جلستْ على حافة السرير في وداعة. ممرضة ممتلئة، تميل إلى القصر. لكن نصاعة بياضها وابتسامتها البشوش تصرفانك عن التفكير في الطول أو القصر، وترميان بك في بحر من النقاء لا يوصف.
تعمدتُ أن أخاطبها بإسپانية ناعمة:
Eres una inmaculada -
بالطبع لم تفهمني، لكنها تذوقت نعومة الكلمات الإيبـيرية فابتسمت في رقة. قالت:
- لو علمتْ كبيرة الممرضات ببقائي معك كل هذه المدة لشكت بي.
- أنا مريض خاص في عيادة خاصة وأحتاج إلى رعاية خاصة.
ثم ساد بيننا صمت خفيف متشعِّب الاحتمالات، تهددُه الرغبةُ في الهروب. لكن رغم الأجواء العجلى المتربصة في الغرفة البيضاء، تفرستُ في وجهها المنسجم التقاسيم فسرح بي الخاطر:
- قد تكون نسرين بصدد التفكير في الدار، أو ربما في حرية الطيران عوض أن تظل سجينةَ شكاوى عجوز مخرف. وقبل هذا وذاك قد تكون خائفة على منصبها مادامت حرب المشاحنات بين ممرضات العيادة لا تفتر. ومن أجل ألا أجعل الجمال ينساق مع الأسوأ سألتُها:
- تعرفين الدكتور حسين؟..
ردَّت باستغراب لطيف:
- ليس عندنا في العيادة طبيب بهذا الاسم.
وإزاء ابتسامتي السخيفة تابعتْ مستفسرةً:
- في أي تخصص هو؟
وأغراني السؤال، أنا الأشيب الثرثار، بالاستغرق المتلهف في بحر الكلام:
- سأحكي لك قصته ثم بعد ذلك احكمي على تخصصه.
- لكن الممرضة الكبيرة قد تناديني في أية لحظة..
وإزاء صمتي المعاتِب تابعتْ:
- لـمَ لا ترجئ الحكي إلى نوبة مداومتي الليلية؟
- هي حكاية لن يستغرق الاستماع إليها وقتاً طويلاً. ثم لا تنسي أنهم إن افتقدوك سيطلبوك بالمحمول.
بدا كأنها اقتنعت على مضض فاستغللتُ الفرصة وبادرتها بالحكي السريع. قلت:
- كلما سمعتُ مطلعَ أغنية المطربة المصرية نادية مصطفى:
الصُّلحِ خِيـرْ بِنِـتْصالحْ * الصُّلحِ خِيــرْ
الصلح خير نِنْسَى مْبارحْ* دَا الصُّلحِ خِيـرْ
إلا وحرفتُه إلى مطلع مغاير هكذا:
دكتورْ حُسِينْ نِنْسَى مْبارحْ* دُكتورْ حُسِينْ
ابتسمت نسرين من تصابي شيخ مريض وهو يغني فشجعتني الابتسامة على الاستمرار:
- كثيراً ما تنغمتُ بالمطلع المحرَّف في أحلام اليقظة، وفي جلسات المقاهي، وحتى في البهو الساخن للحمام التركي يوم أن كنت قادراً على التردد إلى الحمام التركي. ثم بعد شهور اكتشفت أن الاسم تسرب إلى مسام جسدي، وعلى إثره تسلط علي سؤال قاهر:
- من يكون دكتورْ حسين؟
وزاد السؤال في انشغالي بالرجل المجهول حتى أُرغمتُ، مع مرور الأيام، على تشكيل صورة ذهنية له، ثم تقوت ملامحُ الصورة حتى غدت كأنها لقريب من العائلة. لم تكن صورة شبيهة بطه حسين، بدليل أن قريبي الجديد كان خامل الذكر، ممتلئ الجسم، أكرش. يعتمر طربوشاً بالياً، ويكاد لا يبالي بهندامه.
كنت أتبجح على الممرضة البشوش بلغة تكاد تكون فصيحة؛ كأني خبير في التربية والتعليم. لكني توقفت هنيهة عن الكلام لما عاينتُ في وجهها بعض سمات التوجس من أن أُخضِعَها لامتحان يُـذِلُّها:
- ليس من الضروري أن تعرفي من هو طه حسين. يكفيني منك الاستماعُ.
ثم استأنفتُ:
-كان دكتورْ حُسينْ في صفاته أقرب إلى الدكاترة زكي مبارك منه إلى طه حسين. مرة أخرى ليس من الضروري أن تعرفي من هو زكي مبارك، ولا لماذا لقب بالدكاترة ما دام هو الآخر من الفصيلة البشرية المهددة بالانقراض الوشيك. المهم أن دكتورْ حُسينْ لا يشبه طه حسين البصير الذي أضاء مصر كلها، وتزوج سوزان، وتحكَّم في ترتيب ربطة العنق مثلما تحكم في كافة حياته حتى غدا وزيراً.
وأخذت الممرضة تمسد بيمناها إزار السرير الأبيض وهي جالسة في تحفز. كأنها سلك زنبركي مهيأ للانفجار، ثم الهروب. ومع ذلك كان لدي يقين بأنها ستستمر في الاستماع مادمتُ لا أقصر في مكافأتها منذ أن حملوني إلى العيادة كالشبح من فرط الهزال. لذلك تجرأتُ وتابعتُ:
- في مرات تالية تمثلتُ قريبي دكتورْ حسين شبيهاً بـالسيد السربوني الذي قالت الأخبار إنه أفنى حياته في طلب العلم في جامعة السربون حتى نُسب إليها؛ عاش بوهيمياً، وخلط الفرنسية بالمرق البلدي الخاثر، وتطلع إلى تحصيل علم عجيب فيه لذة الفول المدمس أكثر مما فيه من شفافية بلاد الغال. كان السربوني قد أرغم نفسه على التفاني في التحصيل مع توهمه القدرة على الكتابة وإنقاذ البشرية بتصورات مستلهمة من كتب الشرق والغرب. ثم أدمن التأليف حتى نسي نفسه ومتطلبات غرائزه. نسي تكوين أسرة، وبناء بيت، وراح ينفق ما يحصله من مال وظيفته على طبع كتبه، وتوزيعها يدوياً، وعرضها في المكتبات، حتى إذا ما مرت فترة قصيرة عاد إلى المكتبات ذاتها ليحسب نسخ مؤلفاته خفية عن عيون الكتبي، ويكتشف أنها لم تُبع منها نسخة واحدة. ثم يرجع في مناسبة ثانية ليجدها قد أزيلت من الواجهة الزجاجية، وكُدست في المخازن. حينذاك كان يشتريها كأنه ليس هو مؤلفها، ثم يوزعها هدايا على غرباء العرب في باريس. ومع اشتهار خطته فطن كثيرون إلى غباء الدكتور السربوني فتعمدوا مجاملته إن لقوه يسير منحني الظهر:
- سمعنا أن كتابك الأخير حول مناجاة فُتات الذرة روعة في التأليف. أما من سبيل للعثور عليه؟
كان دكتورْ حُسين يدرك جيداً أن السائل لن يبحث عن الكتاب، ولن يشتريه، ولن يقرأه. لكن رغم ذلك كان يفتح محفظته الجلدية السميكة ويخرج منها نسخة ويوقعها، ويسلمها له هديةً، قانعاً بابتسامته الزائفة.
بيد أن الوضع المادي للدكتورْ حسينْ ساء في بلد الغربة مثلما تدهورت صحته جرّاء التفريط وافتقاد عناية الأهل. ثم أقعده المرض عن الخروج، وعن التأليف، فلزم غرفته في فندق باريسي رطب في حي مُـونبرناس.
وصمتُّ قليلاً جراء إحساسي بتعب الحكي فأنقذتِ نسرين الناصعةُ الموقفَ:
- أي مصير انتهى إليه المسكين؟
أجبت بابتسامة أسفٍ:
- مثل مصير الفيلسوف عبد الرحمن بدوي.
وإزاء استغرابها سألتُها فيما يشبه المعاتَبة:
- ألا تعرفين عبد الرحمن بدوي هو الآخر؟
وحركت رأسها نفياً فانتبهتُ إلى الخطأ. لقد كان من اللازم أن أتحاشى كلياً خطة العتاب حتى أظل مستمتعاً بالبياض الذي قبالتي أطول مدة ممكنة:
- ليس مهماً أن تعرفيه. المهم أن تعلمي أنهم حملوا الفيلسوف من باريس إلى القاهرة شبه جثة هامدة، ثم أودعوه في غرفة العناية المركزة.
وبدت علامات التأسي على محياها. لكنها تململت في جلستها وأخذت تنظر إلى ساعة محمولها كما لو تستعد للانصراف. وبمجرد ما أن تأهبتْ للفرار عالجتها بالسؤال المعلّق:
- هل عرفت الآن تخصص دكتورْ حُسينْ؟
- ليس بالضبط..
ولم أعلق وإنما أردفتُ بسؤال جديد:
- وهل عرفتِ من يكون دكتورْ حُسين؟
قالت وهي تهب واقفة وتتجه نحوالباب:
- كيف لي أن أعرف مادام الرجل ليس واحداً؟ حتى أنت لم تعرفه من يكون..
أجبتُ بصوت نحيل:
- ذاك جواب مقنع. ليس من الضروري أن تعرفيه ولا أن توسخي صفاءك بالمزيد من أخباره.
وقبل أن تقفل الباب قالت كمن يود تصفية الحساب بجرة قلم واحدة:
- على كل حال هو ليس طبيباً..
وهربت مني كالفراشة، وتركتني أحاول الدبيب لأستعيد توازني في الفراش وأستلقي على الوسادة البيضاء بتؤدة.. وتؤدة، كما النسمة الجريحة..
.