عبد الوهاب الفقيه رمضان - ضعف الدولة..

فتحت مجلة « الأبحاث تصدرها الجامعة الأمريكية في بيروت – السنة العاشرة – الجزء 2 – حزيران سنة 1957» . أي اكثر من سنة عن استقلال تونس وأقل من شهر عن إرساء النظام الجمهوري . في مقال بعنوان : مهمة الدولة في خلق المواطن الصالح للدكتور أديب نصور لفت انتباهي هذا المقطع :
ضعف الدولة في بلاد العرب : حرصت على سوق البديهيات في أول الحديث لظاهرة غريبة في الشرق العربي .
1- وهي أن الدولة تبدو في كثير من المواطن أضعف في كثير من المواطن أضعف من بعض المؤسسات التي تضمها الدولة عادة وترعاها .
بيت كبير من بيوت العرب يغلب على دولة بأسرها ويلفها بردائه العريض ويطويها في ثنايا الرداء .
شركة كبرى أو شركات تمد أصابعها إلى بعض رجال في الوظائف وغذا آلة الحكم تدور لتخرج نسيجا للشركات .
طائفة من الطوائف ترى أنها الدولة أو أكبر وأسبق . كانت في البدء ، ثم كانت الدولة .
نقابة تنتظم العمال وتنزل إلى الشارع لتهز أركان الدولة وتملي إرادتها من الشارع العريض .
طبقة مالكة تصور لنا أنانية بلهاء أن الدولة وكل ما عليها إنما وجدت لأغراضها .
حزب طامح يهدم كل ما في طريقه ويتخذ سبيله إلى الحكم عجبا .
زعيم تتوجه إليه البلاد ليكون خادما كبيرا من خدامها فيجنح إلى الاستئثار بالسلطان والانفراد بالمجد ويضع نفسه فوق الدستور وفوق القوانين .
جهاز من أجهزة الدولة يقوى ويمتد ويقبض على الدولة كلها .
والعلاقات الخاصة عند الكثيرين أقوى من الروابط العامة ، والصداقات والعداوات والصلات العائلية تأتي قبل اعتبارات الدولة . والنفوذ الشخصي في كثير من الأحيان أقوى من منطق الدولة وحكم القانون .... (انتهى)
أتساءل أحينا لماذا يكتب الكاتب ما يكتب ، ولماذا تطرح المطابع الكتب ، ولماذا ينفق الكتاب والمفكرون الليالي حرا وقرا وهم يتتبعون الحرف والكلمة من صحيفة لصحيفة ومن كتاب لكتاب ومن مجلة لمجلة ... لماذا كل هذا إذا كان الأمر كمن ينعق في بيداء أو كمن يحرث في البحر ؟ بعد سنة من استقلال تونس وقبل سنة من إرساء النظام الجمهوري بها كتب ما سبق أن ذكرت ، ونشر وتوزع ، فما أثر ما كتب في السياسة التونسية من يوم أن كتب إلى اليوم ؟ الغاية ربط ما كتب ماضيا بحاضر الساعة .
استقلت تونس استقلالا تاما يوم 20 مارس 1956 . ووضع حد للحكم الحسيني كي يصبح النظام السياسي للبلاد التونسية نظاما جمهوريا . فماذا فعلنا بالاستقلال بعد 62 سنة وماذا فعلنا بالجمهورية بعد 61 سنة . يوما 6 و 9 أغسطس 1945 كانا يومين أسودين بالنسبة لليابان بسبب قنبلتين أبادتا مدينتين يابانيتين إبادة كاملة اليوم بعد 73 سنة صارت اليابان من الدول الرائدة سياسيا واقتصاديا وعلميا وتكنولوجيا . لو اعتبرنا جائزة نوبل معيارا ، اليابان حصدت إلى اليوم 19 جائزة في الفيزياء والكيمياء والطب الأولى سنة 1949 أي بعد خمس سنوات من الكارثة وآخرها سنة 2018 في الطب . إسرائيل حصدت 5 جوائز في الكيمياء . بينما الدول العربية كلها لم تحصد إلا جائزة واحدة في الكيمياء نالها أحمد زويل سنة 1999 رغم أن البحوث لم يقم بها في بلده مصر إنما في الولايات المتحدة الأمريكية حيث كان يشتغل . ولم نعتبر جوائز السلام والأدب والاقتصاد لما فيها من نسبية في الإسناد .
هذه المقاربة تستبعد عنصر الاستعمار كمعيق . بل الداء كامن فينا . كما أننا لم نتحصل على كأس العالم مرة واحدة في كرة القدم على ما ننفقه من دافعي الضرائب على الجمعيات الرياضية وما ندفعه من العملة الصعبة لجلب المدربين وحتى شراء اللاعبين فالحال هي الحال .
أين الخلل ؟ الخلل في ضعف الدولة كما كانت الإشارة في البداية . استقلت تونس وظن التونسي أن جحيم الاستعمار ولى وجنة الاستقلال حلت . فما الذي حدث ؟ سنة وبضعة أشهر يمكن عدم اعتبارها ضمن الدولة الحديثة بما أن النظام بقي نظاما ملكيا ، رغم أن أنظمة ملكية في العالم تبوأت مكانة محترمة بين الأمم . لكن منذ يوم 25 جويلية / يوليو 1957 صار النظام السياسي في البلاد التونسية نظاما جمهوريا . السؤال الكبير : هل فعلا أصبحت تونس جمهورية ؟ بعد خمسة أيام من إعلان الاستقلال التام تمت انتخابات المجلس القومي التأسيسي لكتابة دستور للجمهورية التونسية . وبذلك تتأسس الدولة التونسية الحديثة كما كان يؤمل منها كل تونسي وتونسية . يوم 25 ذي القعدة 1357 وفي أول جوان 1959 صدر بقصر باردو ينفذ هذا القانون كدستور الجمهورية التونسية رئيس الجمهورية التونسية . وصدر بالرائد الرسمي / الجريدة الرسمية التي تحمل كل القوانين والأوامر والتراتيب التونسية الملزمة لكل تونس حاكما ومحكوما – حاكما ومحكوما – حاكما ومحكوما . إذن دستور وفي كل أعراف الدنيا أن الدستور هو أعلى سلطة في الدولة . إذن صدر في الرائد الرسمي وفي أعراف الدنيا كلها القوانين التي يتم إصدارها ملزمة ولا يعذر الجاهل بجهله . فما هو الشأن إذا كان الجاهل بالقانون هو نفسه الذي أصدر القانون ، هو نفسه الذي وقّع على القانون ؟
ليس المواطن الذي لا يتحمل مسؤولية قيادية في البلاد هو الذي يقوي الدولة ، وليس المواطن الذي لا يتحمل مسؤولية قيادية في البلاد هو الذي يضعف الدولة . من يتحمل قيادة البلاد ، من يحكم البلاد ، من بيده السلاح قانونيا ، من له حق استعمال القوة قانونيا ، من يمتلك السلطة على الجيش والشرطة بأنواعها ، وعلى المؤسسة القمرقية مدنية وحاملة للزي الرسمي والسلاح ، هذا الذي بيده التحكم في كل هذه القوى المادية والمعنوية هو وحده بيده إضعاف الدولة ، هو وحده بيده تقوية الدولة . لكن السلطة العليا على من بيده هذه القوى ليس هواه وشهواته وإنما الدستور والقانون . بالدستور وبالقانون تقوى الدول وبالدستور والقانون تضعف الدول . الدول التي قويت سياسة واقتصادا وتكنولوجيا هي دول خضعت للقانون والدستور حاكما ومحكوما ، والدول التي ضعفت وصارت تتسول لتطعم شعبها ، تتسول لتكسو شعبها هي دول كان الدستور والقانون فيها خاضعا لهوى الحاكم ورغباته وشهواته ، ومن أكبر هذه الشهوات شهوة الكرسي والصولجان ، شهوة السلطة .
كلما تساءل عربي عن الوضع المتردي الذي يعيشه العرب يجابه بجواب خرافي باطل : الاستعمار سبب تخلف العرب . الهيمنة الامبريالية والقوى العالمية هي السبب .. وكل من غرد خارج السرب ينعت بشتى النعوت التي لا معنى لها ، فهو إما ماسوني ، وإما علماني ، وإما متغرب ، هذا إذا لم ينعت بأنه صنيعة الاستعمار والصهيونية ويقال إنه قبض الثمن في بنوك الخارج والحال أنه ربما لم يجد عشاءه ليلتها لضيق ذات اليد . اليابان دكت سنة 1945 بقنبلتين دكت كل منهما مدينة كاملة ومحتها من الوجود بشرا وشجرا وحجرا .. لم يبق اليابان ينتحب ، ولا هو ناصب العدو عداء كعداء داحس والغبراء ، ولا كالعداوة بين السنة والشيعة ، بل لملم شتاته وآمن بقدراته ، وحصد إلى اليوم 19 جائزة نوبل في العلوم التطبيقية أولها في الفيزياء سنة 1949 أي بعد أربع سنوات فقط من الكارثة وآخرها سنة 2018 في الطب . بينما العرب مجمعين لم ينل منهم إلا واحد فقط أحمد زويل سنة 1999 في الكيمياء وهو محسوب على الولايات المتحدة الأمريكية إذ فيها قام ببحوثه وفيها نال الجائزة . زد على ذلك فإنه يقال إن العيش في اليابان يشبه العيش في المستقبل بعد مائة عام . وفي اليابان يستعمل قطار سرعته تفوق 300 كم / ساعة منذ 1964 ومنذ ذلك التاريخ إلى اليوم لم يقع حادث قطار واحد في اليابان . ما الفرق بين اليابان والعرب والحال أن الاثنين يعيشان على نفس الكوكب يتنفسان نفس الاكسيجين ، يشربان نفس الماء ، ويستضيئان في النهار بنفس الشمس ؟ الياباني لا يخون وطنه لو بمال الدنيا ، فخيانة الوطن بالنسبة له عار . الياباني لا يقبل بقشيشا مهما قل أو كثر ، ويعتبر ما يقدم إليه زيادة عن أجره إهانة . وبالتالي فالياباني لا يوجد في قاموسه رشوة . الياباني لا يغش فيما ينتج . والياباني يوم أغرقت الولايات المتحدة الأمريكية السوق الياباني بأرز بسعر أقل من السعر الياباني ، طرح الحاكم الياباني الأرز في السوق المحلية بسعر أقل من السعر الأمريكي وعوض الفلاح الياباني من خزينة الدولة حتى لا يأتي يوم لن يزرع فيه فلاح ياباني حبة أرز . ناظر معهد ياباني كان يحوم بين الطاولات والطلبة يتناولون وجبة في مطعم مدرسي فوجد طالبا ألقى على الطاولة حبات أرز ، وقف عنده ، وأمره بأن يحصي عدد الحبات ثم مد له آلة حاسبة وأمره أن يقسم خدد الحبات على عدد الحبات التي تزن غراما واحدا ثم يضرب العدد في عدد الشعب الياباني في 365 أي عدد أيام السنة فصار الحاصل أطنانا من الأرز ، قال له إنك تسببت لليابان في خسارة هذه الأطنان من الأرز وأمره أن يلتقط الحبات ويأكلها . ذاك هو الشعب الياباني وغيره من الشعوب التي تبوأت مكانة مشرفة بين الأمم . وبذلك تقوى دول وتضعف دول .
عندما يمتلك المواطن وطنا يستميت في سبيل ذلك الوطن ، وعندما يحس الفرد بأنه لا يمتلك وطنا يصبح الوطن في عقله ووجدانه مجرد لفظ معجمي لا معنى له . في اليابان يستخرج المواطن بطاقة تعريفه في خمس دقائق فقط . في دول أخرى لا يقضي المواطن – عن كان حقا مواطنا - شؤونه الإدارية بالقانون بل حسب مزاج من جلس في الإدارة أو حسب مدى علاقته به .
عندما يحس المواطن بأن له قانونا حقيقيا يجري على الغفير كما يجري على الوزير وقتها تقوى الدولة ، وحين يطبق القانون على زيد دون عمرو وقتها تضعف الدولة .
عدت إلى الرائد الرسمي حيث نشر دستور الجمهورية التونسية حتى تكون النصوص محكن غير تحريف أو تصرف . الفصل الأول : تونس دولة حرة ، مستقلة ، ذات سيادة ، الإسلام دينها ، والعربية لغتها ، والجمهورية نظامها . (انتهى نص الفصل) . التركيز في هذا الفصل [الجمهورية نظامها] . الفصل الأربعون : ينتخب رئيس الجمهورية لمدة خمسة أعوام انتخابا حرا مباشرا سريا من طرف الناخبين المنصوص عليهم بالفصل العشرين ، ولا يجوز لرئيس الجمهورية أن يجدد ترشحه للرئاسة أكثر من ثلاث مرات متوالية . (انتهى نص الفصل) . التركيز في هذا الفصل [التركيز في هذا الفصل : لا يجوز لرئيس الجمهورية أن يجدد ترشحه للرئاسة أكثر من ثلاث مرات متوالية] . الفصل الواحد والأربعون : رئيس الجمهورية يؤدي اليمين التالية : "أقسم بالله العظيم أن أحافظ على استقلال الوطن وسلامته ، وأن أحترم دستور البلاد وتشريعها وأن أرعى مصالح الأمة رعاية كاملة" (انتهى نص الفصل) . التركيز في هذا الفصل [وأن أحترم دستور البلاد وتشريعها] . الفصل الستون : لرئيس الجمهورية أو لثلث أعضاء مجلس الأمة على الأقل الحق في المطالبة بتنقيح الدستور ما لم يمس ذلك بالنظام الجمهوري للدولة . (انتهى نص الفصل) . التركيز في هذا الفصل [التركيز في هذا الفصل : ما لم يمس ذلك بالنظام الجمهوري للدولة] . هذا الدستور ، وفي تعريف الدستور كما جاء في موسوعة السياسة تأليف مجموعة برئاسة الدكتور عبد الوهاب الكالي المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت – المجلد 2 – ص.ص. 679/680 – لا يوجد تاريخ الطبع - : الدستور أهم وثيقة في الحياة السياسية للمجتمع وفي بنيان الدولة . وهو مجموع القواعد القانونية التي تحدد نظام الحكم وشكل الحكم في الدولة . ولكل دستور مكتوبا كان أو غير مكتوب كما هو الحال في بريطانيا وتمتاز بعض الدساتير بالمرونة ، أي بجواز تعديلها بقانون تصدره الهيئة التشريعية أو الهيئة التنفيذية في الدولة دون حاجة إلى إجراءات معقدة وخاصة ، بينما تتصف دساتير أخرى بالجمود وتعديلها يتطلب إجراءات معقدة مثل استفتاء الشعب أو إجماع مجلس النواب أو أغلبية الثلثين أو أغلبية الثلاثة أرباع (انظر تعديل الدستور) .
يبين الدستور طبيعة النظام السياسي وهيئات الدولة وسلطاتها ووظائفها وكيفية انبثاقها وحركية تغييرها وعلاقاتها واختصاصاتها فيما بينها ثم علاقاتها مع المواطنين وحقوق المواطنين وواجباتهم . وهو ضمانة لحريات الأفراد وحقوق الجماعات ويفترض أن تقوم الهيئة القضائية بحمايته من أي عبث من قبل الهيئات الأخرى ومن هنا كان استقلال القضاء في الدولة أمرا حيويا . (انتهى) . هذا الدستور وقع عليه الرئيس الحبيب بورقيبة . انتخب بورقيبة 8 نوفمبر 1959 / 8 نوفمبر 1964 / 2 نوفمبر 1969 وبها الترشح يكون قد استنفذ حقه الدستوري في الترشح لرئاسة الجمهورية التونسية . فهل طبق الحبيب بورقيبة دستور الجمهورية التونسية ؟
صادق مؤتمر الحزب الاشتراكي الدستوري المنعقد بالمنستير من 12 إلى 14 سبتمبر 1974 تحت شعار «الوضوح». على لائحة لمبايعة المجاهد الأكبر رئيسا مدى الحياة اعترافا بعظيم فضله على الأمة – المقصود تونس – وتم تحوير الدستور سنة 1975 على أساس تلك اللائحة . الإشكالية التي تطرح نفسها في هذه النقطة تتعلق بمفهوم الجريمة عموما ، فالجريمة السياسية ، ثم الجريمة الدستورية . الجريمة عموما هو كل عمل يجرمه القانون يترتب عنه عقاب يصدره القاضي حسب القانون الجناحي أو القانون الجنائي . الجريمة السياسية في الجزء الثاني من موسوعة السياسة ج 2 ص . 55 . جريمة يكون الباعث على ارتكابها سياسيا ، ولو كانت تتضمن أفعالا من قبيل الجرائم العادية كالقتل أو التخريب . ويعتبر البعض أن كل جريمة ترتكب ضد الدولة جريمة سياسية ، ما دامت تهدد سلاماتها الداخلية أو الخارجية ، وهي جرائم ترتبط عادة بالاضطرابات السياسية ، ومن هنا كانت الجرائم العسكرية ، كإفشاء الأسرار الحربية ، ذات طابع سياسي (انظر : المساس بأمن الدولة) (انتهى) . لا يوجد في الموسوعة المذكورة شيء اسمه «جريمة دستورية» . حتى بالرجوع إلى لغات أخرى تشير ما كتب عن الجريمة الدستورية فيما يتعلق بأمن الدولة . إذن رغم عدم ذكر الجريمة السياسية بغير المفهوم التقليدي المألوف ، بل بمفهوم أن الجريمة السياسية بمفهوم السياسي الذي يتجاوز سلطاته التي يحددها القانون لخاصة نفسه ، وإبداع مصطلح جديد بمفهوم جديد ، المصطلح : الجريمة الدستورية ، والمفهوم : كل عمل يقوم به سياسي ماسك بدواليب الدولة مخالفة نص في الدستور لصالح نفسه . إن مجلة الطرقات تحدد المخالفات التي يرتكبها سواق وسائل النقل خاصة كانت أو عامة ، الذي يحاسب على أية مخالفة هو من يمسك المقود . والجرائم والتجريم والعقاب تحددها المجلات القانونية بما حوته من نصوص وفصول . لكن الاتجاه في الدول الضعيفة دوما يكون من الأعلى إلى الأسفل . تتجند مؤسسات الدولة من وزارة الداخلية ووزارة العدل ووزارة الدفاع إن لزم الأمر لتتبع مرتكب الجريمة من القبض عليه إلى التحقيق معه إلى إصدار الحكم إلى تنفيذ العقوبة من مدة مع تأجيل التنفيذ وإطلاق السبيل إلى الإعدام حتى الموت شنقا أو رميا بالرصاص أو بالذبح . أما عندما يرتكب السياسي الماسك بالأمر عملا يخالف الدستور – وهو أعلى سلطة في البلاد – لا يحاكم هو ولا ينعت بأنه مجرم ، بل كل من يقف في وجهه مطالبا بالرجوع إلى الدستور ، يصبح صاحب الحق هو المعتدي ، ويصبح المعتدي هو صاحب الحق . وذاك هو الحكم الضيزى ، أي لا سلب صاحب الحق حقه فحسب ، بل إذا تنازع اثنان عن شيء يحكم على صاحب الحق بأنه الظالم ، ويحكم لمن سلب الحق بأنه صاحب الحق .
بنظرة مقارنة ، رئيس الولايات المتحدة الأمريكية اليوم رتبته 45 . لم تعرف الولايات المتحدة الأمريكية منذ 30 أبريل 1789 إلا تمديدا واحدا لرئيس الولايات المتحدة الأمريكية مرة واحدة . فرانكلين روزفلت تولى الرئاسة يوم 4 مارس 1933 إلى يوم 12 أبريل 1945 . لا حق لرئيس أن يجدد إلا مرة واحدة حسب دستورهم في أقصى الحلات يحكم ثماني سنوات متتالية من 45 رئيسا الوحيد الذي حكم 12 سنة – 3 دورات هو فرانكلين روزفلت . بسبب الوضع الخاص أي الحرب العالمية الثانية . لكن لسد هذا الباب نهائيا صدر سنة 1951 التعديل الثاني والعشرون للدستور الأمريكي يحدد الفترات الرئاسية بفترتين فقط . بينما في تونس سنة 1974 عقد مؤتمر للحزب الحاكم في مسقط رأس المجاهد الأكبر – المنستير – ليتمخض عن هذا المؤتمر قرارا بإعلان المجاهد الأكبر رئيسا مدى الحياة لتونس .تمخرق الدستور في كل الفصول التي سبق عرضها .
امتثل 45 رئيسا للدستور والقانون في أقوى دولة في العالم اقتصاديا ، إذ يتجاوز 25 % من الناتج المحلي العالمي بـ 20.4 تريليون دولار . تليها الصين بـ 14 تريلون دولار . عدد سكان الولايات المتحدة الأمريكية 320206000 . عدد سكان الصين 1350665000 . في هذه اللحظة عدد سكان العالم محينة 7670215188 والعداد يشتغل . سكان الولايات المتحدة الأمريكية يمثل 4.17 % من سكان العالم واقتصادها يفوق ربع الاقتصاد العالمي ، وهو 150 % الاقتصاد الصيني رغم أن عدد السكان في الصين أكثر من 4 أضعاف عدد سكان أمريكا . بماذا بلغت الولايات المتحدة الأمريكية هذه المرتبة ؟ دون اعتبار المعايير العلمية والتكنولوجية ونحوهما . لقد بلغت أمريكا هذه المرتبة بقوة الدولة . وقوة الدولة هي قوة القانون . وكل سلطة هو سلطة فعلا فعلا لا قولا . حين طرحت على القضاء قضية ووترغيت على القضاء ضد نيكسون وهو رئيس مباشر ، لم يعزل النائب العام ، ولم يعزل المحقق ، ولم يعزل القاضي ، كي ينصب نيكسون نائبا عاما ومحققا وقاضيا يأتمرون بأوامره ، بل كان مواطنا عاديا الفيصل في قضيته القانون الأمريكي ويصدر القاضي الأمريكي حكما شأن نيكسون شأن أي مواطن عادي . في تونس اتهم وزير بسرقة ألف مليون من المليمات هبة من دولة صديقة . لما دعي للتحقيق هب 200 محام بالتمام والكمال لينوبوا عنه وامتنع هو عن الحضور . ولأنه وزير حكمت المحكمة بعدم سماع الدعوى من غير أن يحضر في أية جلسة . النتيجة سعر الدينار التونسي: 0.3351 دينار تونسي = 1 دولارا أمريكيا . كل حديث عن قوة الدولة أو ضعفها يحيد عن هذه المقاربات إنما هو إنشاء ومهاترات وكلام لا معنى له .
لم يتوقف الحال بإزاحة بورقيبة حين لم يعد مجاهدا أكبر أمام جنرال طموح عينه وزيرا أولا ووزير داخلية . ليثبت ويستجلب الجنرال أفئدة الناس ، طلع ببيان السابع من نوفمبر . وفرض على المدرسين بتعليق البيان في كل المدارس ، ومن لا يفعل يعتبر لا وطنيا ويحارب بشتى سبل التضييق في معيشته ، نَص البيان :
بسم الله الرحمان الرحيم
أيها المواطنون، أيتها المواطنات
نحن زين العابدين بن علي الوزير الأوّل
بالجمهورية التّونسية أصدرنا البلاغ التّالي:
إنّ التضحيّات الجسام التي أقدم عليها الزّعيم الحبيــب بورقيـبـة أوّل رئيس للجمهورية التّونسيـة رفقة رجـال بررة في سبيل تحريـر تونــس وتنميتها لا تحـصى ولا تعـدّ لذلـك أحببنـاه وقدّرنـاه وعملنــا السّنين الطــوال تحـت إمرتـه في مختلــف المسـتويـات فــي جيشــنا الوطني الشعبي وفــي الحكومـة بثقة وإخلاص وتفان ولكن الواجـب الوطني يفرض علينا اليوم أمـام طوال شيخوخته واستفحـال مرضـه أن نعلــن اعتمـادا علــى تقريــر طبّـي أنّـه أصبـح عاجـزا تمامـا عن الاضطلاع بمهام رئاسة الجمهورية.
وبناء على ذلك وعملا بالفصل 57 من الدّستور نتولّى بعون الله وتوفيقه رئاسة الجمهوريّة والقيادة العليا لقوّاتنا المسلّحة وسنعتمد فـي مباشـرة مسؤولياتنا، في جوّ من الثقة والأمن والاطمئنـان علـى كلّ أبناء تونسنا العزيزة، فلا مكان للحقد والبغضاء والكراهيّة.
إنّ استقلال بلادنا وسلامة ترابنا ومناعة وطننا وتقدّم شعبنا هي مسؤوليّة كلّ التونسيّيـن وحبّ الوطـن والذّود عنـه والرفع من شأنه واجب مقدّس على كلّ مواطن.
أيها المواطنون، أيتها المواطنات إنّ شعبنا بلغ من الوعي والنضـج مـا يسمـح لكـلّ أبنائـه وفئاتـه بالمشاركة البنّاءة في تصـريف شؤونه في ظلّ نظام جمهوري يولي المؤسّسـات مكانتـها ويوفّـر أسبـاب الدّيمقراطيّـة المسؤولــة وعلـى أسـاس سيـادة الشعـب كمـا نصّ عليـها الدستـور الـذي يحتـاج إلــى مراجعـة تأكّـدت اليـوم فلا مجـال فـي عصرنا إلى رئاسة مدى الحياة ولا لخلافـة آليـة لا دخـل للشعب فيها، فشعبـنا جديـر بحيـاة سياسيّـة متطوّرة ومنظمـة تعتمـد بحقّ تعدّدية الأحزاب السّياسيّة والتنظيمات الشعبية.
وإنّنا سنعرض قريبا مشروع قانـون للأحـزاب ومشـروع قانـون للصحافة يوفّران مساهمة أوسع، بنظام ومسؤوليّة، في بناء تونـس ودعم استقلالها.
وسنحرص على إعطاء القانون حرمته، فلا مجال للظلم والقهر، كما سنحرص على إعطاء الدّولة هيبتها فلا مكان للفوضى والتسيّب ولا سبيل لاستغــلال النفــوذ أو التســاهل فــي أمــوال المجمــوعة ومكاسبها.
وسنحـافظ على حسـن علاقــاتنا وتعاوننا مـع كلّ الدّول، لا سيما الـدّول الشقيقـة والصّديـقة كما نعلـن احترامـنا لتعهّداتنا والتــزاماتنا الدوليّة.
وسنعطي تضامـننا الإسلامـي والعربـي والإفريقـي والمتوسّطـي المنزلة التي يستحقّها.
وسنعمل بخطـى ثابتـة علـى تجسيم وحدة المغرب العربي الكبير في نطاق المصلحة المشتركة.
أيها المواطنون، أيتها المواطنات
إنّه عهد جديد نفتحه معا على بركة الله، بجدّ، وعزم، وهو عهد الكدّ والبذل يمليهما علينا حبّ الوطن ونداء الواجب.
لتحيا تونس – لتحيا الجمهورية
وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون
صدق الله العظيم
والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
ولكي يثبت الجنرال الذي وعد بأن لا مجال لرئاسة مدى الحياة ، جعل أقصى حد للرئاسة دورتين متتاليتين ثم يصبح لا حق للرئيس في ترشح مرة أخرى وتم تحوير الدستور على هذا الأساس . فإذا مات الجنرال خلال الفترتين ، والموت قدر كل إنسان صار الجنرال بطلا تونسيا ديمقراطيا ، وإذا عاش إلى ما بعد يصبح لكل حادث حديث ، وحديث الحادث أن الجنرال عبث بالدستور لصالح نفسه والتصق بالكرسي 23 سنة وغادر مطرودا مهانا ليعيش في المنفى .
تنفس التونسييون الصعداء بثورة فر إثرها الجنرال يوم 14 جانفي / يناير 2011 . فماذا حدث ؟ انتخب مجلس وطني تأسيسي لكتابة دستور بأمر يحدد المدة بسنة واحدة . والنص منشور في الرائد الرسمي وهو قانون . صارت السنة الواحدة ثلاثا ولم ينه المجلس كتابة الدستور إلا بهبّة من الشعب . ما شاهدته أن المسيرة ملأت شارع 20 مارس بين باب سعدون وساحة باردو أمام البرلمان .
قيل إن المؤقت انتهى . لكن لم ينته شيء بل الأمر ازداد سوءً . الأغلبية التي كتبت الدستور في أغلبية ثانية يوم الانتخاب وهي الأغلبية الأولى اليوم بعد أربع سنوات من الانتخاب ، لأن مجلس النواب صار سوق نخاسة لبيع النواب وشراءهم والعبث بالكتل النيابية ، بل أغرب الغرائب أن توجد كتلة تمثل حزبا لم يولد يوم الانتخاب . فقد صار له كتلة تم شراؤها كما كان يشترى العبيد زمن الرق رغم أن تونس منعت الرق منذ منتصف القرن الناسع عشر بقانون . كتلة تمثل حزبا لم يكن له وجود يوم الانتخاب بعدد 15 من 217 ، أي بنسبة 6.91 % . هذا إلى جانب أن أهم ما يوجد في الدستور لم ينفذ ، إذ في الدستور إلزام بإرساء محكمة دستورية في أجل لا يتجاوز العام من يوم الانتحاب . اليوم مرت أربع سنوات ولا إرساء لهذه المحكمة . والجريمة الدستورية حسب معاييرنا لا حسب المعايير الأكاديمية في العلوم القانونية كانت بسبق النية والإصرار . حتى تكون الدولة بلا سلطة قضائية ، وحتى تمر القوانين مباشرة من غير تصديق الهيئة التي توافق على دستورية القانون أو مدى مطابقته للدستور .
ذاك هو المعنى الحقيقي لقوة الدولة من ضعفها . فهذا سوق لتعليق على كل نقطة من النقاط التي عرضها الدكتور أديب نصور فيما يخص ضعف الدولة من قوتها :
• بيت كبير من بيوت العرب يغلب على دولة بأسرها ويلفها بردائه العريض ويطويها في ثنايا الرداء .
التعليق : في هذه الحالة ينتفي عن هذا التجمع السكني مهما كان حجمة اسم الدولة لتحل محلها القبيلة وينتفي فيها نظام الدولة بل يصبح النظام القبلي .
• شركة كبرى أو شركات تمد أصابعها إلى بعض رجال في الوظائف وإذا آلة الحكم تدور لتخرج نسيجا للشركات .
التعليق : في هذه الحالة تنتفي صفة الدولة بل يصبح النظام السياسي نظام عصابات الجريمة المنظمة .
• طائفة من الطوائف ترى أنها الدولة أو أكبر وأسبق . كانت في البدء ، ثم كانت الدولة .
التعليق : في هذه الحالة يصبح النظام السياسي عل شاكلة نظام الخلافة ، في يوم التأسيس لهذا النظام تضافر عاملان بدائيان لإنشاء هذا النظام ، عامل الاستعلاء إذ اعتبر المهاجرون أنهم الأشرف لا لشيء إلا لأنهم قرشيون ، وهذا لا يقبله لا عقل ولا منطق ، فلما سأل إبراهيم ربه «ومن ذريتي» أجابه الله «لا ينال عهدي الظالمين »
• نقابة تنتظم العمال وتنزل إلى الشارع لتهز أركان الدولة وتملي إرادتها من الشارع العريض .
التعليق :
• النقابات جزء من المجتمع المدني ولكنها ليست مطلقة العنان بل يشكمها القانون ، وإلا تحول الشعب من دكتاتورية سياسية إلى دكتاتورية نقابية .
• طبقة مالكة تصور لنا أنانية بلهاء أن الدولة وكل ما عليها إنما وجدت لأغراضها .
التعليق : في هذه الحالة يغيب مفهوم الدولة ليحل محلها الإقطاع ، قلة قليلة تمتلك كل شيء ولها أن تفعل كي شيء في حين أن البقية وهو الأغلبية أصل وجودهم لخدمة هذه القلة وكل ما يمتلكون حتى أجسادهم وعقولهم ووجدانهم ملك لهذه القلة القليلة .
• حزب طامح يهدم كل ما في طريقه ويتخذ سبيله إلى الحكم عجبا .
التعليق : في هذه الحالة المصير حتما سيكون كمصير البلشفية في روسيا القيصرية والنازية في ألمانيا زمن هتلر . وسواء اعتبر النظام دولة أو لا دولة فالمصير بينه التاريخ .
• زعيم تتوجه إليه البلاد ليكون خادما كبيرا من خدامها فيجنح إلى الاستئثار بالسلطان والانفراد بالمجد ويضع نفسه فوق الدستور وفوق القوانين .
التعليق : هذا أخطر ما يمكن أن يحدث لشعب من الشعوب . وجرد مختزل في التاريخ البشري يتبين أن لا فرعون في أية أمة من الأمم إلا إذا فرعنت تلك الأمة فرعونها . ولا أدل على ذلك من مثال يوليوس قيصر . ولد في 13 يوليو 100 ق . م . وتوفي مقتولا يوم 15 مارس 44 ق . م . تولى الحكم يوم 29 أكتوبر 49 ق . م . كان جنرالا وقائدا وسياسيا وكاتبا رومانيا .
• جهاز من أجهزة الدولة يقوى ويمتد ويقبض على الدولة كلها .
التعليق : عند تطبق الدستور وتطبيق القانون وعندما يكون للدستور وللقانون السادة العليا لا يمكن لأية جهة أو لأي شخص أو لأي جهاز من أجهزة الدولة أن يقوى ويمتد ويقبض على الدولة كلها لأن السلطات تكون موزعة توزيعا حقيقيا كل سلطة هي سلطة فعلين لا حق لأية سلطة أن تتعدى حدودها لتخل منطقة سلطة أخرى . ولعل سلطة السلطات هي القضاء ، لأن القضاء هو الحاكم وهو الحكم وهو الفيصل في كل نزاع من النزاعات سواء أكان نزاعا بين فرد وفرد أو بين فرد ومؤسسة أو بين مؤسسة ومؤسسة ..ولا سلطان لسلطة على سلطة لا بالتعيين ولا بالعزل . لأن جازا من الأجهزة يتغول ويستبد إذا امتلك القدرة على ثلاث : التعيين / العزل بأية صورة من الصور ولو بالنقلة أو حتى الترقية / إعطاء التعليمات .

عبد الوهاب الفقيه رمضان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى