حسين عجة - قرابين عابرة.. شعر

إلى كمال العبدلي

حَينَ كان النهرُ يجمعنا خلسةً من خلفِ طاولاتٍ نحتتها
الرياحُ
والأسماكُ التي تَعلَمتْ للتو قراءةِ الأضواءِ من لغطِ
الشارعِ، أبي نؤاس، كنتُ أضَعُ أوراق لعبتي بيد ثلة من
الرفقةِ اخبروني بسحرهم المحير على خلطها؛ أوراق
تُبَدلُ سحنتها في الصيفِ لكي تلبسُ حلةِ المساءِ الوقورةِ
وتَسرحُ
بعيداً في نظراتها المُدَلهمةِ، تَرفعُ تارة الإبهام الأيمن لكي
تُبَشرُ بهواءِ الجيلِ القادمِ، وتارة البنصر الصغير لتنطق
قرار المحكمة : لا شيء جديد تحت نفس الشمس الحارقة.
كُنتَ تَمرُ خاطفاً، قبل لقاء أيادينا في طقوسِ المصافحةِ،
وترى
ما يَخْطفُ وجهي ويُحَيلُ سمرتهِ المُوروثةِ إلى لونٍ يَشبهُ
في خضارهِ ضفةً مهجورةً، أو العلق الذي ظل متشبثاً
بطحالبها وصبوة سكرها الليلي؛ في حلم أو عن طريق
مراسلة ما بين أقمار نائية عن بعضها، سمعتُ للمرة الأولى
من ريشتك الطائرة رواية القرابين والمعبد يقدمونها
تحت أقدامه الشامخةِ، تقدمة، ضحية، أو لقضاء الوقت
المُثقلِ بدقاته وأخبار صحفه الشتوية؛ أومأت لي على رجل
يهذي على الرصيفِ المُقابلِ ويَنثرُ لحمامٍ كان يَقْفُ قبالته،
بالقرب منه، ببذور ملونة من القمح، الشعير والذرة : “أنني
أبحث
عن مخلوق أغزوه، أين أنتَ يا رفيقي لألقي عليك بحملي
الذي لا يُطاق، لأنهبك، آه أيتها التقدمة التي تُرفَض دائماً
أن هذا
الغَضَبُ لم يصنع العالم،
لكنه يجب أن يعيش فيه، آه يا رفاقي
أن تحيتي لكم كجارة ألقيت في بئر، يا للعنة”.
ذلك كان هذيانه، أو ما
يماثلهً، فذاكرتي ما عادت تخطف من سنوات
التبغ الشاحب و
والخطى اللاهثة ، ستنيات القرن المنصرم،
كما وصفتها خادمة السيد في صحنها الطائر
سوى ما يبرق في ليل العالم. ضحكنا، قومتَ
لي برهافة الشمعة التي تحملها في جيبك،
كلغز أو لعبة،
أخطائي
الصرفية والنحوية الغافية
في مهد روحي الظامئةِ
وكأنك عازم على أبدال لوني
المُخضرِ ورد السمرة الموروثة لمحياه الذي لم يكشف
بعد عن خيبته اللاحقة، أسرعتُ أنا بجواب اللعثمة، أخَرَجتُ
قطعاً ممزقةً لرجلٍ آخر، فيما منحتني أنتَ باحة أذنك الواسعة :
“أنتِ تملأنني كما يملأ الدم الجرح الجديد، وتسيلين في عروقي،
آه أيتها الوحدةِ، يا نتاج العمر الطويل والضياع، أنني متعب من
خداع التفاصيل”.
ثانية، كالجنون كان ضحكنا يهز قاعة امتحان آخر السنة :
صفر في الإملاء، صفر في الجغرافية، صفر في الحساب،
صفر في التربية الدينية؛ الخالق ينظر من عليائه، كالعادة
ولا تفارق نوره ابتسامة الشفقة على القرابين تنزف دمها
في بحيرته الخالدة.
بعجالة أنهينا تلك الليلة إشارات التعارف، بالقرب من
حراس المعبد والخوذ الفولاذية القاسية، ثم
مضينا كل في نوره وعتمته، قلبان
يخفقان كالسعفة المائلة،
غبطة، وله، للنهر، سررنا
ببوحنا المفصل على أعمارنا
الغضةِ : فردوس شعر أو نحت
لا يكل وفاءً للحظةِ النسمة
العابرةِ.


حسين عجة: قرابين عابرة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى