الحاج ملوك
رجل تقي وورع، يؤدي صلواته الأربع بانتظام، يده ممدودة لكل عابر سبيل. يتأنق كل صباح بجلبابه الأبيض وطربوشه الأحمر وكأنه ذاهب إلى حدث مهم.
ما يأتي به النهار يأخذه الليل، يتجه بعد صلاة العشاء إلى مقهى “السلام”، ليتسامر مع عشاق الورق والضاما، وعندما تخف حركة الشارع، يحث السير إلى الحانة ليحتسي كؤوس الخمر حتى مطلع الفجر، ثم يقصد الحاجة ابْرَيْكَة ليجدد شبابه فوق الأجساد السمراء والبيضاء.
ولأن أبواب السماء مفتوحة في رمضان، يمضي الليل في المسجد، يداعب سبحته البيضاء التي لا تفارق أنامله.
الحاج موحا
لا أدري كيف التصق به هذا اللقب مع أنه لم يحج يوما، يُمضي يومه في جمع الأموال بطرق مشروعة وغير مشروعة. وبعد أن تغط الحاجة زهيرو في نوم عميق، يحصي حصيلة يومه ويدفنها تحت زليجة متحركة أسفل سريره المهترئ.
يتجول كل صباح بالسوق الفوقاني، كمتسول بجلباب قديم، تحول بفعل الزمن إلى الرمادي الشاحب، وبلغته المُرقعة التي أصبحت ضيفا يوميا عند الاسكافي.
يترقب شهر رمضان ليطلق العنان للحيته الخشنة ويواظب على الصلاة والعبادة منذ فاتح رمضان.
الحاجة رحمة
تكتوي بنار الهجران منذ سنوات وتصمت، تنتظر عودته كل ليلة، وهي تمسد شعرها المصبوغ بالحناء والعصفة، تتأمل التجاعيد التي زحفت إلى وجهها، وجسدها الذي ترهل لحمه وفقد نعومته. وتحدث صورتها المعكوسة في المرآة: “لقد ولى الشباب يا رحمة..”
نصحتها الحاجة زهيرو مرات ومرات بزيارة الحاجة سعد السعود، قبل أن يطير الحاج ملوك من عشها وهي تردد: “الرْجَالْ مَا فِيهُم أمان”، ومنذ تلك الليلة وهي تواظب على تبخير البيت، ثم تدس ورقة مطوية تحت وسادته وتنام قريرة العين.
الحاجة زهيرو
التصقت بها الصفة مثل زوجها الحاج موحا، طيابة في حمام “السعادة”، تحترف الحكي وجمع القيل والقال، تدعك الأجساد البيضاء والسمراء، وتتلذذ أحيانا بمداعبة مقدمة هذه أو مؤخرة تلك، كلما خفت حركة الحمام في المساء، متخفية وراء ستار البخار المتصاعد.
الحاجة زهيرو لا تمانع في ذلك، مادامت تدفئ جيبها بدراهم إضافية، وتنعش جسدها المنسي، الذي هجره الحاج موحا منذ زمن.
تقصد بيت الحاجة رحمة بعد خروجها من الحمام، تزودها بأخبار الحي وتشاركها وجبة عشاء دسمة قبل أن تعود إلى الجدران المظلمة.
***
المسجد يعج بعد أذان العشاء، بالمتعطشين للعبادة الرمضانية، ما يدعو أحيانا إلى مد الحصائر البلاستيكية في باحة المسجد لأداء صلاة العشاء. الأيادي مرفوعة نحو السماء، الرؤوس مغروسة فوق السجادة والقلوب في خشوع كبير، لكن السماء سرعان ما تغلق أبوابها المفتوحة، وما إن يخرج شهر رمضان حتى تعود حليمة إلى عادتها القديمة.
يعود الحاج ملوك إلى نزواته الشبقية والحاج موحا إلى كنوزه الدفينة، الحاجة رحمة إلى انتظار لا ينتهي، والحاجة زهيرو إلى صمتها الكبير وهي تشاهد الأوراق الزرقاء بين يديَّ زوجها كل ليلة.
“آهْ عْلَى الغْدَارْ” قالت ذات مساء، وهي ترتشففنجان قهوة مقطرة في بيت الحاجة رحمة، رؤيتها للأموال المكدسة، أصابتها بالحنق على الحاج موحا الذي لا يتوقف عن الشكوى بضيق الحال والحيلة، ثم أضافت قائلة: “ماذا جنينا من هذه الدنيا لا ولد ولا سند، اللهْ يْهْزْنَا مِنْ هَادْ الدْنْيَا بْلاَ ذْنُوبْ…”.
كانت الحاجة رحمة تحرك رأسها دون أن تنبس بكلمة، دموع حارة تساقطت على وجنتيها، وهي تتذكر لحظة الانتظار كل ليلة، ثم مسحت دموعها بكم قفطانها الحريري ورسمت ابتسامة على شفتيها.
كان المؤذن ينادي لصلاة الفجر، عندما أغلقت الحاجة زهيرو الباب وراءها وتسللت تحت جنح الظلام، لا ينير طريقها سوى الضوء المنبعث من مصابيح الشارع الرئيس، تهرول بخطوات سريعة وتلتفت وراءها بعد كل خطوة أو خطوتين، قبل أن تخرج من الظلمة إلى الضوء، كانت الحاجة رحمة في انتظارها بجلبابها الأبيض، وعلى بعد خطوات منها سيارة أجرة على أهبة الانطلاق، عانقتها بحرارة وهي تهمس في أذنها بضع كلمات وتشير إلى الكيس البلاستيكي في يدها. أطلقت الحاجة رحمة ضحكة صغيرة بددت صمت الليل، ثم ركبتا السيارة وانطلقتا بعيدا…
رجل تقي وورع، يؤدي صلواته الأربع بانتظام، يده ممدودة لكل عابر سبيل. يتأنق كل صباح بجلبابه الأبيض وطربوشه الأحمر وكأنه ذاهب إلى حدث مهم.
ما يأتي به النهار يأخذه الليل، يتجه بعد صلاة العشاء إلى مقهى “السلام”، ليتسامر مع عشاق الورق والضاما، وعندما تخف حركة الشارع، يحث السير إلى الحانة ليحتسي كؤوس الخمر حتى مطلع الفجر، ثم يقصد الحاجة ابْرَيْكَة ليجدد شبابه فوق الأجساد السمراء والبيضاء.
ولأن أبواب السماء مفتوحة في رمضان، يمضي الليل في المسجد، يداعب سبحته البيضاء التي لا تفارق أنامله.
الحاج موحا
لا أدري كيف التصق به هذا اللقب مع أنه لم يحج يوما، يُمضي يومه في جمع الأموال بطرق مشروعة وغير مشروعة. وبعد أن تغط الحاجة زهيرو في نوم عميق، يحصي حصيلة يومه ويدفنها تحت زليجة متحركة أسفل سريره المهترئ.
يتجول كل صباح بالسوق الفوقاني، كمتسول بجلباب قديم، تحول بفعل الزمن إلى الرمادي الشاحب، وبلغته المُرقعة التي أصبحت ضيفا يوميا عند الاسكافي.
يترقب شهر رمضان ليطلق العنان للحيته الخشنة ويواظب على الصلاة والعبادة منذ فاتح رمضان.
الحاجة رحمة
تكتوي بنار الهجران منذ سنوات وتصمت، تنتظر عودته كل ليلة، وهي تمسد شعرها المصبوغ بالحناء والعصفة، تتأمل التجاعيد التي زحفت إلى وجهها، وجسدها الذي ترهل لحمه وفقد نعومته. وتحدث صورتها المعكوسة في المرآة: “لقد ولى الشباب يا رحمة..”
نصحتها الحاجة زهيرو مرات ومرات بزيارة الحاجة سعد السعود، قبل أن يطير الحاج ملوك من عشها وهي تردد: “الرْجَالْ مَا فِيهُم أمان”، ومنذ تلك الليلة وهي تواظب على تبخير البيت، ثم تدس ورقة مطوية تحت وسادته وتنام قريرة العين.
الحاجة زهيرو
التصقت بها الصفة مثل زوجها الحاج موحا، طيابة في حمام “السعادة”، تحترف الحكي وجمع القيل والقال، تدعك الأجساد البيضاء والسمراء، وتتلذذ أحيانا بمداعبة مقدمة هذه أو مؤخرة تلك، كلما خفت حركة الحمام في المساء، متخفية وراء ستار البخار المتصاعد.
الحاجة زهيرو لا تمانع في ذلك، مادامت تدفئ جيبها بدراهم إضافية، وتنعش جسدها المنسي، الذي هجره الحاج موحا منذ زمن.
تقصد بيت الحاجة رحمة بعد خروجها من الحمام، تزودها بأخبار الحي وتشاركها وجبة عشاء دسمة قبل أن تعود إلى الجدران المظلمة.
***
المسجد يعج بعد أذان العشاء، بالمتعطشين للعبادة الرمضانية، ما يدعو أحيانا إلى مد الحصائر البلاستيكية في باحة المسجد لأداء صلاة العشاء. الأيادي مرفوعة نحو السماء، الرؤوس مغروسة فوق السجادة والقلوب في خشوع كبير، لكن السماء سرعان ما تغلق أبوابها المفتوحة، وما إن يخرج شهر رمضان حتى تعود حليمة إلى عادتها القديمة.
يعود الحاج ملوك إلى نزواته الشبقية والحاج موحا إلى كنوزه الدفينة، الحاجة رحمة إلى انتظار لا ينتهي، والحاجة زهيرو إلى صمتها الكبير وهي تشاهد الأوراق الزرقاء بين يديَّ زوجها كل ليلة.
“آهْ عْلَى الغْدَارْ” قالت ذات مساء، وهي ترتشففنجان قهوة مقطرة في بيت الحاجة رحمة، رؤيتها للأموال المكدسة، أصابتها بالحنق على الحاج موحا الذي لا يتوقف عن الشكوى بضيق الحال والحيلة، ثم أضافت قائلة: “ماذا جنينا من هذه الدنيا لا ولد ولا سند، اللهْ يْهْزْنَا مِنْ هَادْ الدْنْيَا بْلاَ ذْنُوبْ…”.
كانت الحاجة رحمة تحرك رأسها دون أن تنبس بكلمة، دموع حارة تساقطت على وجنتيها، وهي تتذكر لحظة الانتظار كل ليلة، ثم مسحت دموعها بكم قفطانها الحريري ورسمت ابتسامة على شفتيها.
كان المؤذن ينادي لصلاة الفجر، عندما أغلقت الحاجة زهيرو الباب وراءها وتسللت تحت جنح الظلام، لا ينير طريقها سوى الضوء المنبعث من مصابيح الشارع الرئيس، تهرول بخطوات سريعة وتلتفت وراءها بعد كل خطوة أو خطوتين، قبل أن تخرج من الظلمة إلى الضوء، كانت الحاجة رحمة في انتظارها بجلبابها الأبيض، وعلى بعد خطوات منها سيارة أجرة على أهبة الانطلاق، عانقتها بحرارة وهي تهمس في أذنها بضع كلمات وتشير إلى الكيس البلاستيكي في يدها. أطلقت الحاجة رحمة ضحكة صغيرة بددت صمت الليل، ثم ركبتا السيارة وانطلقتا بعيدا…