مع (كتابات) .. “محمد حيدار”.. صار النقد سقيماً في مادته طلسمياً في شكله! - حاورته: سماح عادل

“محمد حيدار” روائي وقاص جزائري.. من مواليد عام 1952 ببلدة “عسلة” ولاية “النعامة”، بدأ الكتابة في ستينيات القرن الماضي، حيث أصدر مجموعات قصصية وروايات ودراسات في التاريخ والنقد الأدبي.

إلى الحوار:

(كتابات) : كيف بدأ شغفك بالكتابة .. وكيف نما ؟

كان ذلك في أواخر ستينيات القرن الماضي أثناء سني المراهقة، التي تحدث في الوجدان أشياء مستجدة تجد لذة في البوح، ولأن الحياة كانت حياة ريفية تطوقها التقاليد والأعراف وإستحالة البوح الصريح، كان لابد من طريقة غير عادية للتفريغ، فكانت الكتابة والتعلق بها منذ الصغر رغم أنها جاءت أولاً في شكل لمحات، ( تعاليق قصيرة)، حول الواقع الاجتماعي والثقافي، زاد في أهمية هذه المحاولات عندي أنها كانت تجد إستجابة لنشرها في صحف ذلك الزمان كـ(المجاهد الأسبوعي) و(الشباب) وأحياناً جريدة (الشعب) وملحقها: (الشعب الثقافي)؛ ربما من باب التشجيع أو من باب الإهتمام بالمناطق النائية، إلى أن رست رحلتي عند مجلة (أمال)، التي كانت تصدرها “وزارة الثقافة”، وهي مجلة صاحبة فضل على مختلف الوجوه التي عرفتها الساحة الأدبية إبان عهد السبعينيات. ففيها نشرت بعض إبداعاتي القصصية ومحاولاتي الشعرية إلى أن بلغت مرحلة الطبع.

فكان أول مؤلف مطبوع هو مجموعتي القصصية الأولى: (خلف الأشعة) عام 1983، وهنا بدأت أقترب من عالم الرواية كتابة، رغم أن علاقتي بالرواية قراءة كانت قد توطدت، خاصة مع روايات “جرجي زيدان” (روايات تاريخ الإسلام)، وروايات الروائي المصري الإنساني الكبير الراحل “محمد عبدالحليم عبدالله”، الذي كنت ولا أزال من المعجبين به، في روايات مثل (لقيطة) و(شجرة اللبلاب) وغيرهما، وقد بلغ إعجابي به أن كتبت له إهداء روايتي (دموع النغم)، رغم أنه كان قد رحل رحمه الله. فضلاً عن “نجيب محفوظ” والجزائريين “الطاهر وطار” و”عبدالحميد بن هدوقة” و”المسعدي التونسي” و”الربيعي العراقي”، وكتاب مغاربة وفلسطينيين؛ كـ”غسان كنفاني”، (رجال تحت الشمس) من أروع ما كتب، و”إميل حبيبي” و”جبرا إبراهيم جبرا”، ولبنانيين بالإضافة إلى كتاب عالميين قرأت لهم في فترات لاحقة؛ “مخائيل شولوكوف” و”فولكنر” و”هيمينغوي” وغيرهم.

(كتابات) : تتصف بالإنتاج الغزير في مجال القصة والرواية والشعر والدراسات النقدية .. عن ماذا يكشف ذلك ؟

كانت صلتي الأولى بالكتابة الأدبية إنطلاقاً من الشعر الشعبي، الذي جمعت من حصيلة ما أمتلك منه، ديواناً أول عنونته بـ(أوشال الحنين). ثم كان تركيزي على القصة القصيرة، حيث صدرت لي منها مجموعتان هما: (خلف الأشعة) 1983، و(هندسة الإغواء) 2013، وما يزال لكتابة القصة حيز هام في إهتمامي رغم تغلب الرواية.. أما الشعر الرسمي أو الفصيح فقد مارسته دائماً كهواية، بحيث أنتج منه قطعاً أو قصائد تقاطع كتاباتي الروائية والقصصية بين الحين والآخر ،والواقع أن ثروتي من هذا الشعر أخذت تعرف طابع التراث الشخصي أي أنها أرتبطت بفترات سابقة من حياتي عكس الحاضر، وعلى أي حال فقد جمعت ما كان في مكتبتي المنزلية مبعثراً من أشعار وصنفتها في مجموعتين شعريتين، هما (بكائيات عازلة للصوت)، (ديوان البكائيات)، و(شواهد النحيب)، وعلى قلة ما عالجته في مجال الدراسة الأدبية (لم أجمعه في مؤلف)، والتاريخ صدر لي منه كتاب (الإفريقي صانع ملحمة فزوز.. ورجال وجبال).

رغم هذا النزوع إلى الدراسة والتاريخ أحياناً فقد إنصرف إهتمامي بشكل أكبر وأوسع إلى الرواية، حيث يعود ظهور أولى رواياتي، (الأنفاس الأخيرة)، إلى عام 1985، وآخرها (دموع النغم) إلى سنة 2007، وبينهما صدرت رواية تاريخية هي (الرحيل إلى أروى)، بينما يوجد لي تحت الطبع أكثر من رواية طالت رحلتها، نظراً لظروف هذا الطبع. ومع ذلك لا أعتقد أن إنتاجي غزير بل هو تعدد إهتمامات ولا أقول تعدد مواهب كما ولا أدعي موسوعية.

(كتابات) : في مجموعتك القصصية (هندسة الإغواء) هل هناك طريقة جديدة في السرد ؟

قد تكون، لكن لست أنا من يكتشفها أو يبشر بها حتى، فهذا أمر موَكل إلى نقاد وإلى دارسين، لو وجدوا، فهم من يتلمس أية طريقة سردية في مجموعتي القصصية (هندسة الإغواء)، لكني أقول ما دمنا نتعامل مع التجريب، فقد يبدو لقارئ ما ذلك، سيما وأنني، وهذا ما اكتشفته لاحقا، كنت أميل في هذه المجموعة إلى نوع من الانسيابية إذا صح القول التي لم يقلل من خطورتها على حجم القصة كقصة قصيرة إلا تكثيف اللغة والترميز غالبا، ثم هناك التحرر من أثقال هذه القصص بروتينيات الحبكة والمفاجأة التقليدية. ولعل هذا ما بدا كطريقة سردية خاصة، ضف إلى ذلك المقدمة التي كتبتها لهذه المجموعة وتطرقت فيها إلى نوع من الفصل بين الحكي والقص وهو استنتاج بدا لي كما لو أنه غير مسبوق.و بالمناسبة فأنا أرفض أن يتولى غيري تقديم أعمالي بل أفضل أن يكتب عنها بعد ما تصدر.

(كتابات) : في مجموعتك القصصية (هندسة الإغواء) هناك تأثر واضح بالتراث .. ما أهمية التراث بالنسبة لك ؟

كل كتاباتي متأثرة بالتراث فأنا إنسان كثير الالتفات إلى الوراء، ولذلك لا أخطو إلى الأمام إلا مصطحبا مصباحا من الماضي، فالماضي هو الذي يحتكر نماذجنا الوضاءة سواء في الدين أو في الحضارة أو في الشعر أو في غيرها.. فباستثناء رواية أو روايتين، كل رواياتي روايات تاريخية لأنني وضعت مشروعا أنتجت منه بضع روايات، ارتبطت بمراحل معينة من تاريخ الجزائر مثلا، مثل رواية “الرحيل إلى أروى” التي تناولت الفترة الرسمية بالجزائر، ورواية “في وداع شبلة ..أميرة بجاية الحمادية” التي تتناول ( روائيا) فترة الدولة الحمادية بالجزائر، ثم رواية “دموع النغم” التي تتحدث عن ثورة التحرير الجزائرية، ورواية “ما وراء الخط الآخر” وتناولت زاوية أو أكثر من زوايا الحرب العالمية الثانية. في حين جاءت رواية “تحت شلال تيفريت” لتنقلنا إلى فترة ما قبل التاريخ في هذا المكان الأثري المعروف مكان تيفريـت. ونزعة الارتباط بالتراث هاته لم تخل منها قصصي أيضا لاسيما تلك التي تضمنتها مجموعة “هندسة الإغواء”.

(كتابات) : هل اختلف حال الثقافة في الجزائر في الوقت الحالي .. ولما ؟

نحن نعرف الظروف التي مرت بها الجزائر إبان التسعينيات وهذا يكفي كأساس لإجراء أي مقارنة، لكن وحتى لا أتوغل في الحديث عن فنون الثقافة كلها لأنه سيبعدني عن محور الأدب وانطلاقا من ملاحظاتي الخاصة، فإن هناك شبه إغراق للساحة بالرواية على الخصوص، فضلا عن باقي فنون الأدب ورغم تحفظ البعض إزاء هذه الظاهرة فأنا كتبت مرة أنه علينا أن نتيح المجال لهذا التراكم الكمي، لأنه وحده من سينتقل بنا إلى الكيف إلى النوع إلى خلق النخبة، لأن النوع لا يأتي من خارج الكم في كل شيء. والجديد في هذه الزحمة الروائية هو كثرة الوجوه النسائية وهذا لاحظته على راهن الرواية في دول عربية أخرى، فهل إن المرأة تفطنت إلى أنها احتلت كل مجالات الحياة وأغفلت مجال الرواية فاستغله الرجل لوحده أو يكاد؟ نتمنى أن تقتطف أحد هذه الأقلام جائزة نوبل يوما ما، فقد تأتي النساء بما تعجز عنه الرجال. مع إن نجيب محفوظ كان سباقا إلى ذلك.

(كتابات) : ما رأيك في النقد في الجزائر والنقد العربي عموما ؟

رغم أهمية النقد بالنسبة لكل حركة أدبية إلا أنه أصبح يسيطر عليه حقلان، يجب أن يضافا رسميا إلى مصطلحاته ومفاهيمه، وهما نقد جامعي مغلق شبه إداري مرتبط بالرسائل المقررة، ونقد اخوانيات أو نقد “الشلة” كما تقولون في مصر، فحين اختفى الولاء الأيديولوجي في النقد باختفاء هيمنة الأيديولوجيا اعتقدنا أن نقدا فنيا جماليا محايدا سيعم لكن الذي حل محل ما كان سائدا هو هذان(النقدان)، ونتيجة لهذه العوامل وغيرها صار النقد سقيما حتى في مادته، طلسميا في شكله مع استثناءات نادرة طبعا ولذلك أصبح الكتّاب لايعولون عليه، فهم يكتبون للتاريخ أي لمدى غير منظور أو لنقاد ما يزالون في رحم الغيب، ذلك لأن (النقد) الحالي لا يعجب به إلا من يمارسونه.. النقد الراهن استأثرت به الرسائل الجامعية على ضحالة محتويات معظمها وهي رسائل حتى في حال جودة قلة منها لا يستفيد منها أحد لأنها لا تعرف طريقها إلى النشر. بصراحة الأدب لولا شبكات التواصل الاجتماعي كان سيعيش عزلة عن المجتمع وربما لا يختلف واقع النقد عندنا كثيرا عنه في الوطن العربي، ولو أن المامنا بوضعيته هناك قليل نظرا للقطرية (الصارمة) التي يعرفها ترويج الكتاب بين البلدان العربية، لقد مضى زمن كنا نعرف فيه بصورة فورية مستجدات كبار كتاب المشرق.

(كتابات) : في رأيك هل يصل الأدب الجزائري إلى باقي البلدان العربية أم هناك قلة في التواجد .. ولما ؟

تحدثت أنفا عن القطرية الصارمة بين الدول العربية التي ربما ازدادت صرامة كلما تعلق الأمر بالكتاب، ولا ندري أين دور المنظمة العربية للثقافة والتربية والعلوم، اعتقد هذا هو اسمها، واتحادات الكتاب في الوطن العربي واتحاد الناشرين في تقوية الارتباط في هذا المجال؟. فعلاقة الكتاب الجزائري بالقارئ العربي والمغاربي على حد سواءــ حسب معرفتي المتواضعةــ مقتصرة على الصالونات العربية للكتاب ( مثل معرض القاهرة.. معرض الإمارات العربية.. معرض الدار البيضاء.. وربما غيرها) والعكس بالنسبة لمعرض الجزائر الذي يصبح فيه بلدنا بوابة للكتاب القادم من كل الأنحاء..

ثم هناك جانب أعتقد أنه مستجد وهو توجه الكتاب الجزائريين إلى النشر بالمشرق العربي، مصر ولبنان والأردن والخليج العربي وهذا التوجه أخذ يتسع ويتقوى حتى أن بعض دور النشر الجزائرية أصبحت تقيم شراكة مع دور مشرقية وهذه الخطوات لها نتائج جد إيجابية لاسيما من ناحيتين:-الأولى: كسر الاحتكار الذي ساد طيلة عقود متمثلا في تعامل الكتاب الجزائريين مع الغرب (فرنسا أساسا) نشرا ونقدا وترويجا…الخ.. وتلك ظاهرة أبقت الكتاب الجزائري المكتوب بالعربية رهين جدران مكتبات الوطن أو خارج دورة الكتاب العالمي. والثانية: توسيع مساحة تداول الكتاب الجزائري غربا وشرقا سيما وأن مسألة ما يشبه القطيعة غير المتعمدة بين المشرق والمغرب العربيين في مجال الكتاب كانت قد اكتسبت طابع الظاهرة المزمنة ونتمنى لتقوية هذا التلاحم أن يبادر الكتاب المشارقة إلى التوجه نحو البلاد المغاربية توجها مماثلا لاسيما الانفتاح على الشراكة مع دور النشر الجزائرية.

(كتابات) : ما رأيك في الكتاب الجزائريين الذين يكتبون باللغة الفرنسية ؟

الكتابة الأدبية باللغة الفرنسية ليست وليدة اليوم في الجزائر فهي ذات امتداد يعود إلى عهد طليعة من الكتاب المعترف بمكانتهم حتى عالميا ك”محمد ديب” و “مولود فرعون” و”كاتب ياسين” و”أسيا جبار” وغيرهم، هؤلاء أسسوا لمدرسة أدبية جزائرية لكنها تعبر باللغة الفرنسية كلغة متاحة يومها والذين يواصلون الكتابة بهذه اللغة اليوم يجدون في هؤلاء سنداــ لا أقول تاريخيا و لا فنيا حتىــ بل في تلك المنهجية التي لا تتخلى عن المادة الجزائرية إن صح التعبير ابتداء بأسماء الشخوص في النص وانتهاء بأوضاعهم التي لم تكن بأي حال أوضاعا فرنسية.. هذا تخريجي على كل حال كقارئ لهذه الأدب من خلال الترجمة فقط.

(كتابات) : هل واجهتك صعوبات في طريقك ككاتب ؟

الصعوبات لم أواجهها لأنني فلان بل واجهت ما واجهه منها كل كتاب جيلي والكتاب الذين أتوا بعدهم، صحيح أن طبيعة الصعوبات تختلف باختلاف الكتاب لكن ظل القاسم المشترك ممثلا في النشر والتوزيع وغياب النقد أو قل نسبيته. وإذا كان المحور الأول محور النشر قد وجد شبه متنفس بإنشاء دور نشر خاصة رغم ما يقال في هذا الشأن فإن مسالة التوزيع استعصت عن كل حلحلة حتى يومنا هذا. والآمال لا تزال معلقة على وزير الثقافة الأستاذ عز الدين ميهوبي الذي هو كاتب وشرب من نفس الكأس التي مانزال نتجرعها نحن ككتاب. ثم لا ننس الانتقائية التي يمارسها الإعلام في هذا المجال ومن أسبابها أننا لم نؤسس لإعلام أدبي ذي تقاليد راسخة بحيث اختفت كل التباشير التي ظهرت في عهد السبعينيات و الثمانينيات وساد الإعلام الإخباري وحده فانحسر الأدب في شبكات التواصل الاجتماعي كما أسلفت من جهة وصار أدب الجامعات شبيها بالحمّام الذي تقتصر حرارته على جدرانه الداخلية وحدها. من جهة أخرى لن يحتضن الإعلام هذا الأدب إلا حين يتمكن أدباء من إنشاء صحف وقنوات خاصة بهم فرادى أو جماعات فالأديب حتى إن لم يعجبه أديب آخر فقد يعجبه نص هذا الأخير .

(كتابات) : من هم الكتاب الذين تأثرت بهم والذين تفضلهم ؟

الإعجاب بكل شيء يتراجع في رأيي نتيجة أمرين: طول التجربة وكبر السن لأن هذين الأمرين يضعان أمام الإنسان العديد من الخيارات المتاحة.. وإن كان هناك من يمتازون بقيم تفرض نفسها على المتلقي ربما طوال حياته. فأنت حين تذكر الدكتور طه حسين والأستاذ مصطفى صادق الرافعي تبرز أمامك قيم الشجاعة الأدبية وحين تذكر العقاد تجلّ العصامية في أروع صورها وإن ذكرت جبران تجلت لك القيمة المطلقة في الحب وفي العدل وفي غيرهما، وإن ذكرت الشابي و شوقي و مفدي زكرياء أدركت معنى الفداء والحرية، وإن أردت أدب الورع تبادر إلى ذهنك الأمير عبد القادر وهكذا فالإعجاب في نظري يتجاوز الإفادة من أساليب الكتابة على أهميتها طبعا إلى إعلاء شأن القيم الخالدة..

نحن قرأنا لأولئك في زمن كانت أذهاننا متفتحة على الإعجاب بتجارب الآخرين أما اليوم فنقرأ ما يساعدنا على فهم إشكاليات النص الأدبي، الروائي على الخصوص التي تطرحها توثباته العالمية نقرأ لـ ميشال بوتور و بعض معاصريه ولـ كازو ايشيجورو صاحب آخر جوائز نوبل فضلا عن بعض الكتاب العرب.



محمد حيدار.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى