إدورد وليم لين - 5 - المصريون المحدثون.. شمائلهم وعاداتهم في النصف الأول من القرن التاسع عشر - الأستاذ عدلي طاهر نور

السكان

من المستحيل تقريباً في بلد لا يقيد فيه مواليد ولا أموات أن يعين عدد السكان بدقة. وقبل تأليف هذا الكتاب ببضع سنوات عمل إحصاء على أساس عدد البيوت في مصر وافتراض ثمانية أشخاص لكل بيت في العاصمة، وأربعة أشخاص لكل بيت في الريف وهذا الإحصاء - على ما أعتقد - يقرب جداً من الحقيقة. ولكن الملاحظة الشخصية والبحث يجعلانني أميل إلى الاعتقاد بان مدناً كالإسكندرية وبولاق ومصر العتيقة تحوي كل منها خمسة أشخاص على الأقل لكل منزل. أما رشيد فنصفها آهل ونصفها الآخر قفر، ودمياط المزدحمة بالسكان يجب أن نحسب ستة أشخاص لكل منزل فيها وإلا نقص تقديرنا كثيراً عما يظن أنه عدد سكانها. فإذا أضيف شخص أو شخصان إلى كل منزل في المدن المذكورة، فلا يحدث مع ذلك إلا فرق ضئيل في إحصاء سكان مصر ومجموعهم طبقاً لتلك الطريقة الحسابية يبلغ أكثر من مليونين ونصف المليون من الأنفس؛ ولكن هذا العدد قل فيما بعد. وكان من المحتمل أن يكون من هذا العدد قرابة مليون ومائتي نفس من الذكور ثلثهم (400000) يصلحون للخدمة العسكرية

وقد جند محمد علي من هذا العدد الأخير مائتي ألف رجل على الأقل لجيوشه النظامية وللخدمة البحرية. وأقصى خسارة نتجت من إبعاد هؤلاء الرجال عن زوجاتهم، أو منعهم من الزواج عشر سنين، لا بد أن تزيد على ثلاثمائة ألف؛ ولذلك جعلت مجموع السكان أقل من مليونين. أما عدد أفراد الطبقات المهمة فقد كان كما يلي على وجه التقريب:

مصريون (فلاحون وحضريون) 1. 750. 000

مصريون مسيحيون (أقباط) 150. 000

عثمانيون أو أتراك 10. 000 سوريون 5. 000

يونانيون 5. 000

أرمن 2. 000

يهود 5. 000

أما بقية السكان من البدو والنوبيين والعبيد والمماليك والفرنج، فمن المحتمل أن يبلغ عددهم نحو سبعين ألفاً. أما عدد كل طائفة على حدة فلا يمكن معرفته على وجه اليقين. وقد كان عرب الصحراء بين الغربية والشرقية لا يعدون في سكان مصر.

قلت: إن القاهرة يبلغ عدد سكانها مائتين وأربعين ألف نفس تقريباً عندما وضع هذا الكتاب. ولو كنا قد بنينا حكمنا على أهل هذه المدينة من ازدحام شوارعها المهمة وأسواقها لخدعنا كثيراً. ففي كثير من القارات والأزقة لا يرى إلا القليل من المارين. كذلك لا يمكننا الحكم من سعة المدينة وضواحيها، فإن داخل الجدران كثيراً من الأمكنة الخالية، بعضها يتحول إلى بحيرات أثناء الفيضان. ثم إن الحدائق والمقابر الكثيرة وأحواش المنازل والجوامع تشغل مساحة واسعة. وقد عددت بين سكان القاهرة نحو مائة وتسعين ألفاً من المصريين المسلمين، وحوالي عشرة آلاف من الأقباط وثلاثة آلاف أو أربعة آلاف من اليهود، والبقية أجانب من بلدان مختلفة

ويرجع أن سكان مصر في عصور الفراعنة كان عددهم ستة ملايين أو سبعة. ولو أن شيئاً من محصول الأرض في العصر الحاضر لم يصدِّر، لعال هذا المحصول أربعة ملايين نفس. وإذا كانت الأرض الصالحة للزراعة تزرع، لكفى المحصول ثمانية مليون، وغاية ما يمكن أن تصل إليه مصر في أغزر السنين فيضاناً. ولذلك فإني أعتقد أن المصريين القدماء في الوقت الذي كانت فيه الزراعة في حالة ازدهار كان عددهم كما قررت سابقاً. كما انه من المفروض إن عددهم لم يكن يزيد على نصفهم إلا بقليل في عصر البطالسة والعصور التالية، عندما كانت تصدر كميات كبيرة من الحبوب سنوياً. وهذا الإحصاء يتفق مع ما قاله ديودور الصقلي من أن مصر بلغ عدد سكانها في أيام الملوك الأقدمين سبعة ملايين، بينما في عصره لم يقلوا عن ثلاثة ملايين

ومن تأمل في سياسة محمد علي لا يسعه إلا أن يأسف للفرق بين حالة مصر تحت حكمه وبين ما كان يجب أن تكون، إذ لم يزد عدد سكانها بكثير عن ربع العدد الذي كان في إمكانها إعالته.

ولقد كان في استطاعة العاهل العظيم أن ينفع شعبه أجزل النفع لو أنه بدلا من إفقار الفلاحين بنزع الأراضي الزراعية واحتكار المحصولات القيمة، واستخدام كفاءة السكان في إرضاء طموحه وتحقيق فتوحه، أو في منافسته الصناعة الأوربية على غير طائل

كان قد وجه عنايته إلى مساعدة الطبيعة في أن يجعل مصر بلداً زراعياً على الأخص، فقد كان يكفي محصول قطنها وحده، بل ويفيض، للحصول على كل منتجات المصانع الأجنبية وكل المحصولات الطبيعية التي تتطلبها حاجة السكان من البلاد الأجنبية

الفصل الأول

ميزات المصريين المسلمين وملابسهم

يؤلف المسلمون العربيو الأصل غالبية سكان مصر منذ قرون. وقد أحدث ذلك انقلابا في اللغة والقوانين والشمائل العامة، وأصبحت العاصمة المصرية أعظم قاعدة للمعارف والفنون العربية. وسيخصص لوصف هذا الشعب - على الأخص الطبقتان الوسطى والعليا في القاهرة - أكبر جزء من هذا الكتاب

ويلاحظ أن شمائل المصريين وعاداتهم تثير الاهتمام بنوع خاص، لأنها مزيج من تلك الشمائل والعادات التي تسود الجزيرة العربية وسورية وشمال أفريقيا كله وتركية إلى حد بعيد. وليس في العالم بلد كمصر يمكننا أن نحصل فيه على معرفة تامة بأكثر طبقات العرب تمدناً

ويظهر من الإحصائيات الواردة في مقدمة هذا الكتاب أن المصريين المسلمين - أو المصريين العرب - يؤلفون تقريباً أربعة أخماس سكان العاصمة، وسبعة أثمان سكان مصر كلها

والمصريون المسلمون من جنس خليط انحدر إلى حد كبير من عدة قبائل وعشائر عربية وفدت إلى مصر في عصور مختلفة، بعيد الفتح. وهؤلاء العرب المهاجرون كانوا أولا قبائل تجوب الصحراء، ولكنهم تركوا حياة البداوة وتحضروا، ثم اصهروا إلى الأقباط الذين أصبحوا بالإسلام آمنين، فأدى اختلاطهم هذا إلى تكوين شعب كثير الشبه بقدماء المصريين الذين ينتمون إلى الجنس (القوقازي) مع قرابتهم إلى الجنس الأسود على درجات مختلفة، وهذا الشبه يبدو تاماً في عدة أفراد منهم على الجملة، وعلى الأخص في القبط والنوبيين، وهو في مسلمي مصر الوسطى والعليا أكثر شيوعاً ووضوحاً، ولكنهم مع ذلك ليسوا أقل عروبة من أهل الحضر في الجزيرة ذاتها، إذ فشت فيهم منذ القدم عادة اقتناء الجواري من قبائل الجلا والأحباش، إما للزواج وإما للتسري. ولذلك كان عرب المدن الآن يشبهون الجلا والأحباش بقدر ما يشبهون البدو. وهذا - على الأقل - هو الحال في مدن الإقليم الجنوبي الغربي من بلاد العرب؛ أما الجهات الجنوبية، فالحضريون فيها أكثر اختلاطا بالهنود وأجناس الملايا وبالأفريقيين كذلك. فالمصريون عامة والعرب كذلك - ولو على درجة أقل - ينزعون بعرق إلى أهل أفريقيا الأصليين. ويلاحظ أن لفظ (العرب) يطلقه سكان البلاد العربية الآن على البدو في مجموعهم، ويطلقون كلمة (العربان) على أهل القبيلة أو على القليل منهم، أما الفرد فيسمى (بدويا). وقد زال التمييز بين القبائل تقريباً في العاصمة وفي غيرها من المدن المصرية؛ ولكنه لا يزال باقياً بين الفلاحين الذين حافظوا على عادات بدوية كثيرة سأتكلم عنها فيما بعد. وفي بقاع مختلفة من مصر عشائر تنحدر من العرب الأولين الذين يترفعون عن التزوج ممن هن أقل منهم جنساً. وهؤلاء يصعب بل يستحيل تمييزهم من قبائل صحراء الجزيرة العربية. ومسلمو القاهرة الوطنيين يسمون أنفسهم عادة: (المصريين) و (أولاد مصر) أو (أهل مصر) و (أولاد البلد)؛ وآخر تلك العبارات الثلاث أكثرها شيوعاً في المدينة نفسها. أما أهل الريف، فيسمون بالفلاحين (أو المزارعين)؛ وكثيراً ما يطلق الأتراك على المصريين لفظ الفلاحين، ويقصدون به معنى الغلظة والجفاء، أو ينبذونهم بأهل فرعون إهانة لهم، فيرد عليهم المصريون كلما اجترءوا على ذلك بتسميتهم أهل نمرود

ويتراوح طول المصريين بين خمسة أقدام وثماني بوصات، وخمس أقدام وتسع بوصات، وأغلب الأطفال تحت سن التاسعة أو العاشرة دقاق الأطراف ضخام البطون، ولكن. . . سرعان ما تتحسن إشكالهم كلما تدرجوا في النمو، فلا يبلغون أشدهم حتى تتناسب أعضاؤهم بشكل ظاهر. فالرجال أقوياء مفتولو العضلات، والنساء جميلات التكوين بدينات من غير إفراط. ولم أرى في المصريين بدانة إلا في الذين أخلدوا إلى حياة البطالة في العاصمة وفي غيرها من المدن

(يتبع)

المستشرق الإنجليزي إدورد وليم لين
[SIZE=6] [/SIZE]

مجلة الرسالة - العدد 428
بتاريخ: 15 - 09 - 1941

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى