). لهذا عُدَّ العجيب أصلاً للعجائبي وليس العكس.
ويضيف ذياب قائلا “إذا كان العجيب مرتبطاً بالتخييل، فإن العجائبي يرتبط بالفعل. فلا يمكن أن نصف شخصية بأنها شخصية عجائبية، بل يجب وصفها بالعجيبة إذا كان العجيب أصلاً في بنيتها، في حين يكون الفعل العجائبي صادراً عن أيّ شخصية تقوم بفعل فوق طبيعي، إن كانت شخصية طبيعية أو عجيبة. لهذا، يختلف الفعل العجائبي عن الشخصية العجيبة، فالفعل العجائبي يحدث في لحظة واحدة لا يمكن الإمساك بها، لحظة تردّد وخوف، تحدث وتنتهي من دون أن يتمكن الراوي من وصفها وصفاً دقيقاً والإحاطة بتفاصيلها. في حين تكون الشخصية العجيبة ثابتة على عجائبيتها، لهذا يتمكن الراوي من وصفها وصفاً دقيقاً ومسترسلاً”.
تصحيح المصطلحات
نسأل مُحاورنا عن رأيه حول أسباب إهمال السيرة الشعبية العربية من قبل الثقافة الرّسمية لقرون طويلة رغم أنها محور مهمّ من محاور السرد العربي القديم؟ فيشير إلى أنه “ما زال الكتّاب العرب، والقراء من بعدهم، يرفضون أن تكون كتاباتهم شعبية، بمعنى أنهم لا يريدون أن يطلق مصطلح ‘شعبي’ على ما ينشرونه أو يتداولونه فيما بينهم. وكأن هذا المصطلح يدل على الدونية أو المستوى الأقل سمواً مما يفكرون فيه وما ينتجونه من نصوص إبداعية أو جماليات فنية بمختلف فروعها.
وفي بحثنا عن هذا المصطلح، ندرك أننا على خطأ لا يغتفر، فحين نسمّي سيرة عنترة بن شداد وحمزة البهلوان وغيرهما بـ’السيرة الشعبية’، فذلك يعني أن هناك شعباً كاملاً أو شعوباً أنتجت هذه السيرة، أما الحكاية الشعبية فلها تعبيراتها الخاصة، ومفاهيمها التي تختلف عن السرديات الأخرى. لأنها؛ أي الحكاية الشعبية، نتاج بيئة صغيرة، تحكمها ظروف وأعراف اجتماعية خاصة”.
ويضيف قائلاً “في إحدى النقاشات التي دارت حول الأدب الشعبي في اتحاد الأدباء العراقيين، قال أحد الباحثين إن الأدب الشعبي هو ما يكتب باللغة الدارجة أو العامية، وهذا هو الخطأ الكبير الذي تتداوله المقالات وبعض الدراسات، لأن كلمة شعبي تعني ‘الثقافة التي تنشأ عن شعب’ حسب ما يرى يوهان غوتفريد هردر، فكل ما يمكن أن ينتج من ثقافة في مدينة مثل بغداد أو البصرة أو الموصل أو غيرها، هي ثقافة شعبية. العقال الذي يرتديه قلة من الناس لا يسمى شعبياً، حتى يشرع الآخرون بارتدائه ليكون سمة هذه المدينة أو ذلك البلد، ليسمّى بعد ذلك شعبياً. القصة التي تذاع بين الناس، ويرددها الكبار والصغار تكون شعبية، حتى لو كانت ‘مائة عام من العزلة’ لماركيز. وهكذا يتنامى الشعبي ليغدو ثقافة بلد ما.
ومن ثمَّ كانت الثقافة السائدة على مدى أكثر من أربعة عشر قرناً هي الثقافة السلطوية، الثقافة التي لا تريد لغير خطاب الخليفة أو الملك أو الرئيس أن يكون موازياً لها، فبقيت الثقافة الشعبية؛ ومنها السيرة الشعبية والحكاية الشعبية والفولكلور، على الهامش. لذا يمكن القول بأن الشعبي هو فكرة يمكن من خلالها بناء الممارسات الثقافية والاجتماعية، وتصنيفها، غير أن هناك خطين متوازيين لا يلتقيان في مفاهيمنا الثقافية هما الشعبي والسلطوي، وكلاهما يرفض أحدهما الآخر، بحسب مفاهيم الأقوى والأضعف، حتى على مستوى التفكير الشعبي”.
السيرة ورواتها
نتابع حوارنا مع الباحث العراقي ليحدثنا عن أبرز المراحل التي مرت بها السير الشعبية تأليفًا ورواية بحسب المصادر التاريخية التي اعتمدها في دراسته، فيقول “من الصعب الوقوف عند المراحل الأولى لرواية السيرة الشعبية، لأنها نصٌّ مفتوح، لم يغلق إلا بعد تدوينه الذي تحدده الباحثة المصرية ألفت الروبي بالقرن الرابع عشر، في زمن المماليك بمصر.
غير أنه ليس من الصعب الوقوف على طبقات السيرة ورواتها، فتجد داخل فصولها وحكاياتها أكثر من راوٍ، وكل راوٍ يبني حكايته على خطابه هو، وخطاب المرحلة والزمن الذي يعيش فيه. لهذا تجد داخل السيرة تفسيرات لآيات قرآنية من جهة، وحكايات عربية وفارسية وتركية، بل وحتى أوروبية، قديمة. ربما هذا من جهة تشابه الحكايات الشفاهية بين الشعوب، لكن من الصعب تحديد أصل أيّ حكاية وجذرها والمدينة التي بدأت تروى فيها”.
ويعقب ذياب قائلا “لكن الملاحظة المهمة في دراستنا للسيرة الشعبية هي أن الخطابات تتغير في كل مرحلة من مراحلها. في بداياتها؛ مثلاً، تبحث عن استقرار الحكاية وتوجيهها بطرائق كلاسيكية، تنبني على الاستباق والاسترجاع، وسرد لولادة البطل المتفرد والمراحل الأولى لحياته، ومن ثمَّ تبدأ التحولات في رسم ملامح الشخصية والشخصيات المحيطة بها. غيرّ أن الخطابات تبدأ بالتغير وبثِّ رسائلها بعد أن يصل البطل للمواجهة، فيظهر أقوام وجماعات وشخصيات غالباً ما تكون من أعداء المدن التي دخلت معهم في حروب وصراعات منذ زمن طويل، كالصراع العربي الفارسي، أو الإسلامي اليهودي، أو الكفر والإيمان. وهذه المراحل تضاف عن طريق الرواة الذين يدسّون خطاباتهم مع كل زمن يروون فيه السيرة أو الحكايات التي بقيت حتى الآن من دون أبٍ شرعي لها”.
ويوضح ذياب ما ذهب إليه قائلاً “رسائل الرواة لم تكن مباشرة، بل كانوا يدسّون سياساتهم بطرائق شتَّى، وصولاً إلى مرحلة التدوين التي يمكن عن طريقها فهم الرسائل الكثيرة. هذا التدوين هو تحول من خطية زمنية إلى مسافة وفضاء، أي من ظواهر تدرك بالسمع إلى ظواهر تقرأ بالبصر؛ حسب ما تشير الأكاديمية التونسية نور الهدى باديس، مبينةً أن ما يصلنا مكتوباً منها يغيب عنه جوانب عدة، فبالمشافهة ومشهد إنتاج المعنى، مع حضور الأطراف، يتلقى أحدها عن الآخر بطريقة مباشرة ويتحسس المعاني والمقاصد من مكونات المشهد برمته بما فيه من عناصر مقالية وعناصر مقامية وعناصر مشهدية تتجاوز المقام في مفهومه الضيق.
لكن ماذا يحدث عندما تتحول هذه اللعبة ويصبح المتكلم كاتباً والمتلقي قارئاً؟ المهم في هذه المرحلة توقُّف الخطابات عند حدٍّ ما بدلاً من أن تبقى شفاهية يُدَسُّ فيها كل عام خطاب جديد”.
* فلسطين
أوس داوود يعقوب
* المصدر:
صفاء ذياب: سيرة "سيف بن ذي يزن" أعظم إبداعات التفكير العربي | أوس داوود يعقوب | صحيفة العرب