محمد حسنين هيكل - السراب.. قصة قصيرة

كان يجب أن يكون مبتهجًا طروبًا؛ فاليوم يوم زفافه.. ولكنه لم يكن في الواقع كذلك! نعم إنه في أعماق قلبه كان سعيدًا، ولكنه لا يدري لم كان كذلك قلقًا عصبيًا. ولم يكن يدري سببًا لذلك القلق الذي خيم عليه وذلك الانقباض الذي أحسه طول ذلك اليوم، وهو الذي كانت الابتسامة لا تغيب عن شفتيه أبدًا..! كان يكثر من الصياح لأتفه الأسباب، ويثور بلا داع ولا مبرر، وكأنه هو أحس بذلك فانتحى ركنًا قصيًّا ليريح أعصابه المكدودة المتوترة.
جلس في ركنه يستعيد ذكرياته، ويستعرض شريط حياته، وإن ذاكرته القوية لتعود به القهقري ثمانية عشر عامًا إلى الوراء.. فهو يذكر نفسه طفلاً في الخامسة من عمره، ومع أنه ضرير فقد نعمة الإبصار منذ مولده فقد كان كذلك “,”عبقريًّا“,” كما كانوا يسمونه.
وإنه ليذكر أن طفولته كانت طفولة بائسة شقية، فكم قاسى فيها من متاعب وآلام!
إن أباه لم يكن يرحمه! كان يعاقبه لأتفه الذنوب، وكأنما كانت عاهته المؤلمة سببًا من أسباب قسوة أبيه، نعم إن أمه كانت تعطف عليه، وكانت تحبه وتدلله، وكان يجد الراحة بقربها، ولكن ذلك لم يكن كافيًا حتى للتخفيف من آلامه.
وكذلك كانت يعطف عليه أقاربه، ولكنه كان يكره هذا العطف المشوب بالازدراء.. وإن الذكريات لتتوالى في مخيلته سريعة متتالية، منها ما هو واضح جلي، ومنها ما هو غامض أشبه بالاحترام.
فهو مثلاً لا يذكر ذلك اليوم الذي مات فيه أبوه تاركًا أمه في بحر الحياة الخضم وحيدة بائسة بطفل ضرير، وإيراد لا يكفي نفقاتهما الضئيلة.
وإنه ليذكر يوم نصح الناصحون أمه أن ترسله إلى معهد للموسيقى، وهو يذكر أول يوم له في هذا المعهد، وأن سني دراسته بهذا المعهد لتكون أجمل ذكريات حياته، كانت واحة السعادة في صحراء حياته البائسة.. وإنه ليذكر الصعوبات التي لاقاها في بدء دراسته، ويذكر موجات اليأس التي طالما غمرته وكادت تقعده عن الدرس، ولكنه يشعر بالفخر كلما ذكر أن روحه القوية استطاعت التغلب على تلك المصاعب، وقامت بعمل المستحيلات؛ فإذا به أخيرًا يحمل دبلوم ذلك المعهد..
وإنه ليذكر يوم أذيعت نتيجة الامتحان، وأن ابتسامة هانئة لتطوف بشفتيه كلما تذكر سروره في ذلك اليوم، فكم كان فرحًا سعيدًا مبتهجًا، وكذلك كانت أمه..
وإنه بالطبع ليذكر ذلك اليوم الذي عين فيه مدرسًا للموسيقى بإحدى المدارس، وبذلك أوشكت حياته المضطربة على الاستقرار، واستطاع، بمرتبه الضئيل والإيراد الذي خلفه له أبوه، أن يضمن لنفسه ولأمه حياة بسيطة هادئة، وحينئذ بدأ يفكر في الزواج، وكذلك فكرت معه أمه.
وإنه ليذكر أحلامه في الزواج وأمانيه.. كان يريد زوجة جميلة وادعة، وكان يريدها متعلمة كذلك، وكثيرًا ما تخيل نفسه وفتاة أحلامه جالسين معًا وهي تقرأ له مقالاً في جريدة أو قصة في مجلة، وما أشد شغفه بالقصص والروايات! وكان الخيال يشط به لدرجة أنه كان يكاد يشعر بصوتها في أذنه، وإنه لصوت عذب جميل رائع الوقع كأنه أنغام مرسلة.. وسيذهب معها إلى السينما والمسرح، وإنه ليحب كثيرًا هاتين التسليتين، وستصف له زوجته بالطبع المناظر بدقة..
ولن يعود يمشي في الطريق حائرًا مترددًا، بل سيمشي قدمًا بلا إحجام؛ فذراعه ستكون في ذراعها، وستصف له ما بالطريق من مناظر..
نعم إنها ستكون له كل شيء.. كل شيء! ستكون عينيه اللتين يشق بهما حجب الظلام الكثيف الدائم المخيم عليه، وستكون نجمه الهادي الذي ينير أمامه الطريق ويرشده في ظلام الحياة.. نعم سيعرف لذة الحياة بقربها، وسيذوق النعيم معها، فهو ما عرفه حتى الآن.
وإنه ليذكر جيدًا، وأخيرًا، ذلك النبأ الذي حملته له أمه ذات يوم فتكهرب له دمه.. لقد وجدت له عروسًا.. وإنها لتقول إنها جميلة، وأنها رشيقة القد واسعة العينين، وأنها تجيد القراءة والكتابة كما تقول أمها، وهي إلى ذلك من عائلة طيبة على شيء من اليسار. إذن فقد تحقق كل شيء..
وتتوالى الذكريات وتتابع سريعة متلاحقة، فهو يذكر يوم خطبها، وإنه ليعجب كيف رضي به أبوها وهو ضعيف الأمل في ذلك، وعجب كذلك كيف رضيت به هي، ولكنه أقنع نفسه هائمة في أودية أخرى بعيدة! أودية الأحلام الذهبية، وكأنه كان يحمد الله أن خلق له ما أراد..
وأخيرًا انتبه من أحلامه وتأملاته فإذا به يسير مع عروسه جنبًا لجنب إلى شقتهما الصغيرة، ويجلسان إلى المائدة وحيدين، فيحاول أن يكلمها فلا تجيب، وإذا هو يسألها عن الوقت -مشيرًا إلى المنبة الذي وضع على المنضدة القريبة- فإذا هي متلعثمة لا تجيب، ثم إذا بها بعد ترددها الطويل تنبئه أنها لا تعرف كيف تقرأ الساعة..
وأنه ليعجب لذلك، ويرى فيه نقصًا يجب تداركه.. وينتهيان من الطعام، أو قل ينتهي هو من الطعام، فهي لم تذق منه شيئًا.. وهو ينهض داخلاً إلى حجرة النوم تتبعه هي..
وإنه لسمع صوتًا يدل على أنها اصطدمت بالحائط.. فيعزو ذلك إلى اضطرابها، ويطلب منها أن تترفق بنفسها.. ثم إذا به، ويا للعجب، يسمع صوت سقوطها على الأرض متعثرة في الكرسي الصغير الموضوع بجوار الباب.. وإنه ليقترب منها ليعينها على النهوض فإذا به يصطدم بيدها ممتدة في الفضاء تتحسس طريقها، فإذا شكوك قاتلة تملأ رأس الفتى، وإذا به يكاد يصعق، فهو يدفع إليها بجريدة طالبًا منها أن تقرأ له؛ فإذا هي تجيبه بصوت مخنوق بالتأثر بأنها لا تعرف القراءة.


- مجلة آخر ساعة، ع / 457 ، في 04 يوليوز 1943

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى