فاضل ناصر كركوكلي - عطلة رسمية …!! - قصة قصيرة

( حينَ عرضَ بيلاطس يسوع الناصري بحالته التعسه على اليهود بعد أن جُلد و كُلل بالشوكِ لعلهم يرقونَ له و يطلقونَ سراحه و كأنه يقول لهم : انظروا…. كم أنزلتُ به من انواع المهانة عسى ان ترقَّ قلوبُكم اليه ، ولكنهم زادوا قساوةَ و صراخا .. إصلبه .. إصلبهُ .. ) ( يوحنا 19 : 6 )

(1)
… كان على الرجل ذو القميص الابيض الناصع أن يصدّق بأنه قد مات منذ زمن طويل ، وبأن أجفانه التي اختلطت بتراب الشارع بدأت تغادرها أشعةُ الشمس رويداً .. رويداً … و على الرُغم من ذلك فإنه حاول النهوض مرة أخرى ساحباً أكليلَ الشوكِ المغروز في عظام جبينهِ الذي تفجرت منه الدماءُ على رقبتهِ و على ياقةِ قميصهِ الابيض الناصع … كان الألم عظيما … و كان الارهاق الذي شلّ قدرته على النهوض يسيل عرقا يسحُّ من كامل جسده المرضوض ، أسند كفّيه على إسفلت الشارع الملتهب الذي يخترق ساحة السوق ، متكئا على ركبتيه وهو ينظر من خللِ خيوطِ الدم النازف من جبينه الى الأحذية العسكرية المتسخة والى فوهات البنادق التي تحاصره من كل صوب ضاغطاً على أسنانه بكل ما أوتي من قوةٍ لكي يخنقَ صرخةً كادت تنطلقُ من اعماقه …… كان بالرغم من آلامه ، خجلاً من ان يصدر عنه أيما تأوهٍ أو صرخةِ إستنجاد ، لا بل كان خجلاً من سقوطه على الارض مرتين جراءَ الضربات العنيفة من أعقابِ البنادق والهراوات … ترنَّح قليلاً قبل ان يقفَ على قدميه ، فاتحاً ذراعيه ليستعيدَ توازنه حين إنغرزَ سكينٌ طويل في خاصرته اليسرى … امسكَ بقبضتهِ نصلَ السكين محدقاً للوجوه التي احاطت به و متمتماً بإستسلامٍ ووهن :
– يا إلهي … لماذا تركتني وحيداً …. ؟؟

(2)
كانت الساعة تشير الى الثالثة بعد الظهر وفي منتصفِ شهر تموز اللاّهب ، حين هوى الرجل ذو القميص الابيض الناصع مرةً اخرى على الارض التي تلفظُ سعيراً ، بعد ان أخرج السكينَ الطويل من خاصرته اليسرى ، ولكنه في هذه المرة بدأ يشعر بدبيبِ خدرٍ مُنعش يسري في جسده الذي بدأت تغادره الآلام ، فإتسعت حدقتا عينيه بكل أناةٍ ليرى بوضوحٍ كامل أديمَ زرقة السماء و خيوطَ الشمس النابضة و ملامحَ رجال مقطبة يتصايحون من حوله بمنتهى اللغطِ و الضجيج ، ولأولِ مرةٍ بعد أن تمَّ إقتياده الى وسطِ ساحةِ السوق حاولَ أن يسألهم … من أنتم …؟… ولماذا…؟؟… ولكنه شعرَ ببحَّةٍ مخنوقة في أعماقِ صدرهِ من اليأسِ والأسى و بعطشٍ ممضّ أطبقَ على حلقهِ الى درجةٍ لم يعد فيها قادراً على إبتلاعِ ريقه الذي إمتزجَ بطعمِ الدّم …. قعد على ركبتيه مشلولاً و خدراً حين تلقى ضربةً من هراوةٍ على مؤخرةِ رأسَه بصقَ على إثرها دماً مخلوطاً بالقئ ، فأسند رأسه المدمى بكفه الأيمن و مال بكل هدوء على ركبتيه … لم تَعد الألوانُ و الأصواتُ مثلما كانتا قبل ساعة ، بل إقتربتا بصورةٍ جلية الى الاتساع ِ والوضوح التام أمام بصرِه وفي أعماقِ سمعه … كان يلتقط أقلَّ الأصوات خفوتاً مع هديرالشتائم و اللعنات العالية و أصواتِ الركلات و أعقاب البنادق التي تنهال عليه من كل الجهات ، مما اضطرّ مذعناً الى سدِّ أذنيه بكلتا يديه لكي يتفادى الأصواتَ و الضرباتَ معاً ، منحنياً على الارض حتى لامس رأسه تراب الاسفلت …
كانت ساحة السوق مهجورةً و بعضُ الدكاكين مقتحمة تناثرت منها البضائعُ المسحوقةِ بالأقدام على الأرصفة ، و كان السكونُ و الهدوءُ آسناً ودبقاً لا يقطعهما ، بين الفينة و الاخرى ، سوى نباحُ كلبٍ بعيد و هديرُ مركبات تعجُّ برجالٍ يصرخون بشكل هستيري وهم يطلقونَ النار على الهواء و يهتفون بلهجاتٍ غريبة … كان بعضهم بملابس عسكرية و آخرون بملابس مدنية و سراويل منفوخة رثة و متربه مما تدلُّ بأنهم كانوا وافدين الى المدينة من أماكن قصّية ، وكانوا كلما يمرّون من الحشدِ المسلّح المحاط بالرجُلِ ذو القميص الأبيض الناصع ، ترتفعُ عقيرتُهم بأصواتٍ مختلطة ناشزة … إسحلوه .. إسحلوه …!!!.. ليزدادَ على إثرها كيلُ الضربات عليه ضراوة و عنفاً ………
… كانت ذراعاهُ تصدّان أكثر الضرباتِ حدَّة وألماً وهما تهبطان و تهتزان كجناحي طائرٍ غريب وقع في مصيدة…
.. وكانت ضرباتُ قلبه الوجيف والمختلج تُسمع كدقاتِ مطارقٍ بعيدة وغامضة … كانت تسمعُ مثل طلقاتِ البنادق وضوحاً ، وبالرغم من فوهة الجحيم المصوّبة عليه من كل الاطراف ، بدأت أضلاعه ترتعشُ من البرد القارص كوريقات الخريف .. وفجأةً .. وبدون أن يتوقع ، مرت امام ناظريه وبجلاء نافذةُ غرفته المضيئة كسحابةِ حلمٍ وامض ، تمرُّ من حذوها أسرابُ السنونو بسرعةٍ جنونية وهي تصدرُ أصواتاً تشبه صريرَ أبوابٍ عتيقة و صريفَ آلاف الأسنانِ دُفعةً واحدة …
– إنزل يا ولدي … العشاءُ جاهز …!!
كانت أمُه ، العجوزة المترمّلة ، تنتظره تحت الادراج الحجرية المؤدية الى غرفته المضيئه في الطابق الثاني ، و كانت باحةُ بيتهم المرصوفةِ بألواحِ الإسمنت مغسولةً تلمعُ تحت أضواءِ البيت وكأنها تزقزقُ جذلاً ، ولم يَدُر في خلده إطلاقاَ بأنه سوف يتناول عشائَه الاخير في ذلك اليوم مع امهِ التي لا تفارقها رائحةُ المسك و الزعفران أينما حلّت …
– بسم الله على طولك يا ولدي … قل لي متى تكتحلُ عيني …..؟
ما أكملتْ ….. بل مسحتْ دمعةً ساخنة جرت على أخاديد وجهها بفوطةِ رأسها السوداء … فتيقّن الإبن بأن الاسطوانةَ اليومية سوف تعاد ، فأخرجَ من جيبه سيجارةً دعكها بين السبابةِ و الإبهام ثم ضربَ عقبَها على ظفر الإبهام الأيسر و بللَ بطرف لسانه شفتيه المزمومتين ثم تلمّظ قبل أن يضع السيجارة في فمه …
– لم يحنْ الأوانُ بعد يا أمي …
فقعدَ على نصفِ حصيرة امام العشاء منتشياً … ولكن أمه ألحّت كعادتها …
– ما رأيك ببنتِ الحاج زينل ..؟؟
حدّق الابن بملامحها الصافية طويلاً قبل أن يُجيب …
– ولكني لم أرها في حياتي ..!!
سكتْ ، و سكتت العجوزة ….
كانت أمُه تحفُّ وجوهَ الصبايا والعرائس المنذورات للزواج مقابلَ دريهماتٍ معدودة ، و كانت عدةُ عملها خفيفة و بسيطة لا تتجاوز بعضَ المساحيق و الخيوطَ الدقيقة و قارورةَ كحلٍ معدنية صغيرة تحملها في جيبها الطويل تحت عبائتها الحائلة اللون ، و كانت حَواري قلعة كركوك تعرفها عن كثب ، لا بل كان ظهوُرها في أيةَ حارةٍ يعني المسرات و الأعراس المرتقبة … و كثيراً ما حاولَ الإبنُ بأن يثنيها من عملها و خصوصاً بعد أن أصبح عاملاً في حقولِ النفط ، و لكن أمَه التي جاوزت سنَّ الكهولة ، كانت تردُّ عليه جازمةً ….
– المياهُ الساكنة تصبحُ آسنة يا ولدي ….!
…. كانت أسرابُ السنونو التي بَنَتْ أعشاشَها فوق نافذةِ غرفته المضيئة في الطابق الثاني قد هدأت تماما بحلولِ الظلام ، و لكن أصوات الانفجارات البعيدة وأزيزَ الطلقات الذي بدأ يقترب لم يهدأ طوال الليل ، ففي ذلك اليوم الذي بدأ فيه الناسُ يحتفلون سعداء ، إنقطعَ التيارُ الكهربائي عقبَ العشاء و أصبحت أصواتُ العيارات النارية التي تصمُّ الآذان لا تحتمل ، فتساءلت الأم وهي تشعلْ فانوساً قديماً …
– كيف يحتفلُ الناسُ في الظلام …؟؟
أجابها الإبن شارداً و بغموضٍ واضح …
– إنهم لا يحتفلون يا أماه ..!!
فغادرَ النومُ أجفانَه حتى الصباح …. و قبيل الصباح ، وفي إغفاءةِ حلمٍ قصيرة ، رأى نفسَه وليداً يحبو في ظلام غرفةٍ واسعة … كان يرددُّ مع نفسه فرحاً و مستبشراً ….
( ها قد حلَّ الظلامُ في بطنِ أمي ) … لأنام قليلاً ..، كان يرددُ بلا إنقطاع و بلغةٍ تشبهُ مناغاةَ طفل وليد يداعبُ جفونَه ضوءُ شباكٍ بعيد ، إقترب من الشباك زاحفاً و قبضَ بأصابعه الصغيرة حافته ، فإذا بنورٍ باهر يغشى البصر ينثالُ عليه …فكركر ضاحكاً حين رأى أمَه في باحةِ الدار وهي تُطعم أسرابَ السنونو و آلافاً لا تحصى من العصافير التي تسلقت على جسدها ، وإذا بأصواتِ السنونو و زقزقاتِ العصافير تتحول تدريجياً الى صراخٍ و نحيبٍ بشري حاد ومتواصل ، و تصبحُ خفقاتُ أجنحتها الناعمة أجنحةً مخيفة هائلة تُهيمنُ بظلالِها على ضياءِ الشباك … لقد حلَّ الظلام مرةً أخرى في بطن أمي ، أحاول الآن أن أنام .. كان يرددُّ باستمرار مع نفسهِ و بلغةٍ تشبه مناغاة طفل وليد … كان الظلامُ صاعقاً … مدوخاً … نابضاً … كثيفاً … يغوصُ الى أعماق الحلقِ و كأنه حفنةَ تراب سدَّ فمه … صرخَ بإلتياع …. إنغلقَ و انفلقَ مرةً أخرى … نامَ و أفاقَ مرةً أخرى … و أخيراً نادى بصوتٍ أجش …بصوتٍ لم يَعدْ يتعرفُ عليه …..بصوتِ رجُلٍ كامل الرجولة …
ـ إنني أستنشقُ رائحةَ غازٍ غريب … ؟؟
كان صوتُه مبحوحاً و مشروخاً و رخواً …
– هناك شئ ما يحترقُ .. يا أماه …
و بغتةً … ألفى نفسه قاعداً على عقبيه في الفراش لاهثاً ، يمسح ُ العرقَ الغزير من وجهه … كان ضوءُ الفجر الأزرق يتسللُ بهدوء من خللِ النافذة .. إنتظر طويلاً و بلهفةً كبيرة لكي يسمعَ آذان الفجر من المسجدِ الكائن خلف بيتهم حتى بدأت الساعةُ تشير الى الثامنة صباحاً …
– يا إلهي .. ماذا جرى لمؤذنِ الجامع ..؟؟
قام مسرعاً و فتح النافذة على مصراعيها ، ثم لبسَ بنطاله الأسود و هبطَ قافزاً من الدرجات الحجرية الى باحةِ البيت … غسلَ وجهه من صنبورِ الماء … حدَّق طويلاً الى نفسه في مرآةٍ صفراء مغروزة في جدارِ الحوش … تسمَّر في مكانه حائراً حين أبصر ثلاث طاساتٍ معدنيّة متداخلة فوق بعضها ، والتي تسمى بـ ( سفر طاس ) مركونةً عند مدخلِ غرفة أمه المغبشة …
– زوادةُ الطعام حاضره … لقد تأخرتَ عن العمل يا ولدي …
أتاهُ صوتُ أمه واهناً و نعساً …. فإنتفضَ الابن متبرّماً …
– أي عمل يا أمي .. أما ترين …؟؟؟
و قبل أن يكملَ كلامَه ، بدأت زخاتُ الرصاص تلعلعُ قريباً من بيتهم … إنتظرَ يدخن بنهم … و انتظرت أمُه مقرفصة فوق عتبةِ غرفتها حتى الساعة الثانية بعد الظهر … حين إقتحمَ المسلحون البيت متوزعينَ في أنحاء الحوش و محاطين به من كل الجهات ، فتناول الرجل قميصَه الأبيض الناصع بكل هدوء ، و أخذ يتبعهم برباطةِ جأشٍ محيّرة …
جَثتْ الأمُ العجوزة المترمّلة على ركبتيها تزحفُ خلفهم وهي تلطمُ صدرَها الضّامر و تجزُّ ذوائبَ شعرها الأشيب منتحبةً حتى الباب الخشبي الخارجي … و عند عتبةِ الباب أُغميت عليها ، بعد أن أطلقت صيحةً مدويّة إهتزَّ لها الزقاقُ الطويل المعتَم :
– اتركوه … لخاطر الله …!!

(3)
إحتوى الرجلُ ذو القميص الأبيض الناصع رأسَه بين راحتيه ، و غمرَ وجهَه في التراب .. لفحتُه قشعريرةُ بردٍ لاذعة ، كانت عيناه غائمتان أمام حضور الألم .. و حين أحسَّ بأن آخرَ الرمقِ في إقترابٍ .. إرتعشَ منه بعضُ عضلات جسمه بتوترٍ رتيب ، فوقعَ فوقُ بركةَ الدّم التي كانت تتوسعُ من حولِه باستمرار … كان بين الحضورِ و الغياب .. بين الإنخطافِ و التجلّي ، يقاومُ بإصرارٍ عنيد إختراقَ روحه للهدأةِ الأخيرة .. إقترب منه رجلٌ أَحولُ العينين بتوجسٍ و حِيطة ، فلكزهُ بحربةِ بندقيته تحت إبطهِ مباشرةً و بأعنفِ قوّة ، فانتفضَ الرجلُ الذي كان في حالة الاحتضار ، واقفاً على قدميه بكل عُنفوانِه أمام دهشةِ الجمع المتهالك عليه … فتراجعوا قليلاً الى الوراء .. فمشى نحوهم بدون أن يترنّح .. و بدون أن يتعثر ، و بخطوات واثقة إجتاز الطوقَ المحكم حوله ، حاملاً أحشائَه بين راحتيه … مشى بدون أن ينطقَ بكلمة …و بدون أن يهتزُ له جفنٌ .. فاجتاز ساحةَ السوق نحو ظلال جدران الخان الكبير .. شامخاً شموخ رجلٍ أبى أن يموت الا واقفاً .. فاسندَ ظهرهُ لجدارِ الخان ، و نظر ملياً الى عمق السماء ، ثم نقل بصرَه للوجوهِ المحيطةِ به فتغلغلَ بريقُ عينيه الصافيتين لملامحِهم ووجوهِهم المتربة … نظرَ بعمقٍ الى عيونهم الوجلة واحداً واحداً .. فلمعَ في شفتيه شئٌ ما يشبه ظلالَ إبتسامةٍ شامتة …
– سوف لا تغربُ الشمسُ على غيظِكم …
فسُحبت أقسامُ البنادقِ دفعةً واحدة ..
– يا إلهي … إنهم لا يعرفونَ ماذا يفعلون ….!!
فانطلقت الرصاصات ُ تشقّ قميصه الابيض الناصع مِزقاً …
طلقاتٌ عبرت سفحَ ذاكرةٍ مُضيئة في نافذةٍ تمرُّ بحذوها أسرابُ السنونو في آماسي الصيف …
توزعت مزقُ القميص كنجيمات متألقة في ساحةِ السوق…
إنتشرَ الصمتُ و صارَمملكة …
فهمدت جثةٌ لم تهتزُّ منها عضلةٌ أمام مدخلِ الخان في الساحة ، فرُفعت عن مكانها بعد يومين …
و بعد يومين بالضبط ، شُوهدَ بعض الكناسين منهمكين بإزالةِ بركةَ الدّم الغامق التي تيبست في ساحة ِ السوق ، و سُلمت محفظةَ نقوده مع مفكرةِ جيبٍ صغيرة الى أمِه العجوزة المترمّلة التي لم تصدق إطلاقاً بموته ،على الرغم من شهادةِ الوفاة التي تُفيد بأنه ماتَ طعناً و رصاصاً و تعذيباً …
كانت أمُه تقعدُ على عتبةِ الدار طوال النهار، منفوشةَ الشعر ، ذاهلةً ، شاردة … تنتظرُ إيابَهُ من العمل و في الليل كانت تندبُ حظَها العاثر بصرخاتِ آلامٍ يسمعُها كلُّ البيوت المجاورة ……
ـ لا حول و لا قوّة إلا بالله … أينَ أنتَ يا ولدي …؟ … اغثني يا شيخ عبدالقادر … اغثني يا سيد النعيمي …انجدني يا إمام الكاظم … النجدة … النجدة … يا أولياءالله …!
كانت لاتهدأُ طوالَ الليل ، حتى جفَّ عودُها و أشرقَ بياضُ عينيها صفاءً من العَبرات .. وكانت قبل وفاتها بيوم قد طرقت بابَ الحاج زينل فجراً وهي تحمل في يدها ( سفر طاس ) إبنها …
– الحقني يا حاج … لقد نسيَ إبني زوادةَ طعامه …!!
تلك كانت المرةُ الأخيرة التي شوهدت فيها في الحارة …ففي نهاية شهر أيلول ماتت في غرفتها المغبشة من الكمدِ و الحسرة وحيدةً ، وهي تقبضُ بيديها المعروقتين محفظةَ نقود إبنها و مفكرة الجيب الصغيرة ذات الغلاف الأخضر و الحافات المذهّبة ، و كانت محفظةُ النقود تحتوي على بعضِ الأوراق الصغيرة مع نصفِ دينار عراقي مرسومٌ عليه شعارُ الجمهورية العراقية ، و كانت في مفكرةِ الجيب كتاباتٌ تشيرُ الى تواريخِ تسديد الديونِ لبائعي اللحوم و المواد الغذائية …و كانت هناك إشارةٌ بقلم الرصاص الى الرقم ( 14 ) من شهرِ تموز ، كتبَ الرجلُ المقتول ذو القميص الأبيض الناصع تحته و بخطِّ يده المائل قليلاً …
الرابع عشر من تموز …. عطلةٌ رسميّة … !!!


فاضل ناصر 2006
(ها قد حلَّ الظلامُ في بطن أمي ….. ) مطلع من قصيدة طويلة لصديقي الشاعر و المناضل السوري وديع إبراهيم جورج …

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى