بعد الحفلة 1
بعد أن ألقوا بالتراب، فوق الجسد،و أحكموا غلق القبر ... وقفت بينهم أتأمل حالهم. . بعضهم كان يبكى ،والبعض الآخر يثرثر فى حكايات الماضى .
كانوا يقولون عنى أشياء كثيرة جميلة ،ويصفون أخلاقى بالحميدة إلا ابن أخى ، سمير،طفل صغير، كان ينظر إليهم فى دهشة ،ثم صاح بهم :
عمى لم يكن هكذا على الإطلاق.
صفعه أخى عبد الفتاح على وجهه حتى يصمت ،إلا أنه لم يبك ،ولم يتوقف عن الثرثرة حتى أنه صاح بهم :
أليس هو سليط اللسان، قليل الذوق، ألم تشتكوا جميعا من جشعه وطمعه وسوء فعله؟!
نظرت إلى ابن أخى وضحكت، فهو الآن قد فضحهم أمامى وأعلمنى بكل ما كان يقال من خلفى.
توقفت أمامه تماما ونفخت فى وجهه.
ارتعد سمير وصرخ بشدة.
قامت أمه إليه فزعة: ماذا أصابك يا سمير؟
قال أبوه :
هذا من سوء أدبه وكلامه السىء عن عمه.
جاءت جارتنا العجوز الخالة فريال ،تهرول إلى سمير ،همست فى أذنه ببضع كلمات ،ثم قالت:
الولد إتمس.
قال أخى عبدالفتاح :
- ما هذه الخرافات ؟!
- ليست خرافات 'إنه فى بداية مرحلة المس.
- وماذا سيحدث له بعد ذلك .
- ستطور حالته، وربما يحادث الموتى .
صرخت أم سمير فزعة ،أمسكت برقبة عبد الفتاح زوجها ثم قالت :
اطلب من أخيك أن يبتعد عن ابنى، ألا يود أن يتركنا فى حالنا حيا أو ميتا
صاح ابنى الأصغر بها وهو يبكى: ألا تستحين مما تقولينه ؟!
وهمت زوجتى أن تشتبك معها، بالأيدى إلا أن بعض الحضور حالوا بينهما ،كانت زوجتى تردد بصوت متحشرج : صحيح ست عديمة الأدب .
بينما قد التف حولها باق أبنائى.
أصابت اخى حالة من الاضطراب و الحيرة، ثم قال : هل أصابك لطف يا سميرة، أخى مات .
قرروا عدم إقامة عزاء وانصرفوا جميعهم إلى بيوتهم .
بعد أن تطلعت قليلا إلى مجموعة المقابر التى يمتلئ بها المكان، شعرت بوحشة شديدة، كان المكان يدعو إلى الخوف والفزع. .. قبل أن أهم بالمغادرة ،اطمئننت على الجسد المسجى فى التراب، وشرعت خارجا ،إلا أنه استوقفني رجل طويل يرتدى عباءة سوداء .
قال لى :
- إلى أين ألن تحضر الحفلة ؟!
- أية حفلة، وهل يقام هنا حفل؟ !
_ طبعا، كل ليلة وأنت اليوم عريس الحفل .
حانت منى إلتفاتة إلى الخلف، وجدت العشرات من الذين يرتدون الملابس البيضاء وقد تجمهروا حولى مرحبين ومهللين.
حضننى بشدة صديقى محمود الذى توفى منذ عشر سنوات.
صحت به :
_ أنت كما أنت لم تتغير ملامحك !
_ هذا عادى يا صديقى، هنا لا نهرم .
سألته : أين أبى ؟
قال لى :
- إنه فى مهمة ، و سيأتى حالما يسمحون له بذلك .
_ من هم ؟
_ لا تسأل .
_ ولكنى أشتاق إليه كثيرا .
_ لا تقلق سيأتى يوما لمقابلتك ،أو ستذهب أنت إليه.
فجأة انهمر المطر وعصفت الرياح ،فاندفعوا جميعا إلى داخل قبورهم ليحتموا بها،ولم يقف معى سوى محمود صديقى .
لمحت جارتنا العجوز وقد عادت ومعها سمير وأمه .
قالت له : هيا يا سمير افتح قبر عمك .
-ماذا ستفعلين يا خالة فريال ؟
- لا تقلقى، لابد من أخذ خصلة من شعر عمه، وأن يأخذها بيده هو، حتى أخلصه من هذا المس اللعين.
اندفع محمود إلى سمير وأمسك بأذنيه.
صاح سمير رعبا .
أبعدت يد محمود عن أذنيه والتفت إلى سمير صائحا به :
_ خذ أمك يا سمير والخالة العجوز وامضيا من هنا ،وأنا حالما أفرغ سأت إليكم.
سقط سمير على الأرض ،فزعا حينما رأى وجهى وسمع صوتى.
بعد الحفلة 2
..............
تحركت صوب الخارج ،إلا أن محمود استوقفني قائلا :
-إلى أين ؟!
- إلى الناس ،هذا مكان موحش.
_ولكنك الآن ...
_ولكنى ماذا ؟!
_أقصد كائن مختلف.
_تعنى ميت.
_أنا لا أقصد الإساءة فأنا مثلك تماما.
وفجأة أقبل الرجل الطويل، صاحب المعطف الأسود ،فاختفى على الفور صديقى محمود، قال الرجل بصوت عميق :
_ بعد مضى حياتك الطويلة كلها،بعد كل هذه السنوات ، ولازلت تتوق إلى الدنيا !!
- المتعة الحقيقية، فى القرب من الناس .
- بل فى القرب من صانعك .
-وصنيعته، و الناس هم صنيعته .
- لم تتغير طريقة تفكيرك ولا حتى قيد أنملة !!
- الناس أية من آياته ويكفى أنهم ،من روحه .
- لاتبصر سوى ما تصدقه، وتجادل وكأنك تمتلك الحقيقة ،وحدك ولا أحد غيرك.
_ أنا أحترم الجميع.
_ ولكنك لا تعرف أن الحقيقة لها أكثر من وجه !!
_ ما يعنيني هو أننى كنت أتمتع بحب الجميع.
_ هذا شيء غير مؤكد.
_ كنت لأبى الأثير ، كما كنت فتى أمى المدلل.
_ وأخوتك؟
_ غمرونى دائما بعطفهم، وهم سندى فى الحياة .
_ والأصدقاء ؟
_ كنت أنا اليفهم المفضل .
_ والأبناء ؟
_ هم عزوتى وفلذات كبدى .
_ وزوجتك؟
_ هى نور عينى على الأرض.
_ هكذا توهمت .
_ لقد منحونى سعادة القرب منهم.
_ الحقيقة أنك لم تكن الأثير لدي والدك أو أمك، كنت طفلا بين كثرة، منهم من يكبرك أو يصغرك، حتى إخوانك كل واحد منهم لم تكن تمثل له أى شىء،بل إن من تحسبهم أصدقاء ،كانوا يتخذونك كوسيلة لملئ الفراغ، ولا يتذكرك الآن من أبنائك أحد فقد شغلهم أولادهم حتى عن أنفسهم ، أما زوجتك فهى غارقة فى مشاكلها العديدة مع زوجها الحالى ......
أشجار وورود ورياحين .... وبحار من فضة ،وأنهار من ذهب وقلوب بيضاء كطير من نور ....
أتترك كل هذا و تود أن تعود إليهم ؟!
أتستبدل الأعلى بالأدنى؟
- تلك غايتي .
_ هكذا ستقلب القواعد رأسا على عقب ، أنت هنا فى مكان وزمان أفضل من كل ماعداه.
- ولكنى أحببتهم جميعا بكل ما فيهم من مزايا أو عيوب، وما أراه هنا ليس إلا وهما.
- بل إن ما تراه الآن هو الحق ،وكل ما سبق كان وهما.
- اشتقت كثيرا إلى أحبائي.
- إنهم مجرد خدعة إكذوبة،والذين يرافقونك الآن على الأقل لا يخدعونك.
_أرجوك اعطنى نفسى السابقة وحياتى حتى وإن كانت مجرد حلما قصيرا .
_ كيف ستعيش معهم الآن، بعد أن ادركت أن الخداع ليس إلا وسيلتهم الفضلى ؟!
- أنا فقط أدرك حبهم وعطفهم وأنت لا تنفك تسئ إليهم وتذكر أشياء لا يطيب لى سماعها أوتصديقها، أرجوك دعنى أعود إلى بيتى وأصدقائى وأهلى؟ !
_ولكنك أنت الذى كنت تمنحهم وقتك وجهدك ومالك وحبك.
_حبى لهم قطرة من مقدار حبهم لى .
_ أنت تحب الجميع ولا تستطيع سوى أن تفعل هذا.
_ ولماذا أكرههم؟
_ لأنهم جميعا أساؤا إليك، لم يقدروا حجم ما منحتهم من حب وسعادة...
نحن هنا أولى بك أما هناك فهى أرض ليست لك وأناس ليسوا منك.
................................
بعد أن ألقوا بالتراب، فوق الجسد،و أحكموا غلق القبر ... وقفت بينهم أتأمل حالهم. . بعضهم كان يبكى ،والبعض الآخر يثرثر فى حكايات الماضى .
كانوا يقولون عنى أشياء كثيرة جميلة ،ويصفون أخلاقى بالحميدة إلا ابن أخى ، سمير،طفل صغير، كان ينظر إليهم فى دهشة ،ثم صاح بهم :
عمى لم يكن هكذا على الإطلاق.
صفعه أخى عبد الفتاح على وجهه حتى يصمت ،إلا أنه لم يبك ،ولم يتوقف عن الثرثرة حتى أنه صاح بهم :
أليس هو سليط اللسان، قليل الذوق، ألم تشتكوا جميعا من جشعه وطمعه وسوء فعله؟!
نظرت إلى ابن أخى وضحكت، فهو الآن قد فضحهم أمامى وأعلمنى بكل ما كان يقال من خلفى.
توقفت أمامه تماما ونفخت فى وجهه.
ارتعد سمير وصرخ بشدة.
قامت أمه إليه فزعة: ماذا أصابك يا سمير؟
قال أبوه :
هذا من سوء أدبه وكلامه السىء عن عمه.
جاءت جارتنا العجوز الخالة فريال ،تهرول إلى سمير ،همست فى أذنه ببضع كلمات ،ثم قالت:
الولد إتمس.
قال أخى عبدالفتاح :
- ما هذه الخرافات ؟!
- ليست خرافات 'إنه فى بداية مرحلة المس.
- وماذا سيحدث له بعد ذلك .
- ستطور حالته، وربما يحادث الموتى .
صرخت أم سمير فزعة ،أمسكت برقبة عبد الفتاح زوجها ثم قالت :
اطلب من أخيك أن يبتعد عن ابنى، ألا يود أن يتركنا فى حالنا حيا أو ميتا
صاح ابنى الأصغر بها وهو يبكى: ألا تستحين مما تقولينه ؟!
وهمت زوجتى أن تشتبك معها، بالأيدى إلا أن بعض الحضور حالوا بينهما ،كانت زوجتى تردد بصوت متحشرج : صحيح ست عديمة الأدب .
بينما قد التف حولها باق أبنائى.
أصابت اخى حالة من الاضطراب و الحيرة، ثم قال : هل أصابك لطف يا سميرة، أخى مات .
قرروا عدم إقامة عزاء وانصرفوا جميعهم إلى بيوتهم .
بعد أن تطلعت قليلا إلى مجموعة المقابر التى يمتلئ بها المكان، شعرت بوحشة شديدة، كان المكان يدعو إلى الخوف والفزع. .. قبل أن أهم بالمغادرة ،اطمئننت على الجسد المسجى فى التراب، وشرعت خارجا ،إلا أنه استوقفني رجل طويل يرتدى عباءة سوداء .
قال لى :
- إلى أين ألن تحضر الحفلة ؟!
- أية حفلة، وهل يقام هنا حفل؟ !
_ طبعا، كل ليلة وأنت اليوم عريس الحفل .
حانت منى إلتفاتة إلى الخلف، وجدت العشرات من الذين يرتدون الملابس البيضاء وقد تجمهروا حولى مرحبين ومهللين.
حضننى بشدة صديقى محمود الذى توفى منذ عشر سنوات.
صحت به :
_ أنت كما أنت لم تتغير ملامحك !
_ هذا عادى يا صديقى، هنا لا نهرم .
سألته : أين أبى ؟
قال لى :
- إنه فى مهمة ، و سيأتى حالما يسمحون له بذلك .
_ من هم ؟
_ لا تسأل .
_ ولكنى أشتاق إليه كثيرا .
_ لا تقلق سيأتى يوما لمقابلتك ،أو ستذهب أنت إليه.
فجأة انهمر المطر وعصفت الرياح ،فاندفعوا جميعا إلى داخل قبورهم ليحتموا بها،ولم يقف معى سوى محمود صديقى .
لمحت جارتنا العجوز وقد عادت ومعها سمير وأمه .
قالت له : هيا يا سمير افتح قبر عمك .
-ماذا ستفعلين يا خالة فريال ؟
- لا تقلقى، لابد من أخذ خصلة من شعر عمه، وأن يأخذها بيده هو، حتى أخلصه من هذا المس اللعين.
اندفع محمود إلى سمير وأمسك بأذنيه.
صاح سمير رعبا .
أبعدت يد محمود عن أذنيه والتفت إلى سمير صائحا به :
_ خذ أمك يا سمير والخالة العجوز وامضيا من هنا ،وأنا حالما أفرغ سأت إليكم.
سقط سمير على الأرض ،فزعا حينما رأى وجهى وسمع صوتى.
بعد الحفلة 2
..............
تحركت صوب الخارج ،إلا أن محمود استوقفني قائلا :
-إلى أين ؟!
- إلى الناس ،هذا مكان موحش.
_ولكنك الآن ...
_ولكنى ماذا ؟!
_أقصد كائن مختلف.
_تعنى ميت.
_أنا لا أقصد الإساءة فأنا مثلك تماما.
وفجأة أقبل الرجل الطويل، صاحب المعطف الأسود ،فاختفى على الفور صديقى محمود، قال الرجل بصوت عميق :
_ بعد مضى حياتك الطويلة كلها،بعد كل هذه السنوات ، ولازلت تتوق إلى الدنيا !!
- المتعة الحقيقية، فى القرب من الناس .
- بل فى القرب من صانعك .
-وصنيعته، و الناس هم صنيعته .
- لم تتغير طريقة تفكيرك ولا حتى قيد أنملة !!
- الناس أية من آياته ويكفى أنهم ،من روحه .
- لاتبصر سوى ما تصدقه، وتجادل وكأنك تمتلك الحقيقة ،وحدك ولا أحد غيرك.
_ أنا أحترم الجميع.
_ ولكنك لا تعرف أن الحقيقة لها أكثر من وجه !!
_ ما يعنيني هو أننى كنت أتمتع بحب الجميع.
_ هذا شيء غير مؤكد.
_ كنت لأبى الأثير ، كما كنت فتى أمى المدلل.
_ وأخوتك؟
_ غمرونى دائما بعطفهم، وهم سندى فى الحياة .
_ والأصدقاء ؟
_ كنت أنا اليفهم المفضل .
_ والأبناء ؟
_ هم عزوتى وفلذات كبدى .
_ وزوجتك؟
_ هى نور عينى على الأرض.
_ هكذا توهمت .
_ لقد منحونى سعادة القرب منهم.
_ الحقيقة أنك لم تكن الأثير لدي والدك أو أمك، كنت طفلا بين كثرة، منهم من يكبرك أو يصغرك، حتى إخوانك كل واحد منهم لم تكن تمثل له أى شىء،بل إن من تحسبهم أصدقاء ،كانوا يتخذونك كوسيلة لملئ الفراغ، ولا يتذكرك الآن من أبنائك أحد فقد شغلهم أولادهم حتى عن أنفسهم ، أما زوجتك فهى غارقة فى مشاكلها العديدة مع زوجها الحالى ......
أشجار وورود ورياحين .... وبحار من فضة ،وأنهار من ذهب وقلوب بيضاء كطير من نور ....
أتترك كل هذا و تود أن تعود إليهم ؟!
أتستبدل الأعلى بالأدنى؟
- تلك غايتي .
_ هكذا ستقلب القواعد رأسا على عقب ، أنت هنا فى مكان وزمان أفضل من كل ماعداه.
- ولكنى أحببتهم جميعا بكل ما فيهم من مزايا أو عيوب، وما أراه هنا ليس إلا وهما.
- بل إن ما تراه الآن هو الحق ،وكل ما سبق كان وهما.
- اشتقت كثيرا إلى أحبائي.
- إنهم مجرد خدعة إكذوبة،والذين يرافقونك الآن على الأقل لا يخدعونك.
_أرجوك اعطنى نفسى السابقة وحياتى حتى وإن كانت مجرد حلما قصيرا .
_ كيف ستعيش معهم الآن، بعد أن ادركت أن الخداع ليس إلا وسيلتهم الفضلى ؟!
- أنا فقط أدرك حبهم وعطفهم وأنت لا تنفك تسئ إليهم وتذكر أشياء لا يطيب لى سماعها أوتصديقها، أرجوك دعنى أعود إلى بيتى وأصدقائى وأهلى؟ !
_ولكنك أنت الذى كنت تمنحهم وقتك وجهدك ومالك وحبك.
_حبى لهم قطرة من مقدار حبهم لى .
_ أنت تحب الجميع ولا تستطيع سوى أن تفعل هذا.
_ ولماذا أكرههم؟
_ لأنهم جميعا أساؤا إليك، لم يقدروا حجم ما منحتهم من حب وسعادة...
نحن هنا أولى بك أما هناك فهى أرض ليست لك وأناس ليسوا منك.
................................
