جاء في كتاب " إتحاف الخلان ":
حدثنا شيخنا أبو الفضل، قال: حكى الشيخ عيسى بن شراحيل، الملقب برُقْية الأفاعي، قال:
كنتُ وزيرا للسجون في حكومة نجدان، فوجَّهَ إليّ الطاغية رجالَه ذات ليلة، في ساعة يرتاب فيها البريء، فأردتُ أن ألبس ثيابا تليق بالدخول عليه، فمنعني الرسلُ من ذلك وأعْجَلُوني، فدخلَني عند ذلك خوف شديد وحدثتني نفسي بأمر جلل ، وذهبتْ بي الظنون كل مذهب. فلما دخلتُ عليه حيَّيْتهُ بتحية الطغاة، وبقيت واقفا أمامه وهو مطرق. ثم إنه رفع رأسه إلي وأشار إلي بالجلوس، فجلست، فقال لي:
- يا عيسى ...
فقلت :
- لبيك أيها الطاغية
فتثاءب ثم قال:
- لقد امتنع عني النوم الليلة ، لأني بقيتُ مشغولَ الخاطر بأمر الديماس.
فسألته:
- و ما الديماس ، يا مولانا الطاغية ؟
فنظرَ إلي نظرةً انخلع لها قلبي من مكانه، ثم قال:
- ويحك يا عيسى، كيف تكون وزيراً للسجون في حكومة نجدان و لا تعرف الديماس؟ إنه السجن الجديد الذي بنيناه غربيّ نجدان للشعراء اللصوص...
قال عيسى بن شراحيل:
فأدركتُ عندئذ فداحة زلتي، ولعنتُ أبا مُرّة الذي أوقعني فيها، وقلتُ محاولا أن أتدارك الأمر:
- فليعذرني مولاي الطاغية، فإنما هي الرهبة التي أشعر بها في حضرته قد أصابتني بالارتباك.
فلما سمع مني ذلك الكلام، نظر إلي نظرةَ المتجاوز ثم سألني قائلا:
- وهل تعرف لماذا سميتُهُ الديماس؟
قلت وقد استرجعتُ شيئا من صفاء ذهني:
- ما أعرفه يا مولاي المستبد بالله هو أن الديماس سجْنٌ بناه الحجاج بن يوسف قديما بمدينة واسط. وقد حُبسَ فيه شعراء كثيرون، وذكروه في قصائدهم. ومنهم الشاعر اللص جَحْدَر بن معاوية العُكْليّ، صاحب البيت المشهور:
فصرتُ في السجن و الحراسُ تحرسني = بعد التلصص في برٍّ و أمصار
قال الطاغية:
- نعم ، أيها الشيخ الوزير، وقد حُبس هذا الشاعر أيضا بسجن يقال له دَوّار، وحُبس كذلك بالمُخَيّس، وهو سجن كان بناه علي بن أبي طالب بالكوفة...
ثم إنه سكتَ قليلا وعاد يسألني:
- يا عيسى، أتحفظ شيئا من نونية هذا الشاعر اللص على الوافر؟
قال الشيخ عيسى بن شراحيل:
فحمدتُ الله لدى سماعي ذلك الكلام، لأني كنت أحفظ نونية جحدربن معاوية منذ صباي الأول، وقلت:
- نعم يا مولاي ، هي النونية التي يقول فيها:
أليسَ الليلُ يَجْمَعُ أمَّ عَمْروٍ = و إيّانا فَذاكَ لنا تَداني
بلى و تَرى الهلالَ كما أراهُ = و يَعْلوها النهارُ كما علاني
و منها كذلك قوله:
إلى قومٍ إذا سمعوا بنَعْيي = بكى شُبّانُهُمْ و بكى الغواني
قال الطاغية:
- حسبك أيها الوزير، واعلم أني سأفتتح سجن الديماس بعد أيام قليلة، وذلك في عيد الحرية. وأريدك أن تُعد لي أسماء الشعراء اللصوص الذين سنضعهم هناك، وأن تَجعل على رأسهم الأحَيْمر السعدي، الذي يقول:
و إني لأستحْيي منَ الله أنْ أُرى = أطُوف بحبلٍ ليس فيه بَعيرُ
و أنْ أسأل المرْءَ اللئيمَ بعيرَهُ = و بُعْرانُ ربي في البلاد كثيرُ
وحُريث بن عنّاب الطائي الذي يقول:
إذا نحن سرْنا بين شرق و مغرب = تَحركَ يقْظانُ التراب و نائمُهْ
والسمهري العُكْلي الذي قال وهو في سجن ابن حيان:
ألا أيها البيتُ الذي أنا هاجرُهْ = فلا البيتُ مَنسيٌّ و لا أنا زائرُهْ
فإنْ أنْجُ يا ليلى فرُبَّ فتىً نجا = و إنْ تَكُن الأخرى فشيء أحاذرُهْ
ولا تنسَ أبا الطمحان القيني، اللص الخبيث الذي قال بعد أن هرم وانحنى ظهره:
حَنَتْني حانياتُ الدهر حتى = كأني خاتلٌ يَدنو لصَيْدِ
قريبُ الخطو يَحسبُ من رآني = و لستُ مقيدا أني بقَيْدِ
وجعفر بن عُلبة الحارثي الذي قال وهو في سجن دوران ، صاحب اللامية المشهورة في وصف السجن والتي يقول فيها:
إذا بابُ دورانٍ ترنّمَ في الدجى = و شُدّ بأغلاق علينا و أقفالِ
ومنها:
و حراسُ سوء ما ينامون حوله = فكيف لمظلوم بحيلة مُحتال ؟
و يصبر فيه ذو الشجاعة و الندى = على الذل للمأمور و العلج و الوالي
و الشاعر اللص بكر بن النطاح ، صاحب البيت المشهور :
و مَنْ يفتقرْ منا يعشْ بحُسامهِ = و من يفتقرْ من سائر الناس يَسألِ
قال الشيخ عيسى بن شراحيل:
فلما سمعتُ ذكْر بكر بن النطاح قلتُ للطاغية:
- يا مولاي المستبد، إنما كان بكر بن النطاح صعلوكا يصيب الطريق في أول أمره، ولكنه تاب بعد ذلك. ويعود الفضل في توبته، كما لا يخفى على مولاي الطاغية، إلى أبي دُلَف العجلي.
فلم أكد أنتهي من كلامي حتى أومأ إلي الطاغية كي أقترب، فلما اقتربت خاطبني بصوت خفيض:
- لا تعد إلى مثل هذا الكلام أمامي، فوالذي شرفني بالملك لئن عدتَ إلى مثله لأودعَنك سجن الديماس.
قال الشيخ الوزير:
ثم إن المستبد بالله أشار إلي بالانصراف، فغادرت القصر غير مصدق أني نجوت. فلما كان الغد شرعت في إعداد أسماء الشعراء اللصوص، ومن بينهم بكر بن النطاح، الذي طالما أعجبتُ بقوله:
أرانا معشرَ الشعراء قوماً = بألْسُننا تَنَعّمَت القلوبُ
إذا انبعثَتْ قرائحُنا أتينا = بألفاظٍ تُشَقّ لها الجيوبُ
حدثنا شيخنا أبو الفضل، قال: حكى الشيخ عيسى بن شراحيل، الملقب برُقْية الأفاعي، قال:
كنتُ وزيرا للسجون في حكومة نجدان، فوجَّهَ إليّ الطاغية رجالَه ذات ليلة، في ساعة يرتاب فيها البريء، فأردتُ أن ألبس ثيابا تليق بالدخول عليه، فمنعني الرسلُ من ذلك وأعْجَلُوني، فدخلَني عند ذلك خوف شديد وحدثتني نفسي بأمر جلل ، وذهبتْ بي الظنون كل مذهب. فلما دخلتُ عليه حيَّيْتهُ بتحية الطغاة، وبقيت واقفا أمامه وهو مطرق. ثم إنه رفع رأسه إلي وأشار إلي بالجلوس، فجلست، فقال لي:
- يا عيسى ...
فقلت :
- لبيك أيها الطاغية
فتثاءب ثم قال:
- لقد امتنع عني النوم الليلة ، لأني بقيتُ مشغولَ الخاطر بأمر الديماس.
فسألته:
- و ما الديماس ، يا مولانا الطاغية ؟
فنظرَ إلي نظرةً انخلع لها قلبي من مكانه، ثم قال:
- ويحك يا عيسى، كيف تكون وزيراً للسجون في حكومة نجدان و لا تعرف الديماس؟ إنه السجن الجديد الذي بنيناه غربيّ نجدان للشعراء اللصوص...
قال عيسى بن شراحيل:
فأدركتُ عندئذ فداحة زلتي، ولعنتُ أبا مُرّة الذي أوقعني فيها، وقلتُ محاولا أن أتدارك الأمر:
- فليعذرني مولاي الطاغية، فإنما هي الرهبة التي أشعر بها في حضرته قد أصابتني بالارتباك.
فلما سمع مني ذلك الكلام، نظر إلي نظرةَ المتجاوز ثم سألني قائلا:
- وهل تعرف لماذا سميتُهُ الديماس؟
قلت وقد استرجعتُ شيئا من صفاء ذهني:
- ما أعرفه يا مولاي المستبد بالله هو أن الديماس سجْنٌ بناه الحجاج بن يوسف قديما بمدينة واسط. وقد حُبسَ فيه شعراء كثيرون، وذكروه في قصائدهم. ومنهم الشاعر اللص جَحْدَر بن معاوية العُكْليّ، صاحب البيت المشهور:
فصرتُ في السجن و الحراسُ تحرسني = بعد التلصص في برٍّ و أمصار
قال الطاغية:
- نعم ، أيها الشيخ الوزير، وقد حُبس هذا الشاعر أيضا بسجن يقال له دَوّار، وحُبس كذلك بالمُخَيّس، وهو سجن كان بناه علي بن أبي طالب بالكوفة...
ثم إنه سكتَ قليلا وعاد يسألني:
- يا عيسى، أتحفظ شيئا من نونية هذا الشاعر اللص على الوافر؟
قال الشيخ عيسى بن شراحيل:
فحمدتُ الله لدى سماعي ذلك الكلام، لأني كنت أحفظ نونية جحدربن معاوية منذ صباي الأول، وقلت:
- نعم يا مولاي ، هي النونية التي يقول فيها:
أليسَ الليلُ يَجْمَعُ أمَّ عَمْروٍ = و إيّانا فَذاكَ لنا تَداني
بلى و تَرى الهلالَ كما أراهُ = و يَعْلوها النهارُ كما علاني
و منها كذلك قوله:
إلى قومٍ إذا سمعوا بنَعْيي = بكى شُبّانُهُمْ و بكى الغواني
قال الطاغية:
- حسبك أيها الوزير، واعلم أني سأفتتح سجن الديماس بعد أيام قليلة، وذلك في عيد الحرية. وأريدك أن تُعد لي أسماء الشعراء اللصوص الذين سنضعهم هناك، وأن تَجعل على رأسهم الأحَيْمر السعدي، الذي يقول:
و إني لأستحْيي منَ الله أنْ أُرى = أطُوف بحبلٍ ليس فيه بَعيرُ
و أنْ أسأل المرْءَ اللئيمَ بعيرَهُ = و بُعْرانُ ربي في البلاد كثيرُ
وحُريث بن عنّاب الطائي الذي يقول:
إذا نحن سرْنا بين شرق و مغرب = تَحركَ يقْظانُ التراب و نائمُهْ
والسمهري العُكْلي الذي قال وهو في سجن ابن حيان:
ألا أيها البيتُ الذي أنا هاجرُهْ = فلا البيتُ مَنسيٌّ و لا أنا زائرُهْ
فإنْ أنْجُ يا ليلى فرُبَّ فتىً نجا = و إنْ تَكُن الأخرى فشيء أحاذرُهْ
ولا تنسَ أبا الطمحان القيني، اللص الخبيث الذي قال بعد أن هرم وانحنى ظهره:
حَنَتْني حانياتُ الدهر حتى = كأني خاتلٌ يَدنو لصَيْدِ
قريبُ الخطو يَحسبُ من رآني = و لستُ مقيدا أني بقَيْدِ
وجعفر بن عُلبة الحارثي الذي قال وهو في سجن دوران ، صاحب اللامية المشهورة في وصف السجن والتي يقول فيها:
إذا بابُ دورانٍ ترنّمَ في الدجى = و شُدّ بأغلاق علينا و أقفالِ
ومنها:
و حراسُ سوء ما ينامون حوله = فكيف لمظلوم بحيلة مُحتال ؟
و يصبر فيه ذو الشجاعة و الندى = على الذل للمأمور و العلج و الوالي
و الشاعر اللص بكر بن النطاح ، صاحب البيت المشهور :
و مَنْ يفتقرْ منا يعشْ بحُسامهِ = و من يفتقرْ من سائر الناس يَسألِ
قال الشيخ عيسى بن شراحيل:
فلما سمعتُ ذكْر بكر بن النطاح قلتُ للطاغية:
- يا مولاي المستبد، إنما كان بكر بن النطاح صعلوكا يصيب الطريق في أول أمره، ولكنه تاب بعد ذلك. ويعود الفضل في توبته، كما لا يخفى على مولاي الطاغية، إلى أبي دُلَف العجلي.
فلم أكد أنتهي من كلامي حتى أومأ إلي الطاغية كي أقترب، فلما اقتربت خاطبني بصوت خفيض:
- لا تعد إلى مثل هذا الكلام أمامي، فوالذي شرفني بالملك لئن عدتَ إلى مثله لأودعَنك سجن الديماس.
قال الشيخ الوزير:
ثم إن المستبد بالله أشار إلي بالانصراف، فغادرت القصر غير مصدق أني نجوت. فلما كان الغد شرعت في إعداد أسماء الشعراء اللصوص، ومن بينهم بكر بن النطاح، الذي طالما أعجبتُ بقوله:
أرانا معشرَ الشعراء قوماً = بألْسُننا تَنَعّمَت القلوبُ
إذا انبعثَتْ قرائحُنا أتينا = بألفاظٍ تُشَقّ لها الجيوبُ