كليلة و دمنة يوسف أحمد إسماعيل - كليلة ودمنة وخطاب التأويل

مما لاشك فيه أن كتاب كليلة ودمنة هو أحد الكتب التي حظيت بالانتشار وديمومة التلقي والقراءة عبر توالي العصور ، مثله مثل المقامات الرائدة ( مقامات الهمذاني والحريري ) وألف ليلة وليلة ورسالة الغفران والحكايات الشعبية .
إن هذه النصوص الأدبية تجاوزت كينونتها الزمانية والمكانية إلى فضاء إنساني رحب تعالى على الخصوصية الضيقة . ولكل نص من تلك النصوص سماته التي عززت انتشاره وديمومته عبر التلقي المتنامي . إلا أن ذلك لا يعني ، بالضرورة ، تنوعا في أشكال تلقيها ، و إن تعددت القراءات ؛ لأن القراءة الغنية والمتنوعة مرتبطة بنوعية القارئ وموسوعته الثقافية وخلفياته النصية والأدوات المنهجية التي يتسلح بها ، وليس بالموضوع المتلقى فقط. وفي أشكال تلقي كليلة ودمنة ، موضوع بحثنا ما يوضح ذلك .
نشير بدءا إلى أن ديمومة تلقي كتاب كليلة ودمنة ، وحضوره المتعالي يرجع إلى مجموعة من الخصائص نجملها بما يلي :
1 ـ يرتبط الكتاب بالحكاية الشعبية ، و إن ظهر مكتوبا لدى العرب في القرن الثاني ا لهجري . لأن الحكاية المضمنة فيه هي تراث إنساني تمتد جذوره في الثقافة الإنسانية الفولكلورية الهندية واليونانية والفارسية والعربية . وهذه الخاصية تثير الجدل بشكل دائم حول جذورالحكاية المضمنة وأصولها ومؤلفها ومدلولاتها .
2ـ يعد كتاب كليلة ودمنة من النصوص المركبة ، فتنظيمه قائم على الاستطراد من حكاية إلى أخرى عبر التوالد المفضي إلى نص جديد قابل ، هو بدوره ، إلى توالد آخر، مثله مثل حكايات ألف ليلة وليلة في التراث الإنساني .
3ـ يقرأ كتاب كليلة ودمنة بوصفه نصا متكاملا ، تتداخل أجزاؤه لتغذي البؤرة الدلالية المركزية عبر التنويع والإبدال . كما يمكن أن يقرأ نصوصا منفصلة ومستقلة ومبتورة عن سياقها النصي لتغذي دلالة جزئية خاصة بها .

4 ـ إن فكرة الكتاب المتمثلة في الصراع بين الفوق (دبشليم الملك ) والتحت ( بيدبا الفيلسوف ) ومعالجتها بالتماثل المتكافئ ، أي قبول دبشليم الملك بنصيحة بيدبا وتنازله عن استبداده والأخذ بدور بيدبا في الحياة السياسية ، مما حقق توازيا في العلاقة بين الفوق والتحت ، إن هذه الفكرة هي فكرة متعالية على الزمان والمكان والثقافة المجتمعية الخاصة بشعب من الشعوب ، مما يجعل منها فكرة إنسانية شاملة ومخترقة لأي فضاء يحاول تحديدها و تأ طيرها .
إن تلك العناصر المشكلة لديمومة النص و عالميته ، ليصبح جزءا من التراث الإنساني وليس العربي أو الهندي أو الفارسي ، دفعت به إ لى التلقي بنمط واحد من القراءة تناسخ عبر القراء كتابا أو نقادا أو قراء مطالعين ، مع الاحتفاظ ببعض التمايز المحدود لكل قراءة . وسنوضح فيما يلي ذلك النمط من القراءة :
إن أغلب القراءات التي تطرقت إلى كليلة ودمنةـ قديما (1) وحديثا (2) ـ تلقت النص بوصفه مجموعة من الحكايات الشعبية ، بخاصة حكايات الحيوان ، أي بوصفه مجموعة من النصوص المنفصلة عن بعضها . ويجب قراءتها في البعد الرمزي لما ينطق به الحيوان في مقابل الدلالة الإنسانية .
يضاف إلى ذلك أ ن تلك القراءات بحثت ـ إيجازا أو تفصيلا ـ عن الأصول الهندية أو الفارسية أ و العربية لتلك الحكايات المنفصلة . وهو ترهين غير مجد ٍ؛ لأن الحكاية الشعبية هي ثقافة إنسانية شاملة ، ولا يمكن تأصيلها و إن توافرت القرائن البيئية والاجتماعية والجغرافية ، بحكم التناقل الشفوي وتشابه الأصول البشرية البدئية وطريقة توالد الحكايات . وحتى إ ن توصل باحث (3) إلى القطع ـ كما يرى ـ بأصل المادة الحكائية في كليلة ودمنة ، فإ ن القراءة بذلك المنحى ترهن المادة الحكائية بزمن ما ، وتغلقها على أصولها ؛ مما يمنع انفتاح النص على الحاضر والمســـتقـبــل والتلقي المتعدد الدلالات والحمولات التي تولد نصوصا جديدة .

وفي إطار هذا الشكل الوصفي في التلقي هناك القراءة السلبية المغلقة التي ظهرت شذراتها في كتب الموسوعيين والمصنفين العرب أمثال ابن النديم والحاجي خليفة وغيرهما . فقد رأوا في قصص كليلة ودمنة خرقا للمعيار الاعتباري الذي يجب أن يأخذ به المتن القصصي ، انطلاقا من أن الفن القصصي في العصر الإسلامي نشأ في بدايته في المساجد والحلقات الدينية بغاية اعتبارية . ويقوم على الإسناد الخبري والتوثيق التاريخي . ومع ظهور فئة القاصين المحدثين ابتعد القص عن الاعتبار الديني والأخلاقي وأخذ بأسباب المتعة والتسلية ،وتخلى عن الإسناد ومقولة الصدق ؛ مما دفع ا لخاصة إلى مقاومته وملاحقة القاصين ، واعتبار تلك القصص فنا هابــطا غايته عقل العامة والجمهــــور العريض ؛ مما أفسد الأخلاق وأســـاء إلى الدين (4) . وفي هذا النسق الثقافي قال ابن النديم :(وكان من يعمل الأسمار والخرافت على ألسنة الناس والطير والبهائم جماعة منهم عبد الله بن المقفع ) (5) .

وبتوسع أكبر في التوصيف ، مع التقييم الإيجابي لكليلة ودمنة بعد الانعتاق من تقييم النص على أساس قيم الاعتبار الديني ، نقرأ في الدراسات المعاصرة موقفا ينم عن الإعجاب بالنص ، ولكنه إ عجاب لا يخرج عن عباءة التوصيف ليصب في التحليل والتأويل ، و إن كانت تلك الدراسات تحض ـ لفظيا ـ بشكل دائم على ضرورة القراءة التأويلية . ونمثل لذلك بقراءة عزة غنام ( 6 ) التي نرصدها من خلال المحطات الآتية :
• رصدت الدراسة المواقف والآراء المتصلة بتأصيل الحكايات المضمنة ( حكايات الحيوان ) دون أن تبحث عن موقف من ذلك ، ودون الانتباه إلى أن تلك الحكايات المضمنة هي ليست أكثر من تنويع و إبدال للقصة الإطار .
• الإشارة إلى أن حكايات الحيوان في كليلة ودمنة جاءت على لسان الحيوان بديلا عن تمثيلها الإنساني تجنبا لقمع الحاكم وبطشه . مما يعني أن التأويل لا يتناول ـ في رأيها ـ الحكاية الإطار وما فيها من رموز دلالية ، مع العلم أن تجنب بطش الحاكم يرتبط بتفسير القصة الإطار .
• الإشارة إلى أن كليلة ودمنة قصة توالدية تقوم على التركيب الحكائي . وهذه رؤية إيجابية إلا أنها لم تعط ثمارها ؛ لأنها لم تتجاوز توصيف الإطار التنظيمي للنص إلى القراءة التأويلية الكلية له .
• الإشادة بالدور الريادي الذي تكتسبه كليلة ودمنة بوصفها قصة رمزية متكاملة على مستوى النثر العربي المنقول ، آخذة ـ الدراسة ـ بمقولة النقل مع التحفظ بحدوده ومستوياته .
إن هذه القراءة هي قراءة وصفية إيجابية ؛ ولكنها مغلقة أيضا على الحكاية المضمنة ، وتسير بالتوازي مع القراءات التي تقدم عرضا لمحتويات الكتاب وأهميته . أما الحض ـ
المنصوص عليه في الدراسة ـ على التأويل ، فهو لا يتجاوز الحض اللفظي ، لأننا لا نرى ما يجسده فعلا منجزا. ومبرر غيابه أنه لو أنجز سيكون من النتائج البدهية باعتباره يقصد سلوك الحيوانات وأقوالها في المقابل الإنساني ، وهذا ليس بجديد ؛ لأن كل حكايات الحيوان في الثقافة تحمل تمثيلا رمزيا للتحقق في عالم الإنسان.




إن ماهو ملفت للانتباه في أشكال تلقي نص ابن المقفع التي أشرنا إليها أو التي لم نفصل في طبيعتها أنها جميعا تصرح بضرورة القراءة التأ ويلية . ويقصد من وراء ذلك ، تحديدا ، أقوال الحيوانات وسلوكها باعتبار ذلك بديلا رمزيا للفعل الإنساني . وفي ذلك مجموعة من الملاحظات
1 ـ إننا لم نقع على دراسة تنجز ذلك التأويل للسبب المذكور سابقا . يضاف إلى ذلك أن إنجاز تأويل للحكاية المضمنة ينم عن خطأ فادح في فهم النص وتلقيه ؛ لأنه يفصل الحكاية المضمنة عن سياقها النصي المتكامل ، بوصفها جزءا إبداليا ، ويضعنا في سياق تأويلي للمدلول الرمزي في حكاية منفصلة ومفردة ، وبالتالي فإن التأويل لا يحمل خصوصية نص ابن المقفع بوصفه نصا واحدا . ونكون بذلك أمام تفسير للرموز الحيوانية بشكل عام ، إن كانت في كليلة ودمنة أو في غيرها ، وقراءة مسطحة لا تنتج نصا موازيا لنص كليلة ودمنة . كما أنها ستكون قراءة هيمنت عليها فكرة سابقة على النص للاعتقاد بأن كليلة ودمنة قصة جاءت على لسان الحيوان . وهذا خطأ شائع في فهم النص .
2 ـ إن تلك القراءات جاءت قراءات كسولة ، لم تخرج في مجمل آرائها وملاحظاتها عن القراءة الظاهرة للنص ، إن كان من حيث فكرة التركيب الحكائي أو من حيث رمزية حكاية الحيوان . ولم تستطع الانتباه إلى علامات ظاهرة تحتاج إلى التأويل ، إن كانت تلك العلامات مخلة في البناء التنظيمي الخارجي ، مثل موقع مقدمة ابن المقفع في الكتاب ، أو إن كانت تلك العلامات ذات وظيفة دلالية على مستوى البناء الداخلي كالمفارقات الزمنية الواقعة بين زمن القصة (قصة دخول ذي القرنين بلاد الهند) وزمن الحكي . ولذلك انصب اهتمام القراءات الوصفية على أمرين لا ثالث لهما . الأول تأصيل النص تاريخيا ، والثاني تأويل الرموز الحيوانية في مقابلها الإنساني .
وكان من نتائج ذلك القصور أن تصريح ابن المقفع في مقدمته حول ضرورة فهم نصه والتمعن فيه لم يتم تلقيه كما أراده ابن المقفع حتى الآن ، وبقي سر ابن المقفع مغلقا ، ولم يخرج إلى النور بعد .
يقول ابن المقفع : ( ينبغي للناظر في هذا الكتاب ومقتنيه أن يعلم أنه ينقسم إ لى أربعة أقسام وأغراض . إ حداها ما قصد من وضعه على ألسن البهائم غير الناطقة ليتسارع إلى قراءته واقتنائه أهل الهزل من الشبان فيستميل به قلوبهم ، ولأن هذا هو الغرض با لنوادر من حيل الحيوانات . والثاني : إظهار خيالات الحيوانات بصنوف الألوان والأصباغ ليكون أنسا لقلوب الملوك ، ويكون حرصهم أشد للنزهة في تلك الصور . والثالث : أن يكون على هذه الصفة فيتخذه الملوك والسوقة فيكثر بذلك انتسابه ولا يبطل فيخلـُــق على مرور الأيام ، ولينتفع بذلك المصور والناسخ أبدا . والغرض الرابع هو الأقصى مخصوص بالفيلسوف خاصة ) (7)

يصنف التصريح القراء إ لى أربعة أنماط نلاحظها على الشكل الآتي :

●النمط الأول ( القارئ الأول )
" ما قــُــصد فيه إلى وضعه على ألسنة البهائم غير الناطقة من مسارعة أهل الهزل من الشبان إلى قراءته فتستمال به قلوبهم ؛ لأن هذا هو الغرض بالنوادر من حيل الحيوان "
يحدد ابن المقفـــع القارئ الأول ـ الرتبة هنا ليست قيمة ـ بأهل الهزل من الشبان ، وليس كل الشبان أيضا ، و إنما أهل الهزل منهم ؛ لأنهم متسارعون في القراءة بقرينة لفظة " مسارعة " الواردة في النص . فهم غير قادرين على القراءة المتأنية التي تنم على الصبر و إعمال العقل والفكر . وهؤلاء تستميل قلوبهم ما وضعه على " ألسنة البهائم غير الناطقة " لما فيه من النوادر من حيل الحيوانات .
ولفهم القول يجب أن نسأل : ماذا وضع على ألسنة البهائم غير الناطقة ؟ والجواب أنه وضع البديل الرمزي للتمثل الإنساني . وأهل الهزل من الشبان هم الذين سيهتمون بتأويل ذلك البديل الرمزي الوارد في الحكايات المضمنة ( حكايات الحيوان ) المنزوعة من سياقها النصي والمجردة من وظيفتها الإبدالية . ويؤكد ذلك ما جاء في أسباب وضع كتاب " البنشاتنترا " و هو ( أن أحد ملوك الهند العظام كان له ثلاثة أبناء في منتهى البلادة ، فلما احتار في أمر تعليمهم أشاروا عليه بتسليمهم إ لى برهمي يدعى " وشنو شرما " فهو كفيل بذلك ، فأشرف البرهمي على تعلمهم ووضع لهم هذا الكتاب ليحببهم في المعرفة بطريقة مشوقة ) (8) ونقرأ من النص أن الأستاذ البرهمي وضع كتابا على ألسنة الحيوانات ليحبب التلميذ البليد في العلم والمعرفة . وهذا التلميذ هو ذاته القارئ الأول عند ابن المقفع ، وهو القارئ المتسارع الذي سينتبه إلى البديل الرمزي لسلوك الحيوان وقوله . أي أنه سيهتم بتأويل ما يرد في حكايات الحيوان وتمثلها الإنساني .
وهذا ما فعلته القراءات السابقة لكليلة ودمنة ،كما لاحظنا حتى الآن .أي أ ننا أمام قراءات لم تتعد القارئ الأول ، كما حدده ابن المقفع . وقرينة ذلك أن ابن المقفع في جزئه الأول من التصريح ذكر قصص الحيوان تحديدا " ما وضع على ألسنة البهائم ... الغرض بالنوادر من
حيل الحيوانات " فهو قد نص على نطق الحيوان بمقابله الإنساني ، كما نص على الحكاية المضمنة .

• النمط الثاني ( القارئ الثاني )
" والثاني إظهار خيالات الحيوانات بصنوف الأصباغ والألوان ليكون أنسا لقلوب الملوك ... ويكون حرصهم عليه أشد للنزهة في تلك الصور " . يقصد بالغرض الثاني الملوك بغاية النزهة في الصور التخييلية للحيوانات . ولكنه لايريد الملوك كلهم ، و إنما الباحثين عن التسلية والمسرة والمتعة ، وليس الباحثين عن التفكير والتأمل . فالنمط الأول من الملوك لا يؤمنون بدور المعرفة والحوار ، و إنما يقلبون الكتاب بحثا عن الصور التخييلية . وهم غير مقصودين بالفكرة العامة للكتاب أو ما سميناه بالتماثل المتكافئ الناتج من طبيعة الصراع بين دبشليم الملك وبيدبا الفيلسوف . فهم لايشبهون دبشليم الملك ، لأن من سمات خطاب دبشليم التأمل والتفكيـر . وهذا ما أحاله في أكثر من موقع إلى تمثل أقوا ل الحكماء كما دفعه إلى التماهي ببيدبا إذ أخذ بنصيحته وطلب منه تأ ليف الكتاب .

• النمط الثالث ( القارئ الثالث )
" الثالث أن يكون على هذه الصفة فيتخذه الملوك والسوقة فيكثر ا نتساخه ولا يبطل فيخلق على مرور الأيام . ولينتفع بذلك المصور والناسخ أبدا " . في هذا الغرض ـ وتأكيدا لمفهوم القارئ الثاني ـ يربط بين الملوك والسوقة من حيث النزهة في الصور التخييلية لألوان الحيوان ، مما يدفع إلى ا نتساخه وبقائه حيا متداولا .

●النمط الرابع ( القارئ الرابع )
"والغرض الرابع هو الأقصى المخصوص بالفيلسوف خاصة " . يحدد ابن المقفع هنا نوعية القارئ بالفيلسوف ، ويؤكد على الخصوصية " مخصوص بالفيلسوف خاصة " ولا يصرح بالفضاء القابل للتأويل ، كما فعل في الأغراض الثلاثة الأول ؛ ففي الأول حدده بما وضع على ألسنة البهائم ، وفي ا لثاني والثالث حدده بالصور التخييلية ، أما في الرابع فقال الغرض الأقصى . وهو فضاء إشاري لايكشف عن نفسه إلا بالقراءة التأويلية . ولايستطيع ابن المقفع التصريح به ؛ لأنه سره والجوهر الذي حاول بوسائل متعددة ستره وتغطيته ، و إيهامنا بغيره لحماية نفسه وديمومة خطابه . إلا أنه في الوقت ذاته دفع إلى قراءته مرات عدة . ولكن من ذا الذي يستطيع التوصل إليه ؟ لقد خصه ابن المقفع بصفة الفيلسوف المتأمل ، إنه المؤول الذي يستطيع إ نجاز نص جديد ، و إنه الحاكم الذي يستطيع أن يتماهى مع المثقف ، كما تماهى دبشليم الملك مع بيدبا الفيلسوف في معادلة ( الفوق × التحت ) لتكون العلاقة في إطار التماثل المتكافئ المؤدي إلى العدالة الاجتماعية .

نحن ، إذاً ، أمام أربعة أنماط من القراءة تتسق تراتبيا على الشكل الآتي :
1 ـ قراءة الفلاسفة والملوك المتماثلين معهم
2 ـ قراءة أهل الهزل من الشبان .
3 ـ قراءة الملوك الباحثين عن التنزه في الصور التخييلية
4ـ قراءة الملوك والسوقة المهتمين با قتنائه ونسخه.

وفق ذلك فإن التلقي السابق لنص ابن المقفع ـ على الرغم من تأكيد الدارسين على ضرورة التأويل ـ ينتهي في القارئ الثاني " أهل الهزل من الشبان " ظنا أن المراد بالتأويل ما وضع على ألسنة البهائم قصد التماثل مع البديل الإنساني لإنجاز الحكمة . ولكن ابن المقفع قال : إن هذا مخصوص بأهل الهزل . ولم ينتبه متلقو النص إلى ذلك ، وخلطوا بين القارئ الثاني والقارئ الأول ( الفيلسوف ) ونسبوا إلى القارئ الأول تفسير ما وضع على ألسنة البهائم باعتباره حكمة رمزية يجب تفسيرها ، وجردوا القارئ الثاني من تلك المهمة منجرفين وراء كلمة " الهزل " ومدلولها السلبي .
المعنى الأقصى
قبل أن نتلمس المعنى الأقصى علينا التعرف إلى موقعه أولا . وفي ذلك نقول إن كتاب كليلة ودمنة ينطوي بشكل عام ، وبعيدا عن التفصيل ـ لأن المقام لا يسمح به ـ على مستويين سرديين . الأول الحكاية الأم أو ما يسمى بالحكاية الإطار . والثاني الحكاية المضمنة أو المفرعة ، وتتمثل بالحكايات الداخلية ، وتسمى بحكايات الحيوان وإن لم تجر جميعها على ألسنة الحيوانات. ومن خلال قراءتنا السابقة لقراءات كليلة ودمنة وملاحظة مستويات القراءة عند ابن المقفع يتبين لنا ضرورة استبعاد الحكاية المضمنة من التأويل الطامح إلى المعنى الأقصى إلا في إطار الحديث عن التنويع والإبدال بوصفهما وظيفتين منوطتين بالحكاية المضمنة
في الحكاية الأم حدث تاريخي تخييلي يعود إلى فتوحات ذي القرنين لبلاد الهند ثم تعيين دبشليم ملكا على البلاد من قبل الشعب الهندي الذي طرد الحاكم المعين من قبل الإسكندر، ولكن الملك دبشليم طغى في حكمه وظلم الناس واستبد برأيه ، مما دفع الفيلسوف البرهمي المعاصر له بيدبا إلى العمل على الدخول عليه لنصحه وتقويم سلوكه مع عامة الناس . وحين ينصحه تلامذته بالعدول عن ذلك خوفا عليه من بطش دبشليم يرى في رأيهم جبنا يجب أن يبتعد عنه الفيلسوف الحكيم ، لما يتحلى من ثقافة ووعي وإقدام وتضحية وواجب أخلاقي تجاه عامة الناس . وحين يقدم على الملك دبشليم يغضب الأخير ويأمر بسجنه ثم قتله . وحين يعيد التفكير في كلام بيدبا يندم على تسرعه في الحكم ويعفو عنه ويقربه منه بل ويشاركه بالحكم من خلال وضعه كتاب كليلة ودمنة.
إن النص التخييلي الذي أنشأه ابن المقفع ولم يلتفت إليه النقاد والقراء من بعدهم ، وهو النص المتمثل بحكاية دبشليم الملك وبيدبا الفيلسوف غير موجود في نص البنشاتنترا الهندي ، كما أن فكرته لم يتطرق إليها المؤلَف . يضاف إلى ذلك أن الحض على التأويل غير مصرح به أيضا. ولأن كل ذلك من اختراع ابن المقفع فإن خطاب التأويل الذي يحض عليه مرتبط بنصه التخييلي المحمل بدلالات العلاقة بين المثقف والسلطة ؛ تلك العلاقة المشوبة تاريخيا بالأخذ والرد والقبول والرفض والتسامح والملاحقة والقتل . وهو الثمن الذي دفعه ابن المقفع على يد قاتله والي البصرة ؛ لأن الخليفة المنصور وصل إلى المعنى الأقصى في نص ابن المقفع التخييلي وأدرك أن ابن المقفع لا يكتب قصصا تدور على ألسنة الحيوان وإنما يكتب في أدبيات السياسة والسلطة ، ويحض المثقف على القيام بواجبه تجاه الناس في مناقشة السلطان ومحاسبته وحثه على العدل في شؤون الرعية .


الهوامش والمراجع

1 ـ راجع كشف الظنون عن أسلس الكتب والفنون . حاجي خليفة . بغداد القاهرة سنة 1940 ج 2 ص 1508 والفهرست . ابن النديم ، محمد بن إسحاق . مطبعة الاستقامة . القاهرة . د. ت ص 304
2ـ راجع : الأدب المقارن . غنيمي هلال . القاهرة . مطبعة الأنجلو 1962 ص 183ـ 191 . وكذلك الحياة ` الأدبية في البصرة إلى نهاية القرن الثاني الهجري . أحمد كمال زكي . دار المعارف بمصر سنة 1971 . ص109 . وكليلة ودمنة في الأدب العربي . دراسة مقارنة. .ليلى سعد الدين . دار المعارف . دمشق .د . ت .ص 235
3 ـ ـ عبد الله بن المقفع . محمد غفراني الخراساني القاهرة القومية للطباعة والنشر 1963 ص 13
4 ـ السردية العربية . عبد الله إبراهيم ط1 . الدار البيضاء 1992 ص143
5 ـ الفهرست ص 304
6 ـ الفن القصصي العربي القديم.. عزة غنام . القاهرة . الدار الفنية للطباعة والنشر والتوزيع 1990 ص63 ـ 73
7 ـ كليلة ودمنة . ابن المقفع مؤسسة الكتب الثقافيةط1 / 2002 ص 67
8 ـ عن عبد الله بن المقفع ص 248






370px-Kalila-wa-Dimna_1.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى