لم تغتمض عيناي ليلةَ أمس؛ لأنني بتُّ أسمعُ في الدار اللاصقة لبيتي أنينَ امرأةٍ متوجِّعة تعالِجُ همًّا ثقيلاً، وتشكو مرضًا أليمًا.
وكان يُخيَّلُ إليَّ أني لا أسمع بجانبها معلِّلاً يعلِّلُها، ولا جليسًا يَتوجَّعُ لها، فلما أصبح الصباح ذهبتُ إليها، فإذا قاعةٌ صغيرة مُظلِمة، تكاد لا تشتمل على أكثرَ...
لكأنني لست في بلدي، فما أذكر أنني أعرف هذا الشارع الذي أسير عليه ثم إن الناس يختلفون اختلافاً كلياً في لون البشرة وطراز اللباس عن أبناء بلدي، كنت كالضائع لا أعرف أين أنا ولا في أي اتجاه أسير، والعجيب أن الناس جميعهم يمضون في اتجاه واحد، ما الذي يجعلهم هكذا؟.. وماذا يقصدون؟ أهم في مسيرة أم في...
. . فتاة مثقفة على خلق عظيم، تناولت من التعليم حظاً غير قليل وفيها شيء من الجمال: عينان ساجيتان، شعر يشبه أن يكون خيوطاً من ذهب. . . ثم نفس شاعرة متمردة تحس الجمال وتتذوق الأدب. . كانت (فتحية) صورة نادرة في الفتيات: امتزج فيها سمو الروح بجمال الصورة، تعلمت في وقرأت جوت ولا مارتين ودوي موسيه...
أقبلت عليه متهادية، تحمل أذيالها الجواري السود، وجلست قربه وقالت بصوتها العذب: عمْ صباحاً أيها الأمير. فقال: عمي صباحاً أيتها الأميرة. قالت: ما لي أراك طويل التأمل، عميق التفكير، مؤرق الليل، محزون النهار؟ قال: آه يا زينب! كيف لا يأرق العربي ويموت أرقاً، ويحزن وذوب حزناً، إذا استُلب الكرامة،...
كنا نتذاكر حديث الحسن الموهوب والمجلوب. فقلت لصاحبي: رحم الله ذلك الشاعر العربي القديم، الذي كان ينادي بأنه ليس ممن يخدعه مظهر الجمال، ولا يستهويه طلاء مصطنع، أو رواء متكلف، ولا يفتنه حسن مجلوب بتطرية. أو جمال مشتري من دكان العطار. وكأني أراه إذ يجلس على دكة أمام داره يتأمل الوجوه الحسان إذ تروح...
. . . وفتح الفتى عينيه - وكان يغمضهما كأنه يحلم - وألقى نظرة أخرى على ورقة من ورق الرسائل الأزرق منشورة أمامه.
ولم يكن يدري كم من الوقت مر عليه وهو - على حالته هذه - أمام مكتبه، والقلم في يده، وعيناه مغمضتان، ورأسه يحس انه يوازن كرة الأرض ويدور دورانها.
واعتمد بجبينه على راحة يده اليسرى،...
تذكر جميل العكرماوي بعد مضي خمس وثلاثين سنة من عمره، أن والدته كانت تقول له في حداثته: والله يا بني لأزوجنك متى كبرت من فتاة شامية، جسمها أبيض مثل الثلج، وشعرها أشقر مثل الذهب، وخداها أحمران مثل التفاح، وكان هو يسمع كلام أمه هذا وعلى ثغره ابتسامة الحداثة البريئة.
وماتت أم جميل، وتعاقبت السنين،...
كان لباسه قد دل عليه، فعرفت للحال أنه فلاح فقير، من أولئك الفلاحين الفقراء، الذين تضطرهم قسوة الملاكين، لهجر الريف إلى المدينة.
شاهدته من وراء زجاج المقهى، في يوم بارد ممطر، يستوقف المارين، يعرض عليهم «بضاعته» فمنهم مَن يقف لينظر إليها، ومنهم مَن يهز رأسه ويتابع المسير.
كانت هذه «البضاعة» طفلة...
هل استل عم دخيل سلاحه وكمن قريباً من ذلك المنزل؟
إن صراخ الطفل يوحي بأن أمراً ما يحدث في منزل سويلم.. ولكن ما هو؟
نظرات عم دخيل تراشقت يمنة ويسرة وعلى سطوح المنازل المحيطة، هل هو لص من نافذة قريبة من سرير الطفل فأرعبه وجعله يستغيث؟ أين أبواه.. أتراهما غارقين في حلاوة أحلام آخر الليل، يقولون...
كان محمود عائدا من جولة طويلة سيرا على الأقدام مع أصدقاء حقيقيين من القرية التي كان الأربعة يقطنونها. كانوا قد ذهبوا في الصباح الباكر وكانوا قد اشتموا جوّا جديدا قادما من المدينة. كانوا قد انتشوا بالضوضاء، بالأخبار، بالملذات، بأشغال المدينة وكانوا قد شربوا قدرا كبيرا من الشاي لكي “يمتلئ رأسهم“...
في ليلة مُكفهرّة السحنة، ضريرة النجم وفي طريق كئيبة مريبة موحشة كضمير المجرم المروّع، سرت وحيداً متوجساً خلف الدليل أتبعه إلى حيث لا أدري. لم يكن الدليل ليثنيني، ولم يكن الدليل ليغريني، ولكنه كان يتقدمني متين البنية، ركين الخطا، وأنا أتبعه إلى حيث لا أدري. أين أمضي خلف هذا الدليل الغريب المريب...
لقد كانت أياماً مليئة بالحياة. جادها الغيث إذا الغيث همى
جلسنا بعد سير طويل عند مدخل البهو ذي الأعمدة، واخذ بعض الرفقة ينطقون أوتار المزهر والكمان والقانون فترتفع مقاطعها المتآلفة المتناسقة بأحسن الأنغام وأطيب الألحان ثم تجاوبت الأصداء العجيبة من نواحي ذلك البهو الفسيح، فإذا الجو له يطن بأمواج...
فتىً في ربيع العمر. رأيته مرة قبل خمس سنين، وكنت أعهده فتى صموتاً مع رفاقه، يغرق بالتفكير، ويحدق بعينيه إلى جهة من الجهات، وعندما يحول نظره إلى جهة أخرى، يعقب التفاتته بحسرة. لا يكلم صحبه إلا بين آونة وأخرى، وأن ضحك فضحكة قصيرة هادئة.
التقيت به مرة في حياتي. وحاولت لقائه ثانية فما أفلحت، حتى...
إنها الراعية. لها معزة تحبها حبا جما. كل الراعيات في الحقيقة، متعلقات بمعزاتهن، وهن جميعا. بمعزاتهن يشكلن قطيعا يتنقل بين التلال المعشوشبة، حيث تنعدم أشجار التين والزيتون وحيث تكثر مختلف أنواع النباتات العطرة الشوكية وغيرها. ففي الغابة. يشعر الجميع بالراحة. والوقت هناك يمر بسرعة، تتفسح وتمرح...
إلي الذين يموتون دون أن يدركوا وينقذهم الموت
أنا متأكّد أنّه هنا من أجلي. يراقب منذ الصباح كلّ خطوة من خطواتي، كلّ نظرة، كلّ تردّد من تردّداتي، يحلّلها، يزِنها، محاولا أن يكتشف من خلالها الخوف الذي يعرف أنّه بداخلي.
لقد قرّروا إذن أنني سأموت مرتجفا، ومرتديا ثوب الرعب القديم. ولم أعد أشكّ في...