كليلة و دمنة أحمد مجاهد - كليلـة ودمـنــة

هو كتاب من التراث الهندى وضعه بيدبا الفيلسوف رأس البراهمة لدبشليم ملك الهند، ليقدم له النصائح والحِكَم فى قصص تدور على ألسنة الحيوان والطير. وقد ترجم هذا الكتاب إلى اللغة الفارسية فى عهد كسرى أنوشروان على الأرجح، وترجمه من الفارسية إلى العربية ابن المقفع الذى كانت وفاته بين أعوام (142هـ ــ 145 هـ).
واللافت للنظر فى هذا الكتاب أنه على الرغم من قصر القصص التى يتضمنها، فإن بعضها يتضمن عناصر البناء الفنى للقصة الكلاسيكية كما عرفناها فى العصر الحديث، ويمكن لنا متابعة ذلك من خلال مراجعة واحدة من أشهر قصص هذا الكتاب، وهى قصة الحمامة المطوقة.

تبدأ القصة بقول بيدبا الفيلسوف " زعموا أنه كان بأرض دستاد عند مدينة يقال لها ماروات، مكان كثير الصيد، ينتابه الصيادون، وكان فى ذلك المكان شجرة كثيرة الأغصان ملتفة الورق، فيها وكر غراب يقال له صائر"، وهذه البداية توازى فى البناء الكلاسيكى للقصة الحديثة " المقدمة المنطقية " التى تصف المكان وتشرح الجو العام للقصة حتى يصبح المتلقى جاهزاً لمتابعة الأحداث، كما أن هذا الغراب على وجه التحديد سيلعب دور «الراوى» فيما بعد.

ويكمل بيدبا قائلاً ــ والحديث عن الغراب ــ " فبينما هو ذات يوم ساقط فى وكره إذ بصر بصياد قبيح المنظر سيئ الخلق، على عاتقه شبكة، وفى يده عصا، مقبلاً نحو الشجرة، فذعر منه الغراب، وقال: لقد ساق هذا الرجل إلى هذا المكان، إما حينى وإما حين غيرى، فلأثبتن مكانى حتى أنظر ماذا يصنع ". وهذه الفقرة توازى ما يعرف " بالحادثة الأولى" وهى أول واقعة تحرك أحداث القصة قبل توالى الأحداث التى تتأرجح بين الإيجابى والسلبى.

والحادثة الأولى تتمثل هنا فى دخول الصياد إلى الغابة وهو مسلح استعداداً للقنص، أما الغراب فقد قبع فى وكره ليستطيع مواصلة دور الراوى المراقب.

ثم تتوالى الأحداث المتلاحقة بعد ذلك لتقرب الصياد من حلمه حيناً، وتبعده عنه حيناً آخر، فى بنية قصصية درامية مشوقة.

فالصياد قد نصب شبكته ونثر عليها الحَب وجلس قريباً منها، ثم جاء سرب من الحمام تقوده " الحمامة المطوقة " فعميت هى وصواحبها عن الشرَك، فوقعن على الحَب يلتقطنه، فعلقن فى الشبكة كلهن، وأقبل الصياد فرحاً مسروراً».

لكن البناء الدرامى للقصة يواصل إثارته فقد أمرت المطوقة سرب الحمام بأن يطير كله فى وقت واحد، فاستطاع السرب أن يقلع الشبكة ويرتفع بها فى الجو، وقد تبعهم الغراب ليتمكن من مواصلة دور الراوى.
لكن أمر النجاة لم يكن بهذه السهولة، فقد أخذ الصياد فى العدو وراء الشبكة الطائرة مراهناً على أن الحمام سيتعب، وأن الشبكة ستسقط حتماً بعد وقت قصير، ليتمكن من الظفر بصيده.

ولما رأت المطوقة الصياد يتبعهن قالت: " هذا الصياد مُجِد فى طلبكن، فإن نحن أخذنا فى الفضاء لم يخف عليه أمرنا، ولم يزل يتبعنا،وإن نحن توجهنا إلى العمران خفى عليه أمرنا، وانصرف".

لقد توجهت المطوقة بسرب الحمام العالق بالشبكة من الطيران فوق الصحراء المكشوفة إلى الطيران فوق البيوت ليختفى السرب عن نظر الصياد ويقطع أمله منهن، وقد حدث لها ما أرادت وانصرف الصياد، لكن النهاية السعيدة لم تحدث بعد،بل إننا قد وصلنا إلى ما يعرف فى البناء الفنى الكلاسيكى للقصة باسم «العقدة» وهى أكبر عقبة تواجه البطل فى سبيل تحقيق هدفه.

فقد كان للحمامة فأر صديق، لكنه كان دائم التنقل والتخفى من جُحْرٍ لجُحْر، وقد قررت المطوقة أن تذهب إلى هذا الفأر الصديق، ليقرض للسرب ولها عقد الشبكة، ويعيد للحمام حريته. فلما وصلت إلى مكانه المعتاد أمرت المطوقة الحمام أن يهبط بالشبكة إلى الأرض، فهبط متعباً لا يقوى ليس على معاودة الطيران، بل على مجرد السير. وهذه هى العقدة، ففى تلك اللحظة الدرامية الحاسمة إما أن يجد الحمام الفأر فينقذه، وإما ألا يجده ويتمكن أى عابر سبيل من التقاط الحمام المترنح.

وهنا يأتى ما يعرف فى البناء الكلاسيكى للقصة باسم «مرحلة التنوير» وهى المرحلة التى يقدم فيها المؤلف المبررات المنطقية للمتلقى لتقبل الحل، فإذا كان المؤلف يريد نهاية إيجابية، فإنه يقدم وقائع تؤدى إلى حل المشكلة، وإذا كان يريد نهاية سلبية، فإنه يقدم وقائع تؤدى إلى العكس.

وقد كان بيدبا فى هذه القصة يريد نهاية سعيدة لقصته،حيث يقول: «وكان للجرذ مائة جُحْر للمخاوف،فنادته المطوقة باسمه، وكان اسمه زريك، فأجابها الفأر من جُحْره من أنت؟ قالت: " أنا خليلتك المطوقة. فأقبل إليها الجرذ يسعى".

وتنتهى القصة بأن ينجح الفأر فى قرض عقد الشبكة لتنطلق المطوقة فى نهاية القصة وحمامها معها.

وفى القصة دروس مستفادة، ونصائح مدسوسة، وحِكَم منثورة طوال النص، وقد عبرنا فوقها جميعاً حيث كانت هى الهم الأول لكل من درس كتاب كليلة ودمنة، لأن الهم الأول لكاتب هذه السطور هو التأكيد على أن البناء الفنى المحكم هو السبيل الأمثل لتوصيل المضمون حتى فى المؤلفات شبه التعليمية، فمازلنا نستمتع بقراءة كتاب كليلة ودمنة حتى اليوم، ونجد فى بعض حكاياته إرهاصاً حقيقياً يستشرف قواعد البناء الفنى للقصة الكلاسيكية الحديثة قبل ظهورها بقرون طويلة.


كليلة ودمنة.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى