محمد شمروخ - طه حسين والشعر الجاهلى.. نظرة عابرة إلى الفصل المحذوف

ماذا لو كان الفصل الذى تسبب فى إثارة الزوابع على الدكتور طه حسين فى كتابه «فى الشعر الجاهلي» لم يكتب فى الكتاب؟!

قد يبدو السؤال ساذجا، لكن بالفرض جدلا -مع الاحتفاظ بالسذاجة- أن هذا الفصل لم يكتب، لما ثارت تلك الزوابع التى تثار حتى الآن بين مدافع ومهاجم ومؤيد ومعارض فى معارك واشتباكات تتجه إلى كل اتجاه.

ولم يكن لكتاب الشعر الجاهلى الصادر فى عام 1926 أن يثير ما أثاره ويعرض كاتبه لتحقيق أمام رئيس نيابة مصر لو لم يذكر هذه العبارة: «للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل، وللقرآن أن يحدثنا عنهما أيضا، ولكن ورود هذين الاسمين فى التوراة والقرآن لا يكفى لإثبات وجودهما التاريخي، فضلا عن إثبات هذه القصة التى تحدثنا بهجرة إسماعيل بن إبراهيم إلى مكة ونشأة العرب المستعربة فيها. ونحن مضطرون إلى أن نرى فى هذه القصة نوعا من الحيلة فى إثبات الصلة بين اليهود والعرب من جهة، وبين الإسلام واليهودية والقرآن والتوراة من جهة أخري».

وكان طه حسين قد قرر فى بداية بحثه أنه يريد أن يطبق منهج الفيلسوف الفرنسى الشهير رينيه ديكارت «1596 – 1650» على التراث العربى الجاهلى ومن ثم راح ينكر نسب الشعر الجاهلى إلى الفترة ما قبل ظهور الإسلام، وبالتالى نفى وجود الشعراء الجاهليين أنفسهم.

وكان من الممكن أن تنشأ معركة حول هذا الأمر ربما لم تتعد حدود قاعات المحاضرات أو دراسات أو مقالات كبار الدارسين والمتخصصين فى هذا المجال أو ما يتصل به من علوم تاريخية وأدبية، لكن كانت ستظل معركة علمية أدبية يلقى فيها كل فريق بحجته وكانت من الممكن أن تزيد فى ثراء الحياة الفكرية عامة والأدبية خاصة لو اقتصرت على هذا الأمر دون انزلاق إلى معارك دينية وسياسية أفقدتنا فرصة هذا الثراء ونقلتها إلى الشارع الثقافى ثم الشارع العام وتحولت إلى معارك يقف فيها كل فريق متربصا بالآخر.

ولأن الكلمة مسئولية، فلا ندرى هل قصد الدكتور طه حسين إثبات هذا فى كتاب منشور للعامة والخاصة لإحداث زوبعة ما؟!، أم أنه أراد بالفعل أن يستحدث منهجا جديدا فى البحث يقوم على قاعدة جديدة صرح بها طه حسين فى مقدمة كتابه بأنها القواعد التى وضعها ديكارت.

لكن هل طبق بالفعل الدكتور طه حسين قواعد التفكير الديكارتى على موضوعات البحث التى طرحها فى متون كتابه؟!

فى هذه المرة لا يمكن وصف السؤال بالساذج، فالكتاب بين أيدينا الآن هو ذا قد تمت إعادة طبعه فى أكثر من دار نشر كاملا، حتى إنه ظهر بين إصدارات مكتبه الأسرة مؤخرا وصار متاحا لأى قارئ، هذا فضلا عن سهولة البحث عنه عبر مواقع الإنترنت.

كذلك جميع كتب ديكارت وعلى رأسها «المقال فى المنهج» الذى ظهر للوجود فى عام 1636 ودشن فيه الفيلسوف الفرنسى مشروعه العظيم الذى أؤرخ به لمرحلة جديدة فى تاريخ الفلسفة «الفلسفة الحديثة» وأهمية هذا الكتاب انطلقت من أشهر عبارة فى تاريخ الفلسفة «أنا أشك إذن أنا أفكر إذن أنا موجود» وهى عبارة وصلت شهرتها إلى أن العامة يرددونها فى أحاديثهم اليومية، فبهذه العبارة البسيطة أثبت ديكارت وجود «الأنا» (L'ego) عن طريق الشك الذى هو أول مراحل التفكير، ومن خلاله تم إثبات الأنا المفكرة. وقد أعاد ديكارت بكتابه هذا كما قيل، الفلسفة إلى بيتها الأصلى الذى هو الإنسان نفسه، فالشك الديكارتى شك منهجى إيجابى يهدف للوصول إلى الحقيقة وليس لمجرد التشكيك فهو يرنو إلى إثبات وجود الأنا ولم يجعل ديكارت المعتقدات الدينية موضوعا لشكه - وهذا ما يغض كثيرون عنه الطرف- وديكارت نفسه يقرر أن «الله» هو وحده الضامن الوحيد للحقيقة لأنه لا يمكن أن يخدعنا وبالتالى لم يكن موضوعا للشك الديكارتى وتلك قضية قد تخرج بنا شرحها عن الموضوع المتعلق بكتاب الشعر الجاهلي.

ولكن لا بد أن نضع فى الاعتبار أيضا، أن للدكتور طه حسين، الحق كاملا بلا انتقاص كباحث، أن يتعامل مع وجود إبراهيم على أنه قضية تاريخية وليست عقائدية وله أن يثبت أو ينفى بشرط أن يكمل الطريق ملتزما بما ألزم به نفسه، لكنه أسرع فى عجالة تنبئ بأنه تعمد ذلك تحت نشوة الاستسلام لسطوة البحث، إلى نفى وجود إبراهيم وأبنائه لأنه لم يثبت لديه وجودهما بطريق علمي!.

لكن فات الدكتور طه عندما كتب هذا الكتاب وكان فى نضج الشباب «38 سنة» أن يدلنا على الوسائل التى يمكن من خلالها التثبت من وجود شخصية تاريخية غير مجرد التخمين بمحاولة إيجاد صلة بين العرب واليهود وبالتالى بين الدعوة المحمدية والدعوة الموسوية.

بهذا المنهج الذى «لا يمت لقواعد التفكير التى وضعها ديكارت بصلة» يمكن إنكار أى شخصية مضى عليها من الزمان ما يسمح بالتشكيك فيها، حتى لو وردت فى متون الكتب، فطه حسين قرر فى فصل آخر فى الكتاب نفسه أن القرآن هو النص العربى الوحيد الذى لا يتطرق إلى إثباته شك» قائلا بالنص: « القرآن وحده هو النص العربى القديم الذى يستطيع المؤرخ أن يطمئن إلى صحته ويعتبره مشخصا للعصر الذى تلى فيه»!. لكن ورود الاسم فى القرآن لم يشف غليل الباحث وبالتالى ورود اسم لأى شخصية تاريخية «كان نبيا أو فيلسوفا أو مصلحا أو زعيما» فى أى مصدر تاريخى مكتوبا فى الأسفار أو منقوشا على الأحجار، لا يمكن أن يكون وسيلة لإثبات وجوده!.

فالتشكيك وليس الشك هو حاكم الموقف!.

إذن فلابد من إنكار جل التاريخ الإنسانى إن لم يكن كله، استنادا على ما قرره طه حسين زاعما فيه أنه جاء ليطبق منهج ديكارت، لكن الحقيقة الظاهرة أمامنا أن ديكارت ومناهجه وقواعد تفكيره لم يزد نصيبها عن ذكر اسم ديكارت والتلويح به وكأن طه حسين يبشر برسالة جديدة لم يعرفها الأدب العربي، فالدكتور طه فى هذا الأمر لا يقرر فقط أنه يشك فى وجود أبى الأنبياء إبراهيم عليه السلام ولكنه يقفز من الشك إلى التشكيك ويهوى بنا إلى الإنكار بدون أى دليل علمى أو موضوعى ولا مستندا إلى قواعد تفكير يسير عليها، سوى تخمينه -وعدم اطمئنانه العقلي- وإن كان قرر فى مقال تال لصدور الكتاب أنه يؤمن بوجود إبراهيم «عليه السلام» بالقلب ولكنه ليس كذلك عقلا.

وهذا ما قرره الدكتور طه أمام السيد محمد نور رئيس نيابة مصر الذى لا نمل الإشادة به وبأسلوب تحقيقه مع الماثل أمامه للتحقيق المبلغ ضده طه حسين، حيث قرر الدكتور طه أن ضرورة البحث هى التى جعلته يقرر ما قرره. ولكن البحث لم يكتمل وفوت علينا الدكتور طه بقفزه إلى النتيجة التى يظهر أنه يرنو إليها قبل أول كلمة فى السطر، فرصة غالية لبحث ضخم فى العلوم التاريخية والأدبية والأنثربولوجية ولكنه ارتاح إلى نتيجته التى قبلها عقلا ورفضها قلبا وذاك أمر يدعو إلى السخرية والهزل وليس دليلا فقط على اضطراب الشخصية الإنسانية المفترض أنها القائمة على إحداث توازن ما بين القلب والعقل اللذين لو اختل التوازن بينهما ليس أمام الإنسان إلا الجمود أو الجنون وثالثهما لن يكون سوى العبث.

فلو اقتصر كتاب الدكتور طه حسين على التشكيك فى الشعر الجاهلى وهو ما سبقه إليه كثيرون من الباحثين ومؤرخى الآداب والشعر عربا كانوا أو أجانب، لربما استفاد العقل لعربى من نتاج هذه المعركة سلبيا أو إيجابيا وحافظ على نقاء الحوار والجدل دون الانزلاق تحت رغبة محمومة من أطراف جاء من بينها من رأى الدكتور طه حسين نفسه كيانا مقدسا لا يجوز الإنكار عليه إلا من يقوى الظلامية ولم نجن إلا إلقاء الاتهامات بالتكفيروالتكفير المضاد التى لا تزال تلطخ ثوب الفكر العربى من أقدم العصور وحتى وقتنا الراهن.


* منقول عن موقع الاهرام

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى