د. سامي عبدالعال - باثولوجيا الثقافة .. السَّمْج


ترتبط السَمَاجَةُ بالقُبح الذي لا مَلاحَةَ فيه، وغالباً ما تُطلق على ثقل الدم والخُلو من الظُرف واللّطافة وتتعلق كذلك باللُّؤم والخُبث في الأقوال والأفعال. وردَ في تراث اللغة العربية: أنَّ السَّمْج صفة اللبن كثيف الدسم وخبيث الطعم والرائحة. أي أنَّ الشخص السَّمج ذو حضور ثقيل على النفس، وفوق ذلك يمثل مصدراً لأشياء غير مريحةٍ، وأنَّه رديء المعشر ويفتقد إلى خفة الروح الإنساني.

ولنلاحظ أنَّ هذه السمات معالم طاغية على سلوكيات بعض الأفراد تجاه الآخرين، وكأنَّها عناصر في تكوينهم النفسي- السلوكي. لأنَّ انعدام القبول ليس أمراً هيناً كي يصبح الانسان مريحاً للمتعاملين معه. وبالتالي يثير السَّمج كوامن "المساحة المشتركة" common area التي نتقابل خلالها، لا من باب الإلتقاء وجهاً لوجه كعادة الكائنالت الإنسانية، بل كل سمج لديه وجه آخر أكثر استفزازاً. وهذه هي المشكلة التي تقف بالسماجة على نقطة التماس مع الناس. وتظل موضوع استفهام حين يقابل أحدُهم شخصاً سمجاً لا يتركه وشأنه!!

غير أنَّ ما يهم دوماً هو الأنماط الثقافية التي تنتشر على نحوٍ واسعٍ. ذلك كعادة ( باثولوجيا الثقافة ) التي أراها مناسبة لإلتقاط خيوط الظواهر الثقافية السلبية وكيفية توصيفها جذرياً. فهل السماجَة يمكن أنْ تمثل نمطاً من تلك الأنماط؟ وبأية معنى تكون السماجة أسلوباً قابلاً للتعميم؟ وما هي خلفيات السَمَاجَة كظاهرة؟ وكيف تشكل صوراً مرتبطةً بظواهر العصر مع وسائل التواصل الاجتماعي والإعلامي والكساد السياسي والإجتماعي؟

تبدأ السماجة برغبة الفرد في أنْ يفرض وجوده على الآخرين، وأن يوصل إليهم " إحساساً لزجاً" غير محايد بأنه" هنا والآن". أي أنه يقول: أنظروا إليَّ.. ها أنذا موجود وأمارس حضوراً طاغياً حتى ولو كان غير مريح وحتى لو كان موضع صدود. لا يهم ما إذا كان وجوداً مفتعلاً أم تلقائياً، لكنه في كل الأحوال يعد وجوداً ظاهراً. وهذا الفرض يحوي نوعاً من التدخل غير المبرر في حياتنا العامة أو الخاصة. ولاسيما أنَّ التدخل مؤداه كون السِّمج لا يحق له ممارسة التجاوز خارج ذاته. وكأنَّ وجوده متفرد وغير قابل لمعرفة حدوده خلال المواقف البينية.

ويقع هذا التجاوز من السمج نتيجة ما يلي:
  • حاجة السمج للإعلان الدائم عن نفسه، والحاجة المستمرة للشعور بتأكيد وجوده الضمني نتيجة الإهمال الواقع عليه من قبل المحيطين به.
  • عدم احترام كيان الآخرين كأنَّهم كم مهمل لا قيمة له. وهذا يكشف إزدراء السَّمج لمخالطيه والمتواصلين معه. في محاولة بائسة للنيل منهم على مستوى غير واضح إذ دس أنفه فيما لا يعنيه.
  • فرض الأمر الواقع من جهة الإنطباع الساري حوله، لأنه يريد القول بكونه ذا صفة معينةٍ وعلى الآخرين أنْ يتقبلوا وجوده كما هو. وتأتي المعاندة صورة أخيرة تحول السماجة إلى آلية دفاعية.
  • تعزيز مواقفه التي قد لا تُقبل، وفي هذه الحالة يميز وجوده بنوعٍ من انعدام الظرافة مع أنه يرى نفسه صاحبَ مكانة ما.
  • الإلحاح على الظهور المفتعل اللافت للنظر. كأنَّ السَّمج يقول ويفعل ما يجعل حضورك قاصراً عن الإستقلال أو التعبير عن نفسه. والسمج يهدف بهذا الاشارة إلى أنَّ وجوده ينتقص من وجودك بالضرورة.
تمثل النقاط السابقة نوعاً من الانتهاك الواضح لوجود الآخر، فالسَّمج يضيفُ إلى "الالتقاء معه" عنصرَ عدم الارتياح. وهذا العنصر يُقلقُ كيان الإنسان كأنَّ هناك شيئاً غير مقبول إطلاقاً أنت على أعتابه أو أنت تجلس إليه. وعدمُ الارتياح لا يقلق الإنسان وحسب، بل يعتبر أبلغَ واقعةٍ يمكن أنْ تعلق بذاكرتنا. لأنَّ السَماجَةَ موقف وجودي - نفسي. ودلالة الواقعة فيها أنها تعطي السَّمج مساحةً للتأثير غير الإيجابي على الآخر. هذا التأثير الذي نشعر به ثقيلاً مثلما نشعر بعملية القهر التي ترغم الإنسان على فعل ما لا يريد أو لا يحب.

ولذلك سيكون السَّمج على موعد متجددٍ مع الرفض لأفعاله وإنْ كان رفضاً غير صريح في جميع المواقف. فكل فرض يمارسه هذا السمج أو ذاك إنما يُقابل بلون من الرفض. والتصحيف هنا بين" الفرض والرفض" هو تصحيف بلاغي- حياتي في الوقت نفسه. وهو يمس أيضاً قدرتنا على أن نحيا متمتعين باستقلالنا قدر ما نستطيع دون مشاعر سلبيةٍ. وبخاصة أنَّ هناك شعوراً من الضيق يكاد يعصف بنا نتيجة السماجة لدى البعض. فالإنسان يحاول تلقائياً أنْ يقبل ما يحيط به وأنْ يعيش بأريحيةٍ طلباً للشعور بالأمان والاستقرار والهدوء النفسي.

والضيق الحاصل يلاحق حريتنا الفاعلة بناء على حقوق المجال العام، ولذلك ليس يدرك السمج أنه يثير الحنق نتيجة افتعال المواقف في سياقٍ لا يحتمل ذلك. وهذا يخالف مبادئ العيش المشترك والحريات العامة والاستقلال ومشاعر التفرد والاختلاف والتميز والفروق الفردية. والسَّمح يجرح هذا البُعد فينا عبر تطفله الثقيل الذي لا يبتسم ولا يترك بهجة. لا يأتي القبول بين الناس مهما يكن على جناح القبح، لأن ملء المناخ العام بمظاهر التطفل السَّمج ما هو إلاَّ ظاهرة معبرة عن إخفاق الإنسان في حضور الإنسان.

واللافت للإنتباه أن السماجة تصنع من صاحبها " كتلةً بشرية" غير قابلة للذوبان بسهولة، صورة متجلطة وقبيحة نتيجة سلوك عرضة للاشمئزاز والاستغراب. في كلمات واضحة أنه يقف حجر عثرة أمام مرونة التواصل والتعامل بين الناس، لأن السمج مثل قطعة الطعام التي لا تُهضم إلاَّ بعد محاولات عسيرة من المضغ. وقد تسبب تلفاً للإسنان مثلما لا يترك السمج المواقف من غير بثور نفسية وسلوكية.

تبدو السماجة في الأعمال العمومية بين المواطنين تشكيلا قبيحاً لعملية التواصل. لأنَّها تخلط بين الخاص والعام، والمفترض ألَّا يكون هناك عنصر مؤثر على إنجاز الأعمال من تلك الزاوية. وبخاصة أنَّ هناك من يتولى المسئولية معتبراً السماجة أداة من أدواته الناجعة. حين ينظر إلى الآخرين نظرة استعلائية تقلل من شأنهم، فما بالنا إذا كانت السماحة لصيقة التأثير في حياتنا العملية!!

ومن جانبٍ آخر، لن يتقبل المتأثرون بالسماجة أية مواقف من هذا المسئول خارج الآليات والقوانين المنظمة للعمل. لأن أخلاقيات المهنة ليست مرهونة بأية سماجة، بل هي طاردة لكل سماجة ممكنة. وكارثة ما بعدها كارثة أن يكون المسئول ذا سلطة وبالوقت عينه سمجاً ثقيل الدم. والعنصران لو اتحدا في شخص مسئول، لكان مجال العمل دائرةً لا تُطاق. وقد يقول قائل: كيف يتم ذلك الخلط غير المبرر بين حدود الخاص والعام؟

السماجة عندئذ هي إحدى أدوات التسلط والقهر الواقعين على المرؤوسين في العمل أو خلال الشأن العام. لأنها ستشعر الآخر بالتبجُح والقُبح والتشوه في علاقات العمل والمؤسسات بجانب ضغوطها ومشكلاتها الفنية والمهنية. وكأنَّ العمل كان في حاجة لزيادة الأعباء والضغوط على كاهل القائمين به. وليس بعيداً أنْ يستغل السَّمج السلطة لممارسة الإيذاء النفسي طوال الوقت. فالسماجة من تلك الزاوية " كنز لا يفنى" لصاحبها ضمن مواقع المسئولية وإدارة الأعمال. والغريب أنَّ السمج قد لا يدرك كم الأثر التي يحدث نتيجة ذلك الفعل، لأنَّه أثر يتعارض مع حقوق الإنسان، وكذلك يمس الإلتزام بالمواثيق الأخلاقية والحقوقية للأعمال. كما أنَّ السَماجَة تقتل الشعور الحي بالكرامة لدى المتعاملين مع مصدرها، فليس هناك مجال لأنْ يتحمل شخص لؤم وخُبث شخص آخر في سياق عمومي. ولئن كانت السَماجةُ محصورةً فردياً في بعض السلوكيات، فإنَّها على الصعيد الأكبر تدمر حقيقة الإنجاز والإنتاج والتطوير.

ولذلك يجب توافر الظروف الموضوعية للعمل ولضمان سير المؤسسات وفقاً للقوانين والآليات المحايدة والشفافة. وأن السماحة غريبة تماماً عن هذه الفكرة، فهي خلط معيب بين السمات الشخصية والشروط العمومية للمجتمعات ومؤسساتها. ولذلك فالسمج لن يجد مبرراً لممارسة وجوده الثقيل، لأنها ممارسة نوعية لا محل لها من العمل. ولو كان هذا الشخص قادراً على التأثير السلبي، فإن هناك جوانب موضوعية شاملة لا تخضع لذلك التأثير. فالسمج سمج لكونه غير خاضع للتقييم المحايد، وأن الظروف الشفافة والموضوعية بإمكانها كشفه في نهاية الأمر.

إنَّ النمط الثقافي للسماجة نمط ( فاقد المعنى) متى لامس المجال العمومي، فالأخلاقيات تقف خلاله على أعتاب القوانين التي تحكم هذا المجال. حيث لا يجب انحراف أية سمات شخصية، وكذلك لا تدع هذه القوانين الفرصة سانحة لنمو السماجة كما تنمو البكتيريا في المناطق الرخوة والرطبة. ومن جهة أخرى فأنَّ أكبر مضاد للسماجة هو العمل الجاد والمنتج، وعدم ترك المساحة المشتركة بين الناس في مهب التلاعب والاستحواذ. وأتصور أنَّ كل سمج يدرك أنه من هذا الصنف ثقيل الظل، ولكنه يلجأ إلى تجاهل ما يفعل مركزاً على كيفية إخضاع الآخرين لتأثيره. ولذلك فإن العمل الجاد سيحيِّد تلك المساحة ويقوى آلياتها المشتركة دون التعويل على السمات الشخصية. وكل ذلك يضع أية سماجة قيد التلاشي، لأنها ستكون أسلوباً عارضاً لا يجد أية تربة خصبة له.

وإذا كانت السَماجَة حضوراً فقد قدرته على الإيجابية، فإنَّ حفظ قدرتنا على التنوع المنتج لهو سبيل استخراج أفضل ما لدينا معاً، سبيل لن يستطيع السَّمج قطع أدنى مسافة فيه دون السقوط يوماً ما. إذ لا يوجد عملٌّ فردي له ذات السمة إلاَّ ويصبح عرضةً للفشل الذريع. وقوة السماجة تستمد من ضعف الشخصيات وضعف الآليات المشتركة وتآكل الأهداف البعيدة لأفراد المجتمع جنباً إلى جنب. فهؤلاء جميعاً يقفون- أو هكذا ينبغي- على صعيد التساوي والفاعلية، حيث لايقل أحدهما عن الآخر ولا يحق لغيرهما من الناس أنْ يطغي حضوراً وثقلاً إزاء سواه.

تعليقات

رائع جداً، موضوع شيق، وطرح فلسفي يتعاطى مع المنطق والواقع..

ألف تحية وتقدير لك يا دكتور
 
أعلى