منار فتح الباب - القطار لا يصل الي البحر

كنت أود أن انتهي اليوم من رسم "القطار" وفجأة تذكرت أنني طال ما أجزت لنفسي أن أصفها بأنها مجنونة..

ترى كيف سيظهر الجنون في لوحتي؟ وكيف سأبدو بعد قليل بعد أن أترنم باللحن الجديد الذى ألفته؟

لقد بدت عين جهاز المسجل الصغير الضاحكة الواسعة كعين رجل يراقب جسداً عارياً في خيمة سيرك.. أنني أجيد أشياء كثيرة.. أجيد معرفة المسافات بين فساتين السيدات الحوامل وبطونهن المنتفخة وطلاء كل الأيام المجردة التي لا تعني شيئاً بألوان ما، وتتميز البلهاء في الشوارع.

حيثن انحدر الماء الساخن في جو الصيف القائظ على وجهي وقفت أمام مشهد الماسورة الصدئة وهى تعبر ما بين النافذة المطلة على البحر وعيني التي غمرت بالماء – ولم تعد تناسب حجم وجهي – وصارت طرية، وصرت بعد ذلك تمثالاً مطاطياً يهتز يومياً لرؤية العناكب وهى تجر أشياء وهمية ومشاهد حركة الغروب.

كانت ماسورة المياه تشبه الرصيف الذى وطئت ترابه قدماً ذلك الرجل المجهول الذى ظل يلاحقني اليوم في شوارع الإسكندرية وكان يخال شعري طويلاً وينهرني وأنا أقفز من شاطئ لآخر، واقتنص مشاهد للوحاتي الجديدة.



زدت من حركة الماء المتدفق بينما كانت الشمس تضفر شرائطها وتجمع ثدييها وتنثر دماءها لتستعد للاستلقاء الأبدي قبل أن تفض بكارتها ويجرحها نصل شراع بعيد.

خيل إلى أن قدمي ذلك الرجل قصيرتان لا تناسبان لهاثه المسموع ولا زمن نزوله إلى رصيف المحطة والتفاتي إليه فجأة، كما ألتفت الآن لخيط الماء المنحرف الذى بدأ كحبل سري يصل لفمي ثم لجوفي.


لقد بدا لي الرجل – في لحظة ما – في جلبابه الخشن كامرأة ميتة بعثت إلى الحياة. ترى كيف يبدو حين يغطس إلى الماء في رعشة ذات هدير؟

أنني لا أعرف شيئاً.. لا أعرف كيف كرهت الأقدام والأحزمة الجلدية ومشاهد الآذان المختلفة، وكيف تنقلت من حب الرسم إلى تأليف الألحان، ولماذا ينظر الناس إلي وإلى مفرق شعري؟ ولماذا لا يتحرك كحركة الخط الحديدي للقطار فيسير مع قدمي الغبيتين اللتين لا تتوقفان أبداً؟

وما علاقة أن ينظر الناس إلى بكثرة شواطئ الإسكندرية وامتدادها على ذراعي وازدحامها بالأقدام العارية وغير العارية والرمال القديمة وعربات المواليد الصغار.. وكيف صار للشحاذين صوت بعد أن كانوا صامتين، وكيف صارت لهم أرجل قوية ذات أقدام واسعة الخطوات؟

لدى لقمة صغيرة ولا أدري هل أعطيها للقطة المتشردة التي تأكلني بعينيها بعد أن أفرغت حمولة بطنها الممتلئة بالصغار، أم لذلك المسكين الذى يجر عربة فارغة؟!

حين ينظر إلى – وأنا آخر النساء الجميلات اللاتي عرفتهن الشواطئ – تبدو لي نهاية الشريط الحديدي مائلة دون جدوى حيث يأخذنى إلى الصفير.. الصدى هو ظل القطار

الذى

يميل برأسه البارز ويضاجع الطرق الضعيفة ويقلع بي كل يوم دون هدف.. القطار ظل سائقه الذى لابد أن يكون ذا شاربين قويين ليسيطر على عجلات القطار الذى لا يهدأ ميلاً. ينحرف الشريط الحديدي، يميل القطار، يتوقف.. أتوقف.



أعيش وحدي.. أفكر في سائق القطار الذى لم أره.. يستطيل شعري كغابة.. أوزع جسدي على نوافذ قطارات "الإسكندرية" التي لا تصل إلى البحر لأنها باردة جوفاء.

اليوم بعد أن استمعت إلى صفير فيلم بوليسي فرنسي، استطعت احتواءة بين عيني بعد عناء شديد.. أنه البحر الذى طغى هدير موجه على صفير المحطة في أذنى وقرقعات هسيس النار تشوى أذرة الكورنيش، وبدأ معى لوحة جديدة ولحناً جديداً.


لقد أنقذنى البحر اليوم من الغرق وتشبثت ضلوعه بضفائري حين ملت على الصخور برأسي لأدراك ثقله، ولكي أتمم التوزيع الموسيقى لمشهد اختلاط أطراف الناس على رصيف المحطة ثم غوصها داخل البحر وهى تنثر الزفير والرمال السلفية الناعمة كالبشرة، وارتطم المشهد بخبطات الشحاذين على ظهور الناس وصراخهم المفاجئ..

ولكن.. أيهما الصخر الحقيقي.. المحفور بالأسماء أم بالموج أم الأجوف؟.. أيهما الرمل الحقيقي.. رمل الشاطئ أم رمل البحر؟.. الخشن أم اللين؟.. أيهما المرأة الحقيقية.. المرأة الحامل أم المرأة الجميلة؟.. وأيهما الأكثر عبقرية.. الوتر الجيتاري الخشن الأعلى، أم الأدنى الأملس؟

الآن.. أبدأ اللوحة – التي تشبه اللحن – بعد ما تشكل اللحن في هدير الموج الأعلى وأزيز الشمس الغاربة وفي أثناء تدفق الماء على جدران الحمام والماسورة الصدئة أفقياً نحو رذاذ البحر ليلتقيا.. إنه الماء المضمخ برائحة جسدي المعطرة الجذابة.. كانت الرائحة مزيجاً من روائح زيت القطار وألوان اللوحة الشفافة التي دلكت بها بشرتي والصابون المحلي.



لاشك أن رائحة عفونة الطحالب القديمة التي غلفت قماش اللوحة كانت تثيرني كثيراً.. إنه قماش قديم لسفينة غارقة، يبدو خشناً، لكنه في حقيقته طرى كسجد الحلزون الرقيق.. لهذا ستكون لوحتي رقيقة.. وستعزف لها طوابير الرمال التي كونتها في غرفة البدروم، وكنت استأجرتها حديثاً حين لاحظت أنها مظلمة كمحطة القطار.

رائحة الطحالب لازالت تخترقني.. أنها تشبه رائحة جلباب الرجل الذى سار خلفي اليوم وكان يتنكر في صورة جديدة أنه ليس كالرجل الأول.. لأني اليوم لست كالأمس.. لوني لون الرمال.. جسدي مستدير كقوقعة.. هفهاف كثياب فارغة أراها تطير مع الملابس التي نشرها المصطافون وغطت الكورنيش.

اليوم.. أعيش وحدي.. أفكر – في ملل – في عضلات سائق القطار وقد بدا هيكلاً خشبياً من خلف زجاج أزرق بلون البحر وبدت رأسه كنتوء طحالب شرس.

أتخيل أني أطيح به مفككاً إلى الحقول، وأقود القطار وأوقفه أينماء أشاء، أعيد تركيب جسد السائق وألبسه جلباباً وأجعله يلاحقني على طول الكورنيش، فيزداد نفير السيارات صخباً حتى يطغى على ترانيم أوتار جيتاري الضعيفة التي تعزف الموسيقى الكلاسيكية فأكسره وأهرب مرة أخرى الماء إلى رذاذ المتدفق من الماسورة الصدئة، قبل أن يحس الناس بوجودي، ثم يضجوا بحركاتي السريعة غير المفهومة.



ولكن، لابد لي أن انتهي اليوم من رسم القطار قبل أن يجرفني في منعطف اللوحة.. ثقوبها الصدئة هى نوافذ القطار المهترئة.. جدران الغرفة هى ضلوعه التي تميد بي حيث أكون الراكبة الوحيدة والسائق فأخصص العربات الكبرى للسيدات الحوامل والعربات الصغرى للمواليد الصغار. وحين يصرخون في دفقة واحدة يصمون أذني فتزداد سرعة الخط الحديدي وعنف ارتطام السحب فوقي واتخذ قراراً مفاجئاً بأن أمضى لأحفر اسمي الذى نسبته منذ فترة بعيدة على إحدى الصخور المشمة وأخلق معه اسماً آخر لمجهول ثم أضحك.



كم كنت أود أن انتهي من رسم القطار.. لكن العربات تدفقتت وتكدست.. توقفت المواليد لحظة.. كبرت أنوف الحوامل والتصقت ببعضها.. الماء أغرق الحقول المجاورة.. الأرصفة اكتسحت جدران المحطات والموج يعلو كالحريق والرجل الذى كان يطاردني قد جن، فصار يمشى إلى الوراء وأنا أمامه.

الريشة في يدي مجداف عجوز يهتز ولا يوقف سير شراع مركب، والألوان تتنافر وتصهل فلا تميل ولا تصفر في اتجاه واحد محدد(*).


منار.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى