أيمن الجادوري - قراءة نقدية في كتاب " لماذا تأخر المسلمون؟ ولماذا تقدم غيرهم" للأمير/ شكيب أرسلان

الأمير شكيب ارسلان، واحدا من رواد الحركة الإصلاحية والنهضة الإسلامية في عالمنا الإسلامي، ولد في الخامس والعشرين من عام 1869م في لبنان لأسرة عريقة، ودرس بمعهد الحكمة وأتقن بجانب اللغة العربية اللغة التركية والفرنسية والإنجليزية والألمانية. وفي ريعان شبابه أدركته صنعة الشعر وكتابة المقالات، لكنه سرعان ما تحول وانصرف إلى النثر بمختلف فنونه؛ فحقق بعض كتب التراث والترجمة. ولقد لقب بـ " أمير البيان " لغزارة مفرداته وتدفق بلاغته وبيانه، ولقلمه السّيال البعيد عن الألفاظ الموحشة النائية عن التكلف والابتذال. ولقد شكل العصر - الذي عاشه شكيب- منه واحدا من أعظم الكتاب في المجال الإسلامي وباحثا في سيكولوجية الحالة التي يخوضها المسلمون آنذاك، ولا سيما بعد الأحداث التي جرت في بلاد "جاوة وملايو " التي جعلت شكيب ارسلان يتطرق إلى كل بقعة يعيش فيه المسلمون ولم يقتصر فقط على بلاد " جاوة وملايو ".
يعرض لنا شكيب أرسلان بانوراما هائلة تمثل هيكلا متماثلا لأهم أسباب الانحطاط والضعف اللذين حلّا بالمسلمين وبلادهم، واللذان كانا احد الأسباب الرئيسية للتقهقر مجددا إلى عصور الركود والرجعية والهزيمة التي لا تسر عدو ولا حبيب، ولا ترضي الله ورسوله، وان حالتهم الحاضرة لا ترضي؛ لا من جهة الدين، ولا من جهة الدنيا. ثم يبين أرسلان أن الضعف والانحطاط اللذين عليهما المسلمون شيء عام لهم في المشارق والمغار، فلم ينحصر في "جاوة وملايو"، ولا في مكان آخر، وإنما هو متفاوت في دركاته؛ فمنه ما هو شديد العمق، ومنه ما هو قريب الغور، ومنه ما هو أقل خطراَ. كما قرر أن الشعوب الإسلامية متجانسة ومتشابهة في ضعفها، فحالتهم الحاضرة لا ترضي على الإطلاق. ثم يعرج على قضية أخرى شاغلت المفكرين والمؤرخين والفاتحين الكبار، ولا سيما الحقبة الزمنية التي كان عليها المسلمون من قوة وغلبة. فينوّه على مسألة ارتقاء المسلمين بالماضي وسيادتهم على العالم بأسره، وانّ المسلمين في حين من الدهر سادهم الغرباء في أرضهم وأذلهم الأجانب في عقد دارهم خاصة أباطرة الروم وأكاسرة الفرس، فيؤكد على أن تلك البقعة لم تنلْ الاستقلال التام والحرية إلا بالإسلام الذي جعل الأباطرة والأكاسرة يشهدون بصولاتهم وجولاتهم، ولم يترأسوا الأمم، ولم يصعدوا إلى ذروة المجد إلا بنبيهم ورسولهم " محمد " عليه الصلاة والسلام، وهذا ما جعل واحدا مثل " ليو تولستوي" الأديب العالمي أن يقول: "يكفي محمدا فخرا أنه خلص أمة ذليلة دموية من مخالب شياطين العادات الذميمة، وفتح على وجوههم طريق الرقي والتقدم، وأن شريعة محمد ستسود العالم لانسجامها مع العقل والحكمة".
فيرى الأمير شكيب ارسلان أن الأسباب التي تضافرت والتي اتكأ عليها المسلمون في مجدهم وعرفانهم، كانت مدانة في مجملها إلى الديانة الإسلامية وجوهره، والتي كانت قد ظهرت حديثا في شبه الجزيرة العربية؛ فتحولوا بها من الظلمات إلى النور، ومن الجاهلة إلى المدنية، ومن التشرد إلى التقرب ومن الانقسام إلى الوحدة، ومن عبادة الآلهة الجمة إلى عبادة الله الواحد الأحد فتجمعوا به إلى قلب رجل واحد ، والتي صيرتهم من الضعف إلى القوة، ومن الذل إلى العزة. ثم يذكر واحدة من الأسباب التي وقفت عقبة في طريق التقدم ومواصلة الفتوحات، والتي كان بسببها دبّ الخلاف في نفوس العرب والمسلمين من جديد ألا وهي " الخلاف الذي نشب بين علي ومعاوية " والذي يبدو جليا في سبب لولاه لكانوا أكملوا فتح العالم بأسره ولم يقف إزاءهم واقف، والسبب نفسه يتبلور في كلمة واحدة " الانقسام " التي لطالما دعا النبي-صلى الله عليه وسلم- للتخلص منها وغلاء كلمة " الوحدة "؛ لأن يد الله مع يد الجماعة، وأن الذئب لا يجرؤ الاقتراب من شخص إذا كان في جماعة. ولنا حول هذا الصدد وقفة عابرة.

إن الفرقة والانقسام لون من ألوان الفساد والتعسف وانه لآفة من آفات المجتمع الضارة التي يمكن أن تصيب قوم فتضيع بين ثناياها ضحايا كثيرة، وهذا بالفعل ما حدث في تلك الآونة في عهد خلافة الإمام علي بن أبي طالب، والتي كان بسببها حالت بين المسلمين وبين التقدم والانجاز الحضاري والفتوحات وتوسيع الرقعة الإسلامية، وإني لأري أنّ هذه العلّة أدت إلى دبّ الخلاف وشُنت الحروب بين المسلمين وبعضهم، فضلا عن ذلك اندلعت الحروق في مسيرتهم؛ مما أدى إلى حمل السلاح على بعض فلم يجد علي ومعاوية مناصا من الخروج كلا منهما على رأس جيش، ويذكر لنا التاريخ أن عدد الضحايا في تلك الملحمة " موقعة صفين " التي راح بين ثناياها ضحايا جمة تذكر الروايات أن عددهم بلغ سبعين ألف من أهل الشام وأهل العراق.

ولم يكتفِ الأمر على ذلك فحسب. فمن رحم هذه الفترة خرجت جماعة متطرفة رفعت شعار " إنْ الحكم إلا لله " فهذه الجماعة المتطرفة الهدامة كانت وليدة الفتنة والخلافات والنزاعات والفرقة التي اجتمع فيها خصلتان سيئتان هما " الجهل والإخلاص" الجهل بعلوم الدين، والإخلاص لعقيدتهم الباطلة التي جعلتهم يبطشون بكل قسوة وضراوة يمينا ويسارا، وشرقا وغربا دون تهاود أو رحمة؛ فإنهم ما لبثوا إلى أن زاد خطرهم واستفحل دمارهم وشرهم المحدق لا على الموقف السياسي " للإمام علي" فحسب، بل على المجتمع الإسلامي برمته ( والذي نحن نعاني منه يومنا هذا من داعش ومن على شاكلتهم ) حيث أصبحوا يكفرون من لا يقول برأيهم ويستحلون دمه وماله، ويبثون فكرهم المتشرذم المتعجرف في عقول الناس؛ مما أسفر ذلك على أن أفكارهم راحت تتسلل في عقول المسلمين، وأضحى جهلهم يتوغل ويغوص في نفوسهم(1)

وتأكيدا لما سبق، يطرح هنا شكيب ارسلان السبب التالي في تقدم وارتقاء المسلمين بالماضي، فيقول: برغم تلك البلدان العديدة التي فتحها المسلمون في نصف قرن أو ثلثيه، وبرغم الحروب التي خاضها علي ومعاوية ضد بعض، وبرغم الحروب والخصومات التي افتعلت بين بني أمية وابن الزبير- إلا أن هذا كله قد أدهش عقول المؤرخين والمفكرين وكبار الفاتحين؛ حتى تسللت في عقل نابليون بونابرت وجعلته يندهش حائرا؛ لأنه كان معجبا بمسيرة محمد-عليه الصلاة والسلام- وأبو بكر وعمرهما من كبار الفاتحين العظماء وأبطال الإسلام الذي حملوا لواء الإسلام على عاتقهم، وانّ نفسه راودته لأنْ الإسلام دينا له. فيا ترى.. ما السبب المضمر الذي جعل واحدا مثل نابليون يفكر في اعتناق الإسلام ويجعله دينا ومذهبا له؟!

يجب على هذا السؤال شكيب ارسلان، فيقول: إنّ القرآن قد أنشأ للعرب طفرة جديدة؛ لسد الفجوة الواسعة التي حالت بينهم وبين العزة والمجد، وأخرجهم من ديارهم والبقعة التي تحتويهم والسيف في يد والكتاب في يد أخرى، يصولون ويجولون؛ فيفتحون ويزعمون، ثم يتحدث عن فضل الفينيقيين على العالم بأسره بكونهم مخترعي الكتابة.
ولكننا حين نفحص الأمر ونتمعن النظر؛ لنستشفي السر وراء ذلك نجد أن السبب الذي جعل نابليون يفكر في اعتناق الإسلام ليس الانتشار السريع لفتح البلدان فقط، أو أنّ الطفرة التي خلقها الإسلام في تلك البقعة واحدث أخلاقا كانت معدومة بالنسبة للعرب في الجاهلية- والوقت لا يسعفني لإحصائها كاملة- لكنني أظنّ أن الذي حيّر المفكرين والمؤرخين وكبار الفاتحين بخصوص الفتح الإسلامي، ولا سيما في عهد محمد-عليه الصلاة والسلام- وأبي بكر وعمر وغيرهم من الصحابة والفاتحين رضوان الله عليهم، لم يكمن في كونهم فاتحين فحسب فمن يزعم ذلك فهو مخطئ؛ لأن هناك أمم وحضارات كثيرة فتحت البلاد بل وسيطرت على العالم بأسره أمثال الدولة الرومانية واليونانية...الخ، لكن السبب الحقيقي الذي أدهشهم هو: كيف فعل ذلك محمد-عليه الصلاة والسلام- وحوّل الناس من الظلمات إلى النور، ومن الضلال إلى الرشد، ومن الفقر إلى الغنى، ومن اللاشيء إلى كل شيء في أقل من ربع قرن؟! وكيف كان يفتح هو وأصحابه البلدان واحدة تلو الأخرى بخلق وسلام؟!(2) في حين أن من يفتح ويغزو كان يخرب ويحرق ويدمر ويعتدي بكل جرم دون هوادة أو رحمة أو حياء، في حين أن النبي كان يوصي أصحابه قبل خوض أي معركة " لا تحرقوا شجرة ولا تقتلوا شيخا ولا امرأة ولا صبيا ولا تذبحوا شاة إلا لذبحها... " بل وفضلا عن ذلك كانت الدول تسعد لمجرد قدوم المسلمون لفتحها. فما أجمل تلك العظمة والجلال الذي نشره الحبيب عليه الصلاة والسلام.

ولم يكتفِ شكيب ارسلان بذكر الأسباب التي تضافرت والتي اتكأ عليها المسلمون في محاولة ارتقائهم وزعامتهم- بل يركز على سمة أخرى يقوض من خلاله نظرته إلى الأسباب التي أدّت إلى تأخرهم وتقهقرهم للخلف، وهو بهذه النظرة يؤكد على أن الإسلام ليس مجرد شريعة نظرية فحسب، وإنما هي شريعة معتقدية عملية كذلك؛ لأنها متوقفة على العقول التي تنشرها وتُحييها. فالسبب الذي جعلهم ينهضون ويتقدمون ويبلغوا به كل هذه المبالغ من المجد والرقي، ينبغي علينا أن نبحث عنه وننشره، وهل هو باقٍ في العرب وقد تأخروا برغم وجوده؛ حتى لم يبق من الإسلام إلا رسمه، ومن الإيمان إلا اسمه، ومن القرآن إلا الترنم به، دون العمل بأوامره وتجنب نواهيه. ولقد نجح شكيب ارسلان في جعل التاريخ هو المهيمن على الحاضر، المتنبأ للمستقبل، فجعلنا نبحث عن الأسباب التي أوصلتنا إلى هذا الطريق المفدح.
وفي مسارٍ متوازي يطرح شكيب ارسلان واحدة من أهم الأسباب التي دفعت إلى وصولنا إلى هذه النتيجة وهي " فقد المسلمين السبب الذي ساد به سلفهم " وقبل أن يجيب شكيب ارسلان على هذا السؤال، ويوضح لنا السبب الذي فقده المسلمون- كان لابد أن يستهل نظريته بمقدمة منطقية وهامة تفتح لنا الأبواب على مصراعيها، وتسلط الضوء على آية يلتبس على الكثير فهم جوهرها، ولما كانت هذه الآية هي محور ولبّ الموضوع، كان لابد على الكاتب أن يذكرها؛ حيث انه لو فُهمت من منظور السطحية والظاهرية؛ستؤدي إلى حدوث عواقب وخيمة وأخطاء فادحة وجسيمة، وهذه الآية في قوله تعالى: " إنّ الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم "{الرعد:11} . فيرى شكيب ارسلان أن هذه الآية يمكن لها أن تحول امة من الضعف إلى القوة، ومن الذل إلى العزة، ومن ثم فانه يفسر آيتين بهذه الآية، الأولى في قوله تعالى: " ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين "{المنافقون:8} والأخرى في قوله تعالى: " وكان حقا علينا نصر المؤمنين "{الروم:47} ، فلو كان الله تبارك وتعالى وعد المؤمنين بالعزة والمجد بمجرد الاسم دون الفعل والعمل؛ لكان يحق لنا أن نقول: أين عزة المؤمنين؟ مصداقا لقوله تعالى، ولو كان قد قال "حقا علينا نصر المؤمنين" بمعنى: أنْ ينصرهم بدون أدنى مزية فيهم سوى كونهم مسلمين؛ لكان ثمة محل للتعجب من هذا الخذلان بعد ذلك الوعد الصريح المبين بالنصر.

والحق أن الذي أكده شكيب ارسلان وأشار إليه يبدو من وجهة نظري حلا صائبا وإجابة مريحة بالنسبة للشكوك التي تراود العقول وتحير الأفهام، فالثلاث آيات آنفة الذكر مكملان ومتممان بضعهم لبعض، فلا يصح لنا أن نقول أن ننجح دون مذاكرة، أو نجلب المال ونحن نمكث في بيتنا طوال اليوم " فالسماء لا تمطر ذهبا ولا فضة " كما قال عمر الخطاب، لكن الأمر يتطلب منّا الجهد والعمل والبحث عن نقاط ضعفنا لتقوميها وتعزيزها، كما يجب أيضا أن نرجع إلى عبق التاريخ ونتمعن النظر في كيف ارتقينا وتقدمنا بالماضي؟ أو ننظر إلى الحضارات الأخرى وكيف تقدمت ونهضت؟ فكيف يعزنا الله ونحن نائمون؟ وكيف يبدل حالنا ونحن خاملون؟ وكيف ينصرنا ونحن لسنا قادرون؟ فغن العدل الإلهي يفرض هيمنته وسيطرته في شتى بقاع الأرض، ليست فقط البقعة التي تحتوى العرب والمسلمين، وإنما أي بقعة تعمل بإخلاص؛ من اجل أمتها وحضارتها، وهذا جليّ وواضح في يومنا هذان هناك أمم عديدة غير موحدة بالله ولا دينية لكنها عزيزة في نظر الأمم الأخرى أمثال أمريكا وأوربا واليابان، فأنى لهم أن صنعوا هذا المجد؟! هل بالنوم؟ أو بالكسل؟ بالطبع لا... فالإسلام ليس سحرا أو مصباح علاء الدين السحري الذي تدعكه، فيخرج لك من يقول: " شبيك لبيك " ويحقق لك كل أهدافك وأحلامك، فالإسلام ليس مجرد غاية فقط، ولكنه وسيلة أيضا تصل بها إلى غايتك ومرادك سواء على المستوى الدنيوي، أو على المستوى الديني. ويبقى السؤال، كيف نصل إلى العزة والمجد بالإسلام؟ وما الطريق المؤدي إلى ذلك؟ والجواب: أننا نصل إلى المجد والقوة عن طريق تطبيق نظرياته وشرائعه ونعلم أن الله أعطانا كل شيء لنصل به، والطريق هو طريق النور الذي رسمه القران في قوله تعالى" إنّ الله لا يغير ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم " فمن خلال هذه الآية نستشفي لنا طريقا نسير في ممراته؛ لنصل إلى ثمراته، لكن هذه الآية تبدو من وجهة نظري من أهم آي القران الكريم؛ لأنها إذا فهمت على المستوى الظاهري السطحي فإنها لا تغير من الحق شيئا، لكن إذا نظرنا في جوهرها وباطنها لاستشرفنا حقيقتها وأنها وُضعت لتكمل وتؤكد الآيتين السالفتين الذكر، فجوهر هذه الآية لا ينحصر فقط في كوننا نتغير من حيث الأخلاق أو المبادئ أو المثل فحسب، ولكن التغيير المادي أيضا، خاصة أننا نعيش اليوم في عالم أضحى لا يتحدث إلا بالعلم ولا يسير إلا بالعلم ولا يخطو أي خطوة إلا بالتجربة والاستدلال، وهذا ما طبّقته الدولة الإسلامية بالماضي؛ لأنهم قدّروا العلم حق قدره، وكانوا يعرفون جيدا انه السبيل للتخلص من الجمود والتخلف والركود، ولا سيما فترة الدولة العباسية، وتجدر بنا الإشارة في هذا الصدد إلى ذكر بعض العلماء الذين ساهموا مساهمة جليلة في نهضة الدولة الإسلامية، فكان نتيجة ذلك أن ظهر لنا أمثال كل من: " جابر بن حيان " في مجال الكيمياء، و " الحسن بن الهيثم " أستاذ البصريات الذي ألف خمسة وعشرين كتابا في الرياضيات، وأربعة وأربعين في مجال الطبيعة، و " البيروني " الذي يعد بحق من أعظم العقليات التي عرفها التاريخ، فقد كان أديبا متعمقا في الرياضيات والفلك والتاريخ، و " ابن سينا " في الطب، و " عباس بن فرناس " في الفلك، و " والخوارزمي وابن فضلان " في الجغرافيا والطيران، وأمثال " موسى بن نصير " أول من اخترع الدبابة، و " ابن خلدون " مؤسس علم الاجتماع وعلم الاقتصاد...وغيرهم ممن ساهموا في مجال العلم والتقدم؛ حتى أصبحت الأمم الأخرى تبدأ بما انتهى وتوصل إليه علمائنا(3).

ثم ما لبث شكيب ارسلان إلى أن عقد لنا مفارقة بين حال المسلمين وحال الإفرنج يدعم بها أفكاره المولعة بالمنطق السليم، والتي تغمرها البرهان والدليل. فيرى أن ثمة شيء أصاب الأمة الإسلامية؛ مما جعلته يفقد حيويته ونشاطه وعطّلت مسيرته نحو عطائه الحضاري، ودفعته إلى الركود والكسل والخمول، فيؤكد على أن المسلمين فقدوا الحماسة التي اتّصف بها آبائهم وأجدادهم السالفين،فضلا عن ذلك تخلّق بها غير المسلمين من الإفرنج، فكأنه يريد أن يؤكد على ما قاله الإمام محمد عبده " وجدت إسلاما ولم أجد مسلمين، ووجدت مسلمين ولم أجد إسلاما ". فيصف شكيب الأوربيين بالاستمثال والتضحية؛ من اجل مواصلة عطائهم الحضاري لبلادهم، ولا سيما بعدما فقد الألمان نحو مليوني قتيل، والفرنسيون مليونا وأربع مائة ألف قتيل بعد الحرب العامة، لكن ما أن تكاتفوا وتآزروا؛ حتى بنوا لأنفسهم القلاع والحصون التي تحميهم من أي خطر مستفحل وشر محدق.

ففي هذا الصدد يؤكد شكيب ارسلان على مبدأ فقده المسلمون وهو " التضحية " السبب نفسه الذي كان ركنا أساسيا في تأخرنا وتخلفنا بعد أن فقدناه، ولما كان العمل والكفاح هما المقابل الذي تدفعه نظير عزتك، كان لابد أن يشير إليه الكاتب، وان الفلاح لا يجني ثماره إلا من خلال جهده وعرقه. فالتضحية من وجهة نظر الكاتب تكمن في العمل والمثابرة؛ من اجل العطاء والانجاز الحضاري، وانّ الإسلام لن يعزنا إلا عندما نعزّه، وانّ الله لن ينصرنا إلا عندما ننصره، مصداقا لقوله تعالى: " إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم "{محمد:7}. والنصر لله لن يكون إلا بالعمل بأوامره والكفّ عن نواهيه، وان الدعاء لن يُقبل من الله إلا إذا كان مصحوبا بالعمل، يروى أن سيدنا عمر بن الخطاب- رضي الله عنه- رأى بعض الناس في المسجد بعد صلاة الجمعة فسألهم: من أنتم، قالوا: متوكلون، قال: بل أنتم متواكلون.. لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق، ويقول: اللهم ارزقني، وقد علم أن السماء لا تمطر ذهبا ولا فضة، إنما يرزق الله الناس بعضهم من بعض، أَما سمعتم قوله تعالى: " فإذا قُضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله"{الجمعة:10}، وعلاهم بدرته وأخرجهم من المسجد. فلننظر إلى هذا الفهم الراقي للإسلام فهو دين العمل والإنتاج، فكما أمر ربنا بالصلاة وجعلها عبادة، أمر بالسعي بعدها وجعله عبادة أيضا؛ ولذا فغن من الواجب علينا أن نسعى ونتوكل على الله ونأخذ بأسباب الرزق.

يرى شكيب ارسلان أن هناك أربع نتائج هامة لإعانة مصر لمجاهدي طرابلس وبرقة، أولا: الحفاظ على شرف وكرامة المسلمين، والتأكيد للأوربيين على أن الإسلام باقٍ وحي لم يمت، وثانيا: برغم كون المبلغ قليل إلا انه بثّ في روح المجاهدين بأنهم ليسوا بمفردهم وان إخوانهم واقفين بجانبهم يشدون من أزرهم، وثالثا: أن الإيمان بالحق وبالله هما السلاحان اللذان يردعان أي عدو، وأن كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله، رابعا:رغم تلك نفقات ايطاليا في الحرب الطرابلسية، والتي بلغت أضعاف نفقات المسلمين، إلا أنه لم تنقطع حتى تلك الساعة؛ نتيجة للإعانات القليلة والنفقات الضئيلة التي قام بها المسلمون في تلك الحرب.
ومهما يكن من أمر فان الأربع نتائج الذي طرحهم شكيب ارسلان وأشار إليهم، تؤكد جميعا على مبدأ " التعاون " ذلك المبدأ الذي لو طبّقه العرب والمسلمون لأصبحوا قوة لها مكانتها الخاصة التي يخشاها ويهابها أي عدو، ولا سيما أن العرب والمسلمين تجمعهم روح واحدة ودين واحد ولغة واحدة ودم واحد، بخلاف نظيرهم وغريمهم التقليدي الذي طبق هذا المبدأ وهو لا تجمعه لا دين واحد ولا لغة واحدة ولا دم واحد إلا أنه استطاع أن يطبق روح وجوهر الإسلام، والآيات القرآنية والأحاديث النبوية الشريفة الواردة في وجوب الاتحاد والجماعة عديدة لا يتسع المقام لذكرها كافّة، لكن لا بأس في ذكر شيء منها. حيث قال تعالى: " واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرّقوا "{آل عمران:103}، وقوله أيضا: " إنّ الذين فرّقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء "{الأنعام:159}، وقول النبي- عليه الصلاة والسلام: " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشدّ بعضهم بعضا "، وقوله أيضا عليه الصلاة والسلام: " كان الله في عون العبد مادام العبد في عون أخيه".

أهم أسباب تأخر المسلمين
يسوغ إلينا شكيب ارسلان ستة وجهات نظر عن أسباب تأخر المسلمين وتقهقرهم، وهم:

1- الجهل الذي أصاب المسلمين وجعلهم مساقين نحو التخلف والجمود، وانّ هذا الجهل أصبح آفة من آفات المجتمع الضارة التي تتطرق إلى العقول فتصيبه بالخمول؛ لان الجاهل لا يستطيع التفريق بين الصواب والخطأ، وبين الحق والباطل، وبين الخير والشر، فهو مدفوع إلى الرذيلة دائما، فضلا ع ذلك فإنها تجعل صاحبها ضحية في اغلب الأحيان، سواءٌ أكان ضحية من تجار الدين الذين لا يفقهوا شيئا عن الدين، ومن ثم فإن تجارة الدين تجارة رابحة في عصر الجهل والظلام، أو أكان ضحية لمنظومات فاسدة.
2- العلم الناقص الذي هو من وجهة نظر الكاتب اشدّ خطرا وأذرع سوءا من الجهل؛ لأنه يرى أن الجاهل يمكن أن يسوقه مرشد إلى الطريق المستقيم الحنيف القويم، أما العالم الناقص أو الشبه الناقص، فانه يتفلسف على العالم، وأظن أن شكيب ارسلان قد اخطأ في التفرقة بين الاثنين؛ حيث جعل العالم الناقص اشد خطرا وسوءا من الجاهل، لكني أري أن الاثنين في مرتبة واحدة من الخطر، فكلاهما مخطئ خطأ فادح بحق نفسه، فالجاهل مخطئ؛ لأنه لا يعرف طريقه ولا يرسم لنفسه النور الذي يهتدي به، ومن ثم فإنه عرضة للانسياق يمينا ويسارا دون أن يدري، أما العالم الناقص فإنّه ضحية للجمود والتزّمت؛ لأنه وإنْ عرِف فإنّ معرفته تكون مشوّشة وغير متّزنة قد تحول بينه وبين التقدم ومواكبة العصر. والخلاصة أنّ كلاهما قد أساء إلى النعمة التي فضلّه الله بها والتي ميزته عن باقي المخلوقات ألا وهي " نعمة العقل " التي يجب أن تُحترم وتُصان، تلبية لقوله تعالى: " ولقد كرّمنا بني أدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضّلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا "{الإسراء:70}.
3- ثمة وجهة نظر أخرى يراها الكاتب والتي أصابت المسلمين بالسوء، ودبّت في نفوسهم التأخر وهي " فساد الأخلاق " فالكاتب هنا يرى أن الأخلاق هي المعيار الأول للنجاح والإنتاج لأي امّة تسعى وتجتهد وتريد أن تحافظ على حضارتها وعراقتها ومكانتها بين سائر الأمم، فيرى أن المسلمين فقدوا الفضائل واقبلوا على الرذيلة والفحشاء، وأنّ لنا أن نتقدم بدون أخلاق؟! وهنا نجد سؤالا يطرح نفسه: لماذا تجعلون الأخلاق في المقام الأول في حين أن الغرب يفتقدون قيما وأخلاقا كثيرة برغم تقدّمهم هذا؟!!!. والجواب على ذلك: إن الأخلاق لا تقتصر فقط في كونها كامنة فقط على الصلاة والزكاة والعبادات والمعاملات فحسب، وإنما تضمر بمضمونها مفاهيم ودلائل أخرى منها، الإيمان بما تعمل، والإخلاص للعلم وتقديره..وغيره، لذلك فانّي أرى أن القيم والمبادئ هما جزءان من الإسلام، وأنّ ليس كل ذي خُلق فهو مسلم، لكن كل مسلم يجب أن يكون ذي خُلق؛ لان هذا الدين جاء مستوفيا لكل أمور الحياة، ولقد ركّز الله-جل شأنه- على هذا الضرب وجعله سبيلا للتقدم، وهذا يبدو جليا في قوله تعالى: " وأنّ هذا صراطي المستقيم فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله "{الأنعام:153}، ويتضح من هذه الآية أنّ الصراط المستقيم ليس فقط في الصلاة والتضرع والعبادة، وإنما كذلك بالعمل بأوامره التي أوجبها الله على عباده، ومنها الأخلاق في المعاملة، وليس فقط معاملة الناس، ولكن معاملتك مع دينك ووطنك وبالخصوص علمك؛ لأنه لا امة بدون علم وكذلك لا علم بدون تقدير له، وبهذا تكون الأخلاق هي السلاح الذي تحصل به على الفلاح في تكوين الثقافات والحضارات والارتقاء، ولكن " لا أخلاق بدون علم وعمل، ولا علم وعمل بدون أخلاق " فكلاهما وجهان لعملة واحدة وهي "عملة الحضارة".

4- يرى الأمير شكيب ارسلان أن السبب الرابع في تأخر المسلمين هو غياب دور عالم الدين الذي ضاعت مكانته بين الأمراء، فيرى أن عالم الدين لابد أن تتوفر لديه مقومات وملكات تجعله يؤدي دوره الحقيقي الذي فقده، ليس على المستوى السياسي فحسب- من وجهة نظر الكاتب- وإنما دوره على المستوى الإرشادي العلمي الصحيح في بناء الحضارة وتكوين الثقافات، ومن ثم فلابد أن يكون لعالم الدين دور في المجتمع يبحث عن المشكلات التي تهدد المجتمع ويسعى إلى علاجها وتصحيح أفكارها المشوشة والتي تعرقل الطريق الممهد لاستخلاص القيم الدافعة لروح الحضارة وتقدمها(4).
5- ثمة إشكالية أخرى يراها شكيب ارسلان وهي " الجبن والهلع " الذي دبّ بقوة في نفوس المسلمين وجعلهم يخشون محاربة أي عدو طامع، ثم يفارق بين حالنا اليوم وبين حال آبائنا بالأمس، فيرى أن الأمس كان المسلمون يندفعون بقوة في المعركة والغزوات دون مهابة، والإيمان يزداد في قلوبهم حتى أنهم كانوا يحبون الموت كما يحب العدو الحياة، ولذلك فهو يؤكد على أن هذه كانت روح وقوة المسلمين بالماضي بخلاف ما نحن عليه اليوم من ضعف وهلع.

6- التوقف عند عالم الأشياء، هذه هي أعظم إشكالية تواجه المجتمع الإسلامي؛ لان هذه المشكلة تجعل أصحابها يقعون في المنحدر، ولا سيما انك تجد أشخاصا كثيرين يتسمون بالجمود والجحود، ثم يعرف في هذا المطلب الجامد، فيقول: إن الجامد هو الذي يأبى أن يجعل أمته مثل الغرب من تقدم وعلم وصناعة، فيعيشهم على هامش الماضي، واني لأرى أن هذا الضرب من أنواع التطرف هو الأخطر؛ حيث إنهم لا يستطيعون التفرقة بين عصر النبي وحياته وكثيرا مل يلتبس على البعض فهم هذه الفجوة الواسعة، ولو أنهم فهموا القران والإسلام فما جيدا لتأكدوا أن التغيير والتقدم هو سنة الحياة، وان الجمود إنما هو من صفات الحيوان؛ لأنه غير مميز بنعمة الخلق التي مقتصرة على الإنسان وحده، ولذلك قال الحق جل شأنه- مناديا إلى التغيير والتقدم قوله تعالى:"كل يوم هو في شأن" {الرحمن:29}؛ ليبرهن لنا على أن هذا التغيير إنما هو من قبيل سنة الحياة وفطرتها التي جُبلت عليها. فلماذا تريدون الإسلام ينصهر ويذوب في بوتقة الماضي وهامشه؟!.

لماذا لا نسّمي اليابان وأوربا رجعة بتديّنهما؟
يعرض في هذا الطلب شكيب ارسلان عن التطور السريع والملحوظ الذي حلّ ببلاد اليابان وأوربا، ولا سيما الحقبة الزمنية التي كان عليها إمبراطورها هو كاهنها الأعظم- والعظمة لله وحده- بغض النظر عن المعتقدات الباطلة والخرافات المزيفة التي لا يقبلها لا عقل ولا قلب مؤمن. فلماذا لا نسمي اليابان وأوربا رجعية دينية أو تقهقر؟.
ثم يلمح على قضية أخرى وهي قضية أن إمبراطور الدولة كان يتدين بطريقة إن دلت على شيء فإنما تدل على الجهل والخرافة، في حين أن دولته متقدمة ، فإذا كانت هذه رجعية " فيا حبذا الرجعية" بهذه الطريقة- من وجهة نظر الكاتب- فأهلا بالرجعية الدينية في مقابل التقدم والسيادة والانجاز الحضاري.
ومن ناحية أخرى ينوّه على دور إحياء اللغة؛ من اجل إحياء أي أمة تسعى إلى التقدم مجددا، فيعرض أنموذجا لهذه الفكرة وهم الشبان اليهود المثقفون الذين يجاهدون في سبيل إحياء وإعادة الأنفاس في لغتهم العبرية التي كانت منسية حاملين شعار " يجب أن تحيا لغتنا؛ كي نحيا ". أما ما يخص الرسالة القصيرة التي قالها " وايز مان " رئيس الجمعية الصهيونية حديثا، فأراد بها أن تذكرهم الإنسانية بالعرفان والجميل، وهي: " إن فلسطين الحديثة تتكلم اليوم بأجمعها بلغة الأنبياء القديمة، فـ "وايز مان " بهذه الجملة قد رسّخ فكرة أن اللغة هي احد مقومات ودعائم الأمة التي تسعى جاهدة في سبيل التقدم، وانه قد جعل من فلسطين العربية الإسلامية يهودية عبرانية بمجرد نشره لغته على ألْسنة الجميع في فلسطين، وفضلا عن ذلك فهم ليسوا أهلا بأن تكون فلسطين لهم؛ لأنهم لم يستطيعوا أن يتسللوا بلغتهم العربية في عقول الصهاينة اليهود، وهذا ما أشار إليه " ابن خلدون " في علم الاجتماع حيث قال: " التفكير لغة غير منطوقة ".
وفي الحقيقة شكيب ارسلان كان موفّقا لكنه " نصف توفيق" فلماذا؟!. إن شكيب في كأنه يقول على أن الإسلام لم يستوفي جميع الأمور من دين ودنيا وعلم وتقدم وحضارة، فلو كان الإسلام هكذا ما كان استطاع أن يحكم لأكثر من نصف الكرة الأرضية في عصر الدولة العباسية، ولا سيما عهد "هارون الرشيد" ولو أن الإسلام جامدٌ ما كان تقدم به الأمم الماضية في الدولة الإسلامية، ولو كان ضعيفا ما كان فتح به المسلمون البلاد وصالوا وجالوا في شتى بقاع الأرض، لكن كل ما في الأمر هو التأني ومعرفة كيف ننهض به ونحقق غايتنا ومرادنا؟ وماذا يريد منّا الإسلام في هذا الصدد؟(5).

الجامدون في الإسلام، وحثّ القرآن على العلم
يرى شكيب ارسلان في هذا الإطار، أن المسلم الجامد ليس بأقل خطرا من الجاحد؛ لأن الجاحد الذي يجحد على نعم الله الجمّة، لكنه في نفس الوقت يدعو إلى العلم والتقدم والتطور، بخلاف الجاحد الذي بتعصبه الأعمى وجموده المتجهم يمكن له أن يهدم كل ما بناه الإسلام، فهو بجهله المستعصي لا يحبّذ والتقدم ويتوقف عند عالم الأشياء، ويعيش على ما عاش عليه أسلافنا بالماضي، من ركوب الجمال والحرب بالسيف..وغير، لكن العلوم الطبيعية في نظره من كيمياء ورياضيات وفيزيقا، إنما هي علوم بدعية وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، بل وعلاوة على ذلك فهي من صناعات الكفار المشركين التي لا يجب أن نسترسل العلم منهم، ولا نستورد المعدات والآلات منهم؛ لأنها حصيلة جهدهم وثمرة علمهم(6).
وإذا كان شكيب ارسلان قد فرق بين الجامد والجاحد في الشكل، فإني أعاتبه عتابا رقيقا؛ لأن الجامد والجاحد في المضمون كلاهما ينكران نعم الله الوفيرة، فالجاحد يجحد على الله بعلمه وهو يعرف انه جاحد على نعم الله، أما الجامد فيجحد بجهله وتعصبه الأعمى الذي يدل على سوء فهمه للإسلام الصحيح الذي استطاع أن يجعل من الدين وما تشمله من عبادات ومعاملات- والحياة " وجهان لعملة واحدة "، ولا سيما الفترة الحالية التي طغى عليها العلم والتكنولوجيا التي سهلت الدعوة إلى الله والى الإسلام، بخلاف على ما كانت عليه بالماضي من تعسر وتعسف. فالحياة لا تسير في دائرة كما يظن هؤلاء المتعجرفون، لكنها تسير في خط مستقيم، وهذه هي سنتها التي فُطرت عليها، والدليل على ذلك أن كل عصر ليس بأشبه من سالفه فعصر غير مختلف عن عصر نوح، وعصر إبراهيم مختلف عن عصر موسى، وعصر عيسى مختلف عن عصر محمد، وإلا ما كان للحق تبارك وتعالى يقول: " كل يوم هو في شأن "{الرحمن:29}، ثم أين هؤلاء من الآية الكريمة التي قدّر فيها الله علماء الطبيعة الجبال والماء التي في سورة فاطر بقوله تعالى: " ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود* ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشى الله من عباده العلماء" {فاطر:27-28}، فأين هؤلاء من هذه الآية الكريمة التي دحض بها الله-جل شانه- شبهاتهم وفهمهم الخاطئ لفلسفة الإسلام، والتي هي تدعو إلى العلوم الطبيعية الدنيوية خاصة؟، ولم يكتف الأمر على ذلك فحسب، بل تتطرق إلى أن جعل أكثر الناس خشية من الله هم الذين يكتشفون أسراره ويستشرفون ملكه وملكوته، وعلماء العقيدة يصنفون المؤمنين إلى أربعة طبقات حسب التفاوت في درجات إيمانهم بالله تعالى، ومن بين هؤلاء الأصناف الأربعة تتصدر ذروتها الطبقة الرابعة، وهم طبقة أهل المشاهدات والمكاشفات، ونسبتهم إلى أصحاب البراهين العقلية الدامغة، كنسبة أصحاب البراهين القطعية إلى عوام الخلق، ومراتب هذه الطبقة لا نهاية لهم؛ لأن عالم المكاشفات لا نهاية له؛ حيث إنه عبارة عن سفر العقل في مقامات الجلال الإلهي، ومدارج عظمته، ومنازل كبريائه وقدسيته، وهي مقامات لا نهاية لها(7)، فلو أن الإسلام جامدٌ ما كان لا يزال حيا باقيا عزيزا شامخا حتى يومنا هذا.
والحديث النبوي الشريف الذي ينص على " أنت أعلم بشئون دنياكم " قد فتح لنا أبواب الحياة على مصراعيها؛ كي نعمل فنعلم، ونستشفي ما ينقص حياتنا ونزوده وما يحتاجه وندعمه، وألا نتخلف ونتقهقر للوراء، وألا يتراجع الدين عن الحياة بل يسيران في خط متوازي، أما هؤلاء الجامدون المتوقفون عند عالم الأشياء يريدون أن تسير الحياة في مسارٍ التقدم، والدين في مسارٍ الجمود لا يحرك ساكنا،وهذا بالطبع يتنافى مع تعاليم الإسلام الذي أمرنا بالسعي نحو التقدم والتحضر والعلم والرقي، وان نبذل أقصى جهدنا وطاقتنا؛ من اجل راحة البشر والمسلمين، ومن المواقف على ذلك عديدة ليس هنا محلٌ بسطها، لكن كل ما نستطيع قوله هو أن كل القيم الجمالية في الإسلام تدعو إلى ذلك وتحبذ التطور؛ من اجل حياة حميدة، وآخرة سعيدة، لكن إذا انفصل الدين عن الحياة لسبقت الحياة الدين ونسي الناس دينهم وربهم وعقيدتهم،، أما فلسفة الإسلام فإنها قد تشرّبت بكافة العلوم البشرية ليسعى جاهدا نحو حياة أفضل رخاء ونعيم وسعادة، وأن الأمم لا تُبنى حضارتها بالجمود والسكون، وقد فعل ذلك كبار الفاتحين، وكان أولهم " أبو موسى بن نصير " الذي اخترع أول دبابة في البشرية ليحطم بها جيوش الأعداء، فلماذا لم يتوقف عن عصر النبي- عليه الصلاة والسلام- ويقول: إن الدبابات لم تكن في عصره وان الصاحبة ومن تبعهم كانوا يحاربون الحصان والسيف، فأنا أفعل ذلك؟. فبعد كل هذا، لماذا يريد هؤلاء المتشنجين المتطرفون أن نكون تحت رحمة الغرب_غصبا أو رضا_ بعلمهم؟ وماذا إذا شُنت حرب بيننا وبينهم؟ هل سنحارب بالحصان والسيف ضد الصواريخ والطيارات والمدافع؟ في الحقيقة كلها أسئلة تتطلب الإجابة من هؤلاء!!.

فماذا يكون الإسلام؟... إن الإسلام هو الدين الذي استطاع أنْ يضفي بتعاليمه وشرائعه أن يسبغ ويربط ويدمج بين الدين والعمل، في قوله تعالى: " وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنين" {التوبة:105}، ويدمج بين الدين ونعم الحياة، في قوله تعالى: " يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين "{الأعراف:31}، ويدمج بين الدين والعلم، في قوله تعالى: " ويرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات "{المجادلة:6}، وقوله أيضا: " وقل ربي زدني علما "{طه:114}، ويدمج بين الدين والدنيا، في قوله تعالى: " ولا تنس نصيبك من الدنيا "{القصص:77}،ويدمج بين الدين والتأمل، في قوله تعالى: " أولم يرو إلى الطير فوقهم صافات ويقبضن ما يمسكهن إلا الرحمن" {الملك:19}، ويدمج بين الدين والفلسفة والفكر، في قوله تعالى: " قل انظروا ماذا في السماوات والأرض " {يونس:101}، ويدمج بين الدين والفن، في قوله- عليه الصلاة والسلام: " هؤلاء النفر أشد على قريش من نضح النبل "(8)، بل ودعا إلى إعمال العقل في قوله تعالى: " إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل لآيات لأولي الألباب * الذين يذكرون الله قياما وقعودا وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك "{آل عمرا:190-191}.

واني لأرى أن الإسلام لو لم يكن قد استوفى كل شيء يخص الدنيا والآخرة، ما كان لمحمد- عليه الصلاة والسلام- أن يقول في حجة الوداع الآية التي ختم بها رسالته في سورة المائدة في قوله تعالى: " اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا "{المائدة:30}، وأن هذا الجمود المتجهم وما انطوى عليه من تصرفات مشينة، وأفكار متعصبة لا يمتّ بأي صلة إلى الدين الإسلامي، وان الإسلام بريء منه براءة الذئب من دم ابن يعقوب، فالجامدون لا يعملون لصالح الإسلام ولا لصالح المسلمين- وان كان بغير قصد- بل يعملون؛ من اجل شماتة أعداء الإسلام فيه حتى يقولوا " انتم دين التخلف والجمود والرجعية " في حين أن كثيرا من المستشرقين قد أنصفوا القول في حق الإسلام وفي حق محمد، فكل القيم الجمالية في الإسلام قد تجسدت في قلب ناضج وعقل ذي نور ساطع ملأ الحياة بالخير والإنتاج.

أمّا ما يخص مسألة حثّ القرآن على العلم، فأظنّ انه كان الرد القاسي على هؤلاء الجامدين المتطرفين، وان فلسفة القران في هذا الإطار قد جاءت مبرهنة ومبيّنة على أن أي امة لن تستطيع النهوض إلا بالبصيرة الزاخرة بالعلم الممتلئة بالفهم والفكر، والدليل على ذلك أن أول كلمة تلقاها محمد- عليه الصلاة والسلام- في رسالته وهي أول كلمة نزلت في القران في أول سورة نزلت في كلمة " اقرأ " وحين رد محمد على جبريل " ما أنا بقارئ " أصرّ جبريل على أن يعلمه القراءة؛ كي يتسنّى له النهوض بأمته ويتأتّى له نشر هذا الفكر المنير . فماذا لو لم يكن محمد يقرأ القرآن ويتعلم شرائعه؟ هل كان سيقدر على نشر هذا الدين الذي ظل وسيظل شامخا كالجبل الصامد؟! بالطبع لا.. فان قطبي الرحى بالنسبة للإسلام أو أي فكر آخر مبني على العلم المنير، وان ضرورة العلم التي أوجبها الإسلام كانت آية ودليلا على انه واجب وركن أساسي لتقدم ونهضة الأمة الإسلامية، وان الأمة التي بدون علم كالصفر على الشمال لا قيمة لها ولا مكانة، وهذا ما دعا إليه القران، في قوله تعالى: " ويرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات "{المجادلة:11}، وفرضها في السنة، في قوله- عليه الصلاة والسلام: " طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة "، بل وجُعل فضل العالم الذي يسهر على علمه ويسعى لطلبه، أفضل ممن يقوم ويتضرع لله ليلا ونهارا دون سعي إلى العلم، بل وتكريما للعالم ومكافأة له جُعلوا ورثة الأنبياء، في قول النبي- عليه الصلاة والسلام: " ...وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب، وإنّ العلماء ورثة الأنبياء، وإنّ الأنبياء لم يورّثوا دينارا ولا درهما، وإنما ورّثوا العلم، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر "رواه الترمذي وأبو داود. والآيات القرآنية والأحاديث في هذا الطلب عديدة لا يتسع المقام لذكرها، ومن ثم فان الإسلام لا يقتصر فقط على انك تتعلم فحسب، بل تنشر ما تتعلمه وتضعه بين أيدي الناس ومن لم يفعل ذلك فانه آثم، لقوله- عليه الصلاة والسلام: "من سُئل عن علمٍ فكتمه، أ ُلجم يوم القيامة بلجام من نار" رواه أبو داود والترمذي
لكن هؤلاء المتزمتين المتشددين يريدون بأن يطفئوا نور الله الذي بثّه في أرضه، فيزعمون أن الحديث المتلقي عن النبي- صلى الله عليه وسلم والذي ينص على: " من أحدث في أمرنا شيء فهو رد " فيدّعي هؤلاء أن من احدث شيء على عصره ولم يكن موجدا وقتها –عصر النبي- فهو مردود ومرفوض ومذموم، لكنّ جوهر هذا الحديث يتنافى مع إدّعائهم الباطل؛ حيث إن المقصود من هذا الحديث هو التغيير في الدين وليس الحياة، أما هؤلاء المتعجرفون الذين يتأوّلون هذا الحديث ويعتبرون أن البدع في الحياة كما لو كانت في الدين، فهذا هو الخطأ طبعا وشرعا؛ لأننا لو اعتبرنا أن هذا صواب؛ فإننا سنقف عند عالم الأشياء لا نستطيع أن نستمريء من الحياة شيئا، وأن ما لم يكن موجودا في عصر النبي من تلفاز وهاتف ومذياع... وغيره، فهو حرام وغير مقبول؛ لأنهم اعتقدوا أن العلم في الإسلام قد اقتصر فقط على شق الدين فحسب، وان العلم في الإسلام هو العلم الديني فقط، وليس العلم الدنيوي أو المادي(9).

ثم وجّه الأمير شكيب ارسلان كلمة إلى طلاب النهضة القومية لا الدينية؛ ليوضح فيها أن النهضة لابد للنفوس أن تسير بها في طريق العلم، فالنهضة في الأساس والأصل دينية، أما إن بعدنا عن القرآن واتخذنا قومية كما فعلت أوربا، فإنّ هذا يكون مدخلاً إلى الإلحاد والإباحة، وإتباع الشهوات. فلابد لنا من تربية علمية سائرة جنبا إلى جنب مع التربية الدينية، ومن يظن أنّ نهضة أوربا جرت دون تربية دينية فهو مخطئ.

أسباب انحطاط المسلمين في العصر الأخير
يرى الأمير شكيب ارسلان أن سببا آخر جعل من المسلمين الذلة والهوان، وهو السبب الذي جعلهم لا يقدرون، بل لا يفكرون من الأساس على أن يضارعوا الدول الأوربية وهو " انعدام الثقة " داخل نفوس المسلمين، والذي خلق منهم ضعفاء الإيمان والعزيمة وعاجزين عن استخدام العقل الذي هو مناط الفكر؛ من اجل التقدم والارتقاء والاعتلاء، ولا سيما في الآونة الأخيرة التي جعلت من الغرب هالة من التقدم العلمي والثقافي، وكأنّ الشعب الغربي هو الإنسان الوحيد القادر على التفكير والنهوض بعقله وعلمه ليسود العالم والبشرية، على عكس الإنسان العربي الذي يشبه القرد لكن الفرق بينه وبين القرد هي "العصا" التي كان يضرب بها الحكام قديما الأمثال للتفرقة بين الإنسان والحيوان؛ لأن الإنسان إذا توقف عن التفكير أصبح حيوانا في صورة إنسان، ومن ثم فقد طرح ذلك شكيب ارسلان فكرته المقننة الموثّقة على دراسات نفسية، وسيكولوجية للإنسان العربي.

بل وفضلا عن ذلك ازداد الأمر سوءا وخسّةً، ففقدان الثقة عند المسلمين لم تقتصر فقط في كونها انعدام على المستوى العقلي أو الفكري، لكن على المستوى العسكري الحربي كذلك؛ لأن هذا الانعدام أودى بالمسلمين في النهاية إلى أن أوقعه في " وحلة الضعف والكبوة " وظن المسلم العربي انه إذا خاض معركة أمام غريمه الغربي؛ فانه لا محالة سيكون النصر حليف الإفرنج ولو طال زمن الكفاح ومدة المبارزة، في حين أن مسلمي الحقب الزمنية القديمة كان يحب الموت كما يحب العدو الحياة، فكان يقبل على الحرب ويندفع على خصمه بأقصى قوته واشد عزيمة تمكنه من النصر، فكان شعارهم إما النصر وإما الشهادة؛ حتى قال الإمام علي- كرّم الله وجهه: " فكنت أنا ونفسه عليه " تأكيدا على مبدأ العزيمة التي طغت على عقولهم، واستقرت في قلوبهم، بخلاف العزيمة التي سُلبت اليوم من قلوب المسلمين وأصابهم بالذعر والخوف وسيطر عليهم "هاجس الإفرنج والغرب". ولأن كل نتيجة لابد أن يسبقها مقدمات، وكل سبب له مسبب حسب قانون "السببية" إذن فكل علة أو مرض تصيب آفاتها المجتمع فتظهر أعراضه عليه، كان هو السبب الرئيسي الذي جعل شكيب يفكر في هذه الحادثة أو المصيبة الفاجعة، فيرى أن الأسباب التي تضافرت وجعلت المسلمين مكبلين الأيادي، منزوعين العزيمة والإيمان، فاقدين الثقة بأنفسهم؛ هو بثّ هذه الفكرة وترويجها في نفوس وعقول المسلمين، ويعززونها في قلوبهم، فانطبق على هؤلاء الناعقين الآية الكريمة، في قوله تعالى: "في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضا"{البقرة:10}.

واني لأرى أن هذا المرض الذي أصاب المسلمين لم يكن وليد اللحظة أو حادث هذه الساعة، ولكنها تراكمات ازدادت في نفوسهم ثم انفجرت في اللحظة التي عندها بدأ الإفرنج يتنعمون بعلمهم، ويسودون بقواتهم، ولا سيما أن المسلم كان يعيش أسعد أوقات لحظاته في أزمان كثيرة؛ لأنه كان يمتلك ما لم يمتلكه الغربي، ويفكر فيما لا يفكر فيه الإفرنجي، وهذا هو السبب الذي جعلني أعاتبهم عتابا رقيقا؛ لأن الإنسان الذي يفقد الثقة بنفسه فإنه إنسان ضعيف الملكات نادر المهارات، إنسان ليس له تاريخ أو حضارة، وهذا لم يكن عند العربي المسلم. فالمسلمون كانوا أصحاب حضارة يشهد لها الغرب حتى الآن؛ لأنهم يعلمون أن حضارتهم التي يفتخرون بها كان سببها العرب وعلمهم وحضارتهم، فبعد أن سُلب من المسلمين حضارتهم في القرون الوسطى ظن المسلم أن الغرب قد ركبوا الحاضر وتملكوا المستقبل، فلا مناص إذن من أن نكون ضعفاء الحيلة نسترسل منهم علمهم ونستلهم فكرهم لا لنطور منه، بل ليعاوننا في مواكبة العصر، ومسايرة الحياة، فظن العربي انه لن يقدر على مضارعته في الرياضيات؛ لأن فيهم إسحاق نيوتن، وظن انه لن يقدر على محاكاته في الفيزياء؛ لأن فيهم ألبرت أينشتين، فسوّلت له نفسه انه لن ينتصر عليه ولا يستطيع أنْ يضاهيه؛ لأن فيهم فلان، وفلان، وفلان. فالثقة بالنفس هي الضمان الوحيد لبقائك عزيزا قويا، وجعل خصمك يتوجس خيفة منك، يخشى من الاستهزاء بك، فأين سيرتنا الأولى التي كان يحلف بها كل غربي وغير غربي، التي جعلت منهم أعزاء أقوياء في نفس كل عادٍ، حتى ولو كان يُضمر بداخله خوفا وفزعا، فانه كان يظهر البسالة والشجاعة والإقدام امام خصمه؟!.
هكذا إذا توجّهت الهمم
ويرى أرسلان أن المسلمين إذا تعلموا العلوم العصرية استطاعوا أن يعملوا الأعمال العمرانية التي يقوم بها الغرب، وهناك على ذلك أمثلة عديدة على قدرة المسلمين لنهوض العمران؛ ولقد ذكر ارسلان الخط الحديدي الحجازي، والغاية من إنشاء هذا الخط، وصداه ومداه، وتعطيل كل من فرنسا وانجلترا لهذا الخط. كما أشاد بادوار مصرية جليلة مثل "محمد طلعت حرب" الذي كان امة وحدة في الجولات، الاقتصادية وقد أسس بنك مصر ووسع نشاطه ليستوفي كثيرا من المشاريع الاقتصادية والحيوية بدرجة عالية من الجودة والإتقان. كذلك احمد حلمي باشا، وعبد الحميد شومان كانا لهما دورا بالغا في منافسة الاقتصاد الأوروبي، ثم عرج الكاتب ليدعو الأمة إلى أهمية الإصلاحات المعنوية والمادية في البلاد العربية والإسلامية؛ لأن الشريعة لا تعرف حسبا ولا نسبا، وإنما أكرم الناس عند الله اتقاهم، وقد طبّق هذا الكلام على بلاد الحجاز والشعب السعودي.
يرى أرسلان أن المسلمين لن يتمكنوا من النهوض إلا بالأشياء التي نهض بها غيرهم، وقد طرح أمثلة على ذلك، ومنها: الجهاد بالمال والنفس والعلم. يقول: ولن يتمَّ للمسلمين- ولا لأي امة من الأمم- نجاح أو رقي إلا بالتضحية، فغن هذا الأمر قد أمر الله به مرارا وتكرارا في كتابه العزيز. والحقيقة أن هذه الأمور فروع لا أصول، بل هي نتائج لا مقدمات، فإن التضحية أو الجهاد بالمال والنفس والعلم الأعلى الذي يهتف بالعلوم كلها، فإذا تعلمت الأمة هذا العلم وعملت به، دانت لها سائر العلوم والمعارف، ودَنَتْ منها جميع القطوف والجفاني.
وفي نهاية المطاف يعرض أمامنا شكيب ارسلان شخصية عظيمة استطاعت أن تحول مصر من القاع إلى القمة، ومن الضعف إلى القوة، ومن الذل إلى العزة والكرامة، استطاع هذا الشخص أن يقيم دولة ليس من الصفر بل ممّا هو اقل من الصفر؛ فقد أنقذ العالم من براثن الجاهلية إلى نور العلم، وكما نعلم "محمد علي" الذي كان أميّا لكنه بعث مصر من العدم إلى الوجود في زمن وجيز جدا، فكان حاله يشبه النبي- صلى الله عليه وسلم، لكن محمد كما وصف الله- جل شأنه. فيقول: "علّمه شديد القوى"{النجم:5}. فلننفض غبار اليأس والتخلف، ونتقدم إلى الأمام والإنتاج الحضاري، ولنعلم أننا بعون الله ما دمنا نعمل ابتغاءً لمرضاته. يقول تعالى: " والذين جاهدوا فينا لنهديهم سُبلنا وإن الله لمع المحسنين "{العنكبوت:69}.
مدنية الإسلام
أما ما يخص مدنية الإسلام، فلقد دحض الأمير شكيب ارسلان شبهتها وافرض لها حديثا خاصا بها في كتابه، ورد على من زعم وادّعى بأن الإسلام لم يقوى على تأسيس مدنية خاصة، ثم اقتاد الاستدلال على ذلك بهيئته وحالته الحاضرة. فقال: " إن هذا الكلام خرافة يموه بها بعض أعداء الإسلام من الخارج وبعض جاحديه من الداخل، ولكل منهم هدفهم، فالأعداء يريدون أن يصبغوا المسلمين بالصبغة الأوربية أما الجاحدون فيريدون أن يزرعوا في العالم الإسلامي بذور الإلحاد ".

وتعليقا على ما قاله شكيب ارسلان في هذا الصدد، فإنه قبل ذكر أي شيء ينبغي علينا أولا أن نجيب على شيء لابد لنا أن نعرف، ما مفهوم المدنية؟ والفرق بينه وبين الدولة الدينية؟

فكلمة مدنية تعني: هي تلك المرحلة السامية من مراحل التطور الإنساني ومظاهر الترف، والرقي العلمي والحضاري والفني والأدبي والثقافي والاجتماعي، فالمدنية هي الحضارة واتساع العمران(10) فهي الجانب المادي لأي حضارة من الحضارات، فإنْ تميزت واتسمت بطابع ثقافي معين أضيف إليه وامتزجت به وصارت "مدنية خاصة" مستقلة، وإنْ تباينت عنه ولم تتميز بطابع ثقافي خاص صارت "مدنية عامة". فالثقافة هي جملة العلوم والمعرف والفنون التي يطلب الحذق(11). فإذا عرفنا مفهوم الثقافة فيمكن القول بأنها تتفاوت من بيئة لبيئة أخرى، ومن شخص إلى آخر، ومن أمّة إلى أمّة مغايرة لها بحسب تفاوت الإمكانات البشرية، والمهارات العقلية والعلمية والنفسية والاجتماعية...الخ، وقبل ذلك تتفاوت بحسب اختلاف الوجهة واعتناق المذهب وتعدد الأديان.

ومفهوم الدولة المدنية يتبلور في انه إذا كانت المرجعية في الدولة الدينية لأمور خارج نطاق البشر وفوق عقولهم، فان المرجعية في الدولة المدنية هي لإرادة الناس وفكرهم، ذلك أن الدولة المدنية تقوم على مبدأ أساس مقتضاه أن إرادة الناس هي مصدر كل السلطات ومرجعيتها النهائية. والدولة المدنية التي تقوم على أساس القانون وتبنى النظام الديمقراطي هي دولة تقوم أيضا على أساس مبدأ المواطنة، بيدٍ أن مواطنيها جميعا " مهما اختلفت أصولهم العرقية أو معتقداتهم الفكرية أو مذاهبهم الدينية " وهم لدى القانون سواء في حقوقهم المدنية والسياسية.
ولكن نجد في هذا الصدد سؤالا يطرح نفسه. وهو: أنّى للدولة الإسلامية أن تكون دولة علمانية في حين أن مرجعيتهم دينية؟ فكيف للمسلمين أن تكون بلدهم الدينية مدينة علمانية؟

والجواب على هذا السؤال واضح ومبين، وليس كما يظن البعض أن المدنية هي العلمانية، ولا سيما أن الدولة العلمانية ضد الدولة الدينية، وضد أي تأثير للدين على الدولة. فالدولة العلمانية والدولة المدنية لا يتطابقان ولا يتعانقان، ذلك أن الدولة العلمانية في جوهرها مناهضة للدين، في حين أن الدولة المدنية تقر وتناشد بحرية الأديان والعقائد وتحترم اختلاف الناس في معتقداتهم، ولا تفرق بين المواطنين ( أي تفرقه على أساس الدين ) وبالتالي فان كلمة مدنية لا تعنى أبدا أن الدولة ستصير علمانيا، فمن الممكن أن تكون الدولة مدنية ذات مرجعية إسلامية. وهذه المدنية تجلت وازدهرت في الدولة الإسلامية، وفي القرآن الكريم أيضا. في قوله تعالى: " فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"{الكهف:29}، وفى قوله أيضا: " لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي"{البقرة:256}، وقوله أيضا: " ولو شاء ربك لأمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين"{يونس:99}، وقوله أيضا: "وآمرهم شورى بينهم"{الشورى:88}
أما الدولة الدينية، فهي تلك الدولة التي يقول الحاكم فيها يأمر وينهى باسم الدين، ولا تحبذ العلم ولا تدعو إلي الآلة أو التقدم، فهي تلك الدولة التي يحكمها رجال الدين مثلما قدمته الكنيسة الكاثوليكية- بخلاف الكنيسة اليوم التي تدعو إلي العلم وتناشد إليه بأعلى صوت- وساد أوروبا خلال العصور الوسطى في واحدة من أبشع صور الفاشية الدينية، بمعنى أن ( حكم رجال الدين ) لم يكن هو صلب القضية ولا مشكلة الدولة الدينية وسبب ديكتاتوريتها، فالجوهر الحقيقي يكمن في استخدام الدين لممارسة اقمع والتنكيل لكل من يخالف الحاكم، الذي هو في الدولة الدينية يحكم وفقه إرادة الله تارة، وبما لا يخالف شرع الله تارة أخرى، فيتحول كل من يعارضه إلى خارج عن طاعة الله؛ ونتيجة لما فعلته الكنيسة قامت الثورة الفرنسية بعد ذلك لإنهاء الصراع الذي قد نشب بين رجال الدين وبين العلماء؛ من اجل إنهاء صراع الدولة الدينية في أوروبا. ولعل من اخطر ما في الدولة الدينية، أنها تجعل الحاكم يتكلم باسم الدين وباسم الله، ومن ثم لا تتجاوز مراجعته ولا مساءلته، وبهذا تفتح هذه الدولة الباب واسعا للاستبداد باسم الدين، وهو أسوء أنواع الاستبداد وقد لا يضاهيه إلا ما نعانيه.
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فقد كرس الأمير شكيب ارسلان أفكاره في هذا المبحث الخاص بمدنية الإسلام على ثلاثة موضوعات، وضعها نصب أعيننا وبين أيدينا؛ لنكون على بصيرة انه لا أمه تستطيع المناهضة إلا من خلالها، ولا سيما الأمة الإسلامية وهذه الموضوعات الثلاث هم بالترتيب كما وضعهم شكيب ارسلان (الأخلاق_ الشريعة_ الحضارة ).
أما بشأن الأخلاق فقد أشار إليه شكيب ارسلان: " ونحن لا ننكر تأثير الدين في المدنية، ولكننــا لا نسلم بأنه يصح أن يكون لها ميزانا؛ وذلك لأنه كثيرا ما يضعف تأثير الدين في الأمم فتفلت من قيوده وتفسد أخلاقها، وتنهار أوضاعها فيكون فساد الأخلاق هو علة السقوط ".

وقبل أن نعلق على هذا الإطار نجد أنفسنا محصورين بين عدة أسئلة. وهى: هل للأخلاق دور في بناء الحضارات أم لا؟ وهل الأخلاق جزء من الإسلام أم أن الإسلام هو جزء من الأخلاق؟ وهل يجوز فصل الدين عن الأخلاق أم لا؟
إن الأخلاق في مجملها قد أكد عليها النبي– صلى الله عليه وسلم- في حديثٍ شريف على جوهريته في دعوة الإسلام. بقوله: " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " رواه: البخاري. وقد مدح القرآن الكريم النبي-صلى الله عليه وسلم. في قوله تعالى: " وانك لعلى خلق عظيم " {القلم:4}، ولذلك فان محمدا هو الأنموذج والقدوة لكل مسلم في أخلاقه الحميدة وشمائله العظيمة لمن يريد أن يحظى من الدنيا الراحة، ويكسب من الآخرة النعيم. لقوله تعالى: " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنه لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا " {الأحزاب:21}.

هل للأخلاق دور في بناء الحضارات أم لا؟

بالطبع للأخلاق دور فعال وكبير في بناء الحضارات، ولا سيما أن الأخلاق تمثل الدور فالأكبر في تقدم المجتمعات وانجازاتها، فموضوع الثقافة هو موضوع ثابت لماذا نحيا؟ إما الحضارة فهي تقدم متصل يتعلق بسؤال آخر هو كيف نحيا؟ فالأول سؤالا يسال عن معنى الحياة، والثاني عن كيفية هذه الحياة(12). ويجدر بنا الذكر والإشارة إلى أن جميع معلمو البشرية سواء أكانوا أنبياء أو حكماء قد علموا البشرية بأسرها الأخلاق؛ لأنهم يعلمون أهميتها ودورها الفعال في تحقيق الضالة المنشودة للحضارات وبناءها. وعندما سال ( طاليس ) وهو احد حكماء الإغريق السبع، كيف نحقق حياة أفضل استقامة؟ فأجاب: " عندما لا نفعل ما نستهجن فعله من جانب الآخرين "(13)، بمعنى انك لا تفعل التصرفات التي تضايقك من سلوك الآخرين، وهكذا يتضح لنا أن الأخلاق تمثل عمودا أساسيا في توطين النفس؛ من اجل بناء امة لها عموديها الفقري الصلب الذي لا ينحني أبدا للدهر. فالأخلاق هي الشيء الذي من اجله نحيا وعليه فنحاسب، فهي رسالة كل الرسل والأنبياء والفلاسفة الحكماء؛ لأن الأخلاق تعتبر روح التدين وماهيته، فإذا انعدم التدين من الأخلاق فقد تم تفريغه من مضمونة، وكل متدين منسلخ عن القيم والأخلاقيات التي أوصانا بها القرآن او السنة فانه ليس أهلا بان يكون مسلما، وإذا كان الله أرسل محمدا رحمة للعالمين، فمن المؤكد أن تكون هذه الرحمة متجسدة في الأخلاق؛ لأنه لن يعبث إلا ليتممها مصدقا لقوله عليه الصلاة والسلام؛ لأنه بذلك قد أشار إلى أن الأخلاق تمثل قمة الهرم والمنظومة الإسلامية الصحيحة وهذا يدعم ويؤكد على أن الأخلاق واجبة في بناء الأمم وانجاز حضارتها.

هل الأخلاق جزء من الإسلام؟ أم أن الإسلام جزء من الأخلاق؟

ووجه نظري وإجابتي على هذا السؤال هو أن الإسلام جزء من الأخلاق وليس العكس. والدليل على ذلك قول- النبي صلى الله عليه وسلم : " إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " فهذا دليل واضح على أن الإسلام جزء من الأخلاق وإلا ما كان محمد ليقول " لأتممها " فهذا يدل على أن الأخلاق لم تكن منعدمة أو غير موجودة مسبقا لكنها كانت أخلاقا مشوشة ينقصها من السلوك الجميل والمثل العليا وهذا ما كمله القرآن وزرعه في نفوس البشر. الإسلام في مجمله العام إنما هو عبارة عن سلوك حسن سواء أكان في شريعته أو حدوده أو نظرياته، فمثلا إذا أخذنا حد مثل حد القصاص فلننظر مثلا ماذا يقول الحق في ذلك. حيث يقول تعالى: " ولكم في القصاص حياة يا أولى الألباب لعلكم تتقون "{البقرة:179}، وبين قول العرب " القتل أنفى للقتل "(14)، وهذه المفارقة سوف تثبت لنا الفرق بين القرآن وما صبغة بصبغة أخلاقية ليكمل العرب ويصلح لهم أخلاقهم الناقصة، حيث تبرأ هذه الآية من تكرار الحاصل في كلمة العرب " تكرا لفظ القتال " ، وتنفرد الآية بالترغيب في القصاص بذكر الحياة وجعلها نتيجة لهم، كما يطرأ المعنى في الآية بدون العبارة؛ إذ إننا نستطيع القول بان في كل قصاص حياة، ولا نستطيع القول القتل ينفى القتل؛ لان القتل الذي لا يكون على وجه القصاص لا يحقن الدماء بل هو سبب إراقتها، ولا ينفى القتل بل هو ادعي له. وبذلك يكون الإسلام استطاع أن يتمم الأخلاق برسالته الصادقة على نبيه محمد؛ حتى يسلم المجتمع ويعيش حياة آمنه مطمئنة بتطبيق تلك الشريعة العادلة التي تبنى الثمار الطيبة النافعة على أي مجتمع مدني كان أو ديني.
فلو كانت الأخلاق جزء من الإسلام، ما كنّا وجدناها في غير مسلم، لذلك تجد بعض الظاهريين يتعجبون عندما يرون شخصا غير مسلم على خلق وطباع حسن لكنة ليس بعجيب بل بالعكس فهو بديهي جدا؛ لأن كل المعلمين الذين سبقوا محمد من فلاسفة وحكماء كانت مبادئهم تتلخص وتدعوا للأخلاق مثل الحكيم الصيني ( كونفيشيوس ) مؤسس علم الإتيكيت، وأمثال سقراط الفيلسوف اليوناني: وغيرهم من الحكماء الذين ناشدوا بان تكون الأخلاق هي رأس الهرم؛ بأنها الأساس في بناء المجتمعات الصالحة، والحضارات الواسعة.
هل يجوز فصل الأخلاق عن الدين أم لا؟

إن الإيمان بأن القوانين الأخلاقية قوانين إلهية صادرة عن إرادته تعالى المحضة لتنظم حياة الإنسان ورسم الطريق المستقيم له يضفي على تلك القوانين نوعا من القداسة، وهذا بلا شك يدفع المؤمن إلى الالتزام بها(15). يقول د/ الكسيس كارل: "إن الفكرة المجردة لا تصبح عاملا فعالا إلا إذا تضمنت عنصرا دينيا، وهذا هو السبب في أن الأخلاق المدنية إلى حد تستحيل معه المقارنة، ولذلك لا يتحمس الإنسان في الخضوع لقواعد السلوك القائم على المنطق إلا إذا نظر إليها على أنها أوامر منزلة من الذات الإلهية"(16)، ومما يؤكد ذلك، أن الذين حاولوا فصل الدين عن الأخلاق من أمثال "دور كايم" وأتباعه قد فشلوا فشلا ذريعا وأعلنوا في نهاية المطاف إلى أن الدين هو الضمان الأعلى للنظام الخلقي(17).
لذلك فإن القوانين الأخلاقية الإلهية الصادرة من الله-تعالى- تتميز بأنها عامة وثابتة وراسخة، ومن ثم تتجاوز وتتخطى القوانين الوضعية المدنية. فالإيمان بأن القوانين الأخلاقية الدينية تضفي على الحياة بالروح والفلسفة والأهداف عكس القوانين الوضعية؛ لأن المجتمع هو الذي يحدد مصيرها، لذلك فهي تتبع رغباتهم وتلحق بأهوائهم، ومن ثم تظهر روح المجتمع في قوانينه؛ لأنها مرآته، في حين أن الأخلاق الدينية تتجلى في حياة المجتمع إذا كان يخطو وفقا وتبعا لإرشادات هذه الأخلاق لا وفقا لتوجيهات رغباته وشهواته.

أما بشأن الشريعة فلقد ذهب شكيب أرسلان إلى أن تأخر المسلمين في الحقب والقرون الماضية لم يكن من الشريعة بل من الجهل بالشريعة، وفي الحقيقة إن هذا هو الصواب؛ لأننا لو استمرينا على تخلفنا بهذا الشكل فغننا لا يجب أن نلوم الدين أو نحمل عليه بشيء؛ لأن الدين هو مفتاح للتحضر وليس التخلف، مفتاح للقوة وليس للضعف أو الوهن، فمن ظنّ أن الدين كان السبب في تخلفنا اليوم فإنه مخطئ؛لأن التاريخ ومواقف الشخصيات مرهون بالوحي وليس العكس، وليس من المنطق أن نقول إن هذا كان السبب في تقدمنا، ونفس الوقت نقول أنه السبب في تخلفنا وتراجعنا للوراء، فهذا يدل على أن الإسلام لم يقصّر في حقنا بل نحن من تخلينا عنه، وتخلينا عن نظرياته التي طبقها أسلافنا بالماضي.

كما أنّ جهلنا بالشريعة كان أحد أركان الضعف والتخلف، فضرورة تجديد الفكر الإسلامي المعاصر تتطلب ضرورة التذكير لقيم الإسلام وتعاليمه التي غفل عنها-بمرور الزمن- جمهور كبير من أبناءه، أو أساءوا فهمها، وأخفوا صحيحها، بل وازداد الأمر سوءا بأن هناك فرق كثيرة تظن أنها هي الأفضل على مستوى العمل الديني، وأنها التي تملك الرصيد الأكبر في التفوق والنجاة، وكأنهم يشبهون النبي-صلى الله عليه وسلم- والصحابة في أعمالهم وتقاليدهم، الأمر الذي يذكرنا بالخوارج في بداية العصر الأول للإسلام.

وقد نَجَمَ عن ذلك بطبيعة الحال إلى إلحاق الضرر بالإسلام داخل المجتمعات العربية الإسلامية، خاصة أن غير المسلمين يحكمون على الإسلام من خلال سلوك المسلمين وتصرفاتهم، بيدٍ أن هذا السلوك ما هو إلا مرآة لتعاليم وشرائع هذا الدين، وبالطبع هذا حكم خاطئ بكل المقاييس وفهم مغلوط عن الإسلام. ولكي يتسنى للغيورين على الإسلام أن ينفق جهده في تحويل الصورة المشينة التي انتشرت عن الإسلام لدى المسلمين وغيرهم، فإن الأمر يقتضي إعادة النظر في فهمنا ووعينا للإسلام وجوهره ومحْو ما تراكم بمرور الزمن على صورة الإسلام ومرآة هذا الدين من غبار كثيف من الفهم السقيم العليل والتقاليد المترهلة البالية والعادات الرديئة؛ كي يتأتى عودة الإسلام وجوهره الحقيقي في عقول المسلمين مرة أخرى صافية نقية، بريئة من كل ما لا يمتّ إلى باطن هذا الدين بأي صلة.

كما أن مفهوم الشريعة ليس كما يتردد صداه على أنه الفقه الإسلامي بما يحتويه من العبادات والمعاملات، ومنهم من يوجزه ويختزله في الحدود وتطبيقها، ويظنون أن الشريعة قد اقتصرت على الحدود وحسب، لكن هذه العقول قاصرة عن استيعاب المعني الحقيقي والجوهر المطلوب للشريعة الإسلامية، ومن ثم فإن الأمر يتطلب إلى توضيح يزيل اللبس القائم في هذا الصدد.

فالشريعة في باطنها تعني الدين الكامل الذي أُنزل من قِبل الله. مصداقا لقوله تعالى: "شرع لكم من الدين ما وصّينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه"{الشورى:13}، ومن هنا عرف بعضهم الشريعة بأنها (ما سنّه الله لعباده من الدين وافترضه عليهم) ويمكن تأسيسا على ذلك تعريف الشريعة على نحو أكثر تفصيلا بأنها "عبارة عمّا جاءت به الرسل من عند الله بقصد هداية البشر إلى الحق في الاعتقاد، والى الخير في السلوك والمعاملات" وبهذا المعنى يشمل مفهوم الشريعة الجوانب الاعتيادية والأخلاقية والعملية والعلمية والروحية والمادية(18).
ويتضح مما سبق أن الشريعة لا تقتصر فقط في كونها على الفقه الإسلامي وشرائعه من عبادات ومعاملات، بل تتطرق الأمر إلى أن اشتملت على أمور جمّة في الحياة منها ما هو أخلاق وعقيدة وعلم وعمل وبناء وحضارة، وإنّي لأتعجب على هؤلاء الذين يخلطون الأمر بين الفقه والشريعة، ولا سيما هؤلاء المتجمدين. ولقد استقر هذا الفهم في عقول الكثيرين منذ حقب زمنية بعيدة؛ نتيجة لفترات التخلف والركود والانهيار الذي طرأ على الدولة الإسلامية وأصاب المسلمين بالجمود بعد تراجع حضارتهم على عقبتيها، فالفرق بين الشريعة والفقه واسع لا يصح اللبس والخلط بينهما.
أّمّا بشأن الحضارة فلقد استطاع الإسلام أن يشيّد لنفسه حضارة ضخمة بفضل مدنيته التي جعلت منه هالة كبيرة من التقدم والرقي، بخلاف ما كانت عليه أوربا في العصور الوسطى من دولة دينية جعلت من الكنيسة هي المسيطرة على العقول، والمتحكمة في البناء والانجاز؛ مما أدت إلى أن أصبحت أوربا منهارة ومنحدرة؛ حتى تجرد الأوروبيون من الكنيسة بتأسيس "العلمانية"؛ كي يفصلوا العلم عن الدين، لكن الإسلام لم يفعل ولن يفعل ذلك قط؛ لأنه بتعاليمه وفلسفاته استطاع أن يمزج بين الدين والعلم، بل وجعلهم متممان ومكملان كل منهما للآخر، ولا سيما في الحقب الزمنية التي عاشها المسلمون في "الأندلس" خلال فترات العصر العباسي. ففي تلك الآونة استطاع المسلمون أن يعيشوا أياما من أعظم أيامهم، سواء على المستوى العلمي أو الأبي أو الاقتصادي أو الاجتماعي. فكان منهم فطاحل الشعراء، وكبار الفلاسفة، وأعاظم العقول في العلوم المادية.

ومما يذكره لنا التاريخ بخصوص ازدهارهم العلمي، أنهم قد أضافوا للبشرية اختراعات هامة، مثل صناعة الورق، والاختراعات الميكانيكية(19)، كما أن أول ساعة حائط في البشرية والتاريخ كانت من نصيب المهندس الأندلسي على المرادي سنة 500هـ، حيث تحتوي هذه الآلة على تمثال لرجل يحمل عصفورا على ذراعه، وعند مرور ساعة يدير العصفور رأسه تجاه الرجل فيلقي الرجل بحصاه من فمه. كما أنه كان لهم الفضل في اكتشاف الدورة الدموية في القرن الثالث عشر على يد العالم الأندلسي "ابن النفيس" وغيره من العلماء الذين ساهموا مساهمة جليلة في مجال التطور والعلم مثل أبو بكر الرازي والحسن بن الهيثم وابن سينا.. الخ.
فالحضارة في الإسلام بإيجاز شديد تعتبر فريضة إسلامية لا تقل بمضمونها وأهميتها عن فريضة الصلاة والزكاة والصيام والحج، وإذا كان القران الكريم يتحدث عن التمكين للمسلمين في الأرض، فإن ذلك من باب أن يتخذ دربا وسبيلا في طريق الحضارة والإبداع ولإقامة شعائر الإسلام. مصداقا لقوله تعالى: " الذين إنْ مكنّاهم في الأرض أقاموا الصلاة واتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر"{الحج:41}. وفضلا عن ذلك فغن الأمر والدعوة بالتكليف الإلهي لبناء الحضارة وإعمار الأرض قد جاء جليّا وواضحا ومبينا. في قوله تعالى: "هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها"{هود:61}، بمعنى أنه فرض عليكم عمارتها ماديا وروحيا، أي طلب منكم صنع وبناء الحضارة، وهنا الأمر لا يكن إلا فريضة وليس غير ذلك، وبناءا على ذلك نستخلص القيم الدافعة لبناء الحضارة الإسلامية المضمرة والدفينة في معرفة الإسلام حق معرفته، ومعرفة أن الله أمرنا بذلك وأوجبه علينا، ومن ثم ينبغي علينا بناء الأمة الإسلامية وحضارتها؛ لاستكمال فرائضنا الغائبة عن عقولنا وأذهاننا. فلو أن الأمة تشرّبت بروح الحضارة السليمة لأصبحت أمة تناهض جميع الحضارات.

الرد على حسّاد المدنية الإسلامية المكابرين

يحمل هنا الأمير شكيب ارسلان محملا وردا على حساد المدنية الإسلامية المكابرين الذين يدعون ويزعمون بان الإسلام لم تكن له مدنية، وانه ظل متخلفا متراجعا للوراء لا يحرك ساكنا، لكن سرعان ما يفحمهم شكيب ارسلان ويدحض شبهاتهم التي يروجون إليها ليلا ونهارا، وسرا وعلنا بكل حقد وحسد على الإسلام وفلسفته. فيقول الكاتب " وان المدنية الشرقية يوم ظهر الإسلام كان أخنى عليها الذي أخنى على لبد، وانه هو الذي جددها وأحيا آثارها، وأقال عثارها؟! وأنها بعد أن كانت قد أمحت ولحقت بالغابرين، أبرزها من أصدافها وجلاها من بعد أن كانت ملفوفة بغلافها.....".
ولا شك أن عالمية الإسلام وتفوقه ورقيه بالعرب لا تنفى انه عالمي النزعة، أو ذو طبيعة عالمية. فالقرآن يخاطب البشر عامتا وليس الإنسان العربي في الوسط الثقافي أو الحضاري فحسب، وتلك حجة قوية؛ لان الإسلام قد انتشر بالفعل انتشارا واسعا خارج نطاق الوسط الثقافي العربي بمعناه الضيق أو الأصلي، فاعتنقه أجناس مختلفة الأعراق من أوساط ثقافية متباينة. ولقد كان أحكام النظرة العالمية للإسلام جعله يستوعب تراث المسيحية بين شعوب الشرق الأوسط التي كانت مسيحية، ومن هنا فقد أصبح المفكرون المسلمون هم حملت الثقافة العقلية لكل المنطقة. كما أكد الإسلام نفسخ بالفعل كدين مستقل عن الدينين الأقدمين ( اليهودية والمسيحية ) ونقول عن حق : انه بالفعل كان يفوقهما، أو انه فعلا كان متفوقا عليهما أو أرقى منهما(20).

أما ما يخص حضارة الإسلام وما ترجمته من كتب، فان التاريخ يذكر ذلك للامه الإسلامية، ولا سيما فترات العصر العباسي الأول مع بداية إنشاء " بيت الحكمة " فقد كانت هذه المؤسسة العلمية العظيمة سرحا كبيرا في عالم العلم والأدب مع الخليفة العباسي المنصور الذي جعل طيبة الخاص جورجيوس بن جبرائيل يترجم له كتب من كتب اليونان إلى العربية، وقد احتفظ بها الخليفة أبو جعفر المنصوري في قصره حتى كانت خلافة الرشيد فإنشاء بيت الحكمة وجعل بها المترجمين الذين يترجمون الكتب من كل اللغات إلى العربية. فقد ازدهرت هذه المكتبة في عهد الخليفة المأمون، حيث انه اشتهر بمحبته للعمل والأخبار والأدب وتعريب الكتب. وبيت الحكمة لم يكن مكتبة فحسب، بل كان معهدا علميا عظيما بنشاطه في المكتبة والعلم والحوار والمناظرة، وضم هذا المعهد العلمي مترجمين ومجلدين بالكتب ومسئولين يتابعون أداء هذه المؤسسة التعليمية التي أدت دورا عظيما في ازدهار الحياة الفكرية في عهد العباسين، وبذلك تكون الدولة الإسلامية أن تحاكى كل الأمم بعلمها وحضارتها العريقة التي امتدت قرون طويلة وحقب وأزمان عديدة.
يرى الأمير شكيب ارسلان أن الحضارات في مضمونها العام وجوهرها الحقيقي مكمله ومتممة بعضها لبعض فلا تستطيع أي أمة المناهضة إلا إذا كانت اطلعت على الأمم الأخرى وأخذت منها ما ينفعها، وتركت منها الموحش المستهجن، وهذا ما عبر عنه الفيلسوف العظيم بن رشد، حيث يرى أن الاطلاع على كتب الآخرين واجب شرعا. فيقول:" فما كان منها موافقا للحق قبلناه منهم وسررنا به وشكرناهم عليه وما كان منهم غير موافق للحق نبهنا عليه وحظرنا منهم وعذرناهم"، وهذا بالفعل ما طبقه المسلمون بالماضي، فقد كان يعلمون قيمه الانفتاح والعولمة ومعرفة حضارات الأمم الأخرى. فالتراث الإسلامي اخذ وعطاء، ولا تجد أمة عريقة في التاريخ إلى وقد أعطت كما أخذت وهذا واضح وجلي في قوله تعالى: "لقد كان في قصصهم عبرة لأولى الألباب " {يوسف:111}. ولقد استدل الكاتب على حديث يدعم به أفكاره ويقوى به آراءه، خاصة أن العلم بالتعلم وليس بالفطرة أو الغريزة. حيث يقول النبي –صلى الله عليه وسلم:" الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها " والحديث الثاني هو: " اطلبوا العلم ولو في الصين" وهذا الحديث على وجه التحديد فيه دعوة صريحة على أن العلم لا يؤخذ إلا من أهله بغض النظر عن أهله وجنسه وديانته وعرقه، فالنبي يعلم أن الصين وقتئذٍ كانت أمه وثنية معظم أهلها يعبدون الأوثان والأصنام، وبالرغم من ذلك فقد دعا إلى طلب العلم منها مؤكدا أن العلم ليس له وطن ثابت، وإنما وطنه أينما وُجٍدَ.
والأدهى من ذلك تجد كثير من الذين يحقدون على الدولة الإسلامية وينكرون مدنيتها ويعدمون حضارتها، في حين أن العالم الإسلامي قد شهد حضارة عظيمة عملاقة في العصر العباسي الأول في شتى مظاهر الحياة المختلفة، الدينية والفكرية والثقافية والعلمية والعمرانية؛ مما جعلت المؤرخين يشهدون بذلك للإسلام وحضارته، حتى قال (سيديو): " أبدو من الزينة والزخرفة أعجب المناظر ومنحوا منحا وافره وعملوا أعمالا فاخرة نثروا الذهب في قصورهم وبساتينهم ومساجدهم"(21) وان من ابرز الأعمال الحضارية للدولة الإسلامية في تلك الآونة هي ربط مدنها بالبربر الذي اهتم بها الخليفة المهدي اهتماما كبيرا، ومن ذلك الجلوس للمظالم بحضرة القضاء(22)، كما أن انخفاض الأسعار في زمن الخليفة المنصور قدّم انتعاشا عظيما في الأحوال الاقتصادية والتي هي من أهم الجوانب الاقتصادية الحضارية المعيشية لأفراد الأمة .
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى لم تتوقف مدنية الإسلام وعالميته عند تلك البقعة التي تضم الإسلام والمسلمين، بل صالت وجالت إلى أن احتوت شتى بقاع الأرض بتعاليمها وفلسفاتها؛ حتى جعلت من الإسلام وفتوحاته وحضارته موضع نقاش وحديث بالنسبة للمؤرخين المسلمين وغير المسلمين (المستشرقين)، ومن بين هؤلاء الفيلسوف الدكتور شبرك النمساوي.حيث يقول: " إن البشرية لتفخر بانتساب رجل كمحمد إليها، إذ إنه رغم أميّته استطاع قبل بضعة عشر قرنا أن يأتي بتشريع سنكون نحن الأوربيون أسعد ما نكون إذا توصلنا إلى قمته" أما فضل الشرق على الغرب فهذا أمر لا يستطيع أن يتزايد عليه؛ لأن الشرق قدم عطاءً وفيرا للبشرية بأسرها. ولله درّ قول الشاعر حيث يقول:
إن يركب الغرب متن الريح يبعدها *** ما قصرت عن مداه حيلة الناس
فإن للشرق فضل السبق نعرفه *** للجوهري وعباس بن فرناس
قد مهّدا للناس سبلا تسلكها *** إلى السماء بفضل العلم والباس

كما ظهر من بين هؤلاء المستشرقين المنصفين أيضا لمدنية الإسلام(23) وحضارته العلاّمة " دافيد دي سانتيلانا " المستشرق الايطالي، وهذه الشهادة التي نقدمها ونضعها بين أيديكم ونصب أعينكم، تؤكد على تميز الإسلام عن الأديان الأخرى التي لم تتوافق مع متبعيها، وهذه الشهادة تتبلور في الآتي:

1- إن الإسلام دين ودولة، دون أن تكون دولته كهانة كنسية، تحكم بالحق الإلهي كتلك التي عرفتها الحضارة المسيحية في أوربا إبان عصورها الوسطى المظلمة.

2- إن الشريعة الإسلامية متميزة بالقانون الجامع بين الأحكام وبين منظومة القيم والأخلاق الدينية،والرابط بين المنفعة والمصلحة الدنيوية، وبين الدين والجزاء الأخروي.

والحق الذي أشار إليه سانتيلانا في هذه الشهادة هو انه قال الإسلام "دين ودولة" فهو بهذا يعلن عن مدنية الإسلام الخالصة، فلو قال دين بحتة لكانت دولة دينية فقط، كما كانت المسيحية في العصور الوسطى، ولو قال دولة محضة لكانت دولة علمانية، لكنه قال دين ودولة معا؛ ليبرهن على أن مدنية الإسلام وعالميته تفوقت كل الحدود وأعلنت حضارتها على جميع المستويات العلمية والثقافية والدينية.

ويبقى السؤال الذي يفرض نفسه. ماذا كان دور الإسلام في ازدهار الفكر الحضاري لدى المسلمين؟

بعد أن ظهر الإسلام تغير الأمر تماما، وتبدلت به أحوال العرب بصفة خاصة، وأحوال المسلمين بصفة عامة بشكل غير مسبوق في التاريخ، فقد بعث الإسلام فيهم حياة جديدة ونقلهم إلى أفق فسيح من العلم والمعرفة، وجعلهم مؤهلين لإقامة دولة عظمى تمتد من أقصى الصين شرقا إلى أقصى الأندلس غربا. وفي ظل تعاليم الإسلام ازدهرت العلوم والمعارف على اختلاف أنواعها، واسهم المسلمون في الجهود الحضارية بكل طاقتهم وأصبحت لهم حضارة تحمل طابعهم وتميزهم عن غيرهم، ولم يكن ذلك كله يمكن أن يحدث إلا إذا كانت تعاليم الإسلام تشمل على العناصر الأساسية لهذا التحول العظيم، وقد كان حجرا أساس في هذا البناء الجديد يتمثل في نظرة الإسلام إلى الإنسان على انه خليفة الله في أرضه. تلبية لقوله تعالى: " إني جاعل في الأرض خليفة"{البقرة:30}.

ولأن الإنسان قد كرمه الله-عز وجل- في البر والبحر، وفضله على كثير من المخلوقات بنعمة العقل التي تميزه وتفرده عن الحيوان، والتي هي مناط للتفكير الذي به تسخر كل شيء من حولك. في قوله تعالى: " وبالنجم هم يهتدون"{النحل:16} وهذا كله من شأن أن يدفع الإنسان دفعا إلى العمل على بناء حضارة راسخة الأركان، شامخة البنيان، وكأنه سيعيش في الدنيا أبد، ولكنه في الوقت نفسه لا ينسى العمل من اجل آخرته وكأنه يموت غدا. ومن خلال هذه التوجيهات والإرشادات الإسلامية يتضح لنا بصفة عامة مدى جوهرية دور الإسلام في تطوير الفكر الحضاري والمدنية لدى المسلمين. فالقران الكريم لم يتعامل مع القضية الحضارية على أنها هامشية أو محورية، بل جعل من الحضارة فريضة إسلامية لا تقل في أهميتها عن أي فريضة أخرى، وبهذا يكون الإسلام قد أضفى إلينا دور عظيم في الدنيا سواء في الفتوحات الروحية، أو العقلية، أو المادية، وان هذه الفتوحات قد اتسقت له في دور لا يزيد عن ثمانين سنة؛ مما اجمع الناس على أنه لم يتسق لي امة قبله أصلا ( على حد تعبير شكيب أرسلان ).
اليونان والرومان قبل النصرانية، وأسباب تأخر أوربا بالماضي ونهضتها بالحاضر

يرى شكيب ارسلان في هذا المطلب أن اليونان كانت أعظم أمة في الأرض، وكانت أمة لا يضاهيها أمة مثلها، لا في العلم ولا في الثقافة ولا في القوة، فكانت أمة مُعلّمة وضعت أسس الفلسفة وأرست قواعد المنطق، وكانوا حاملي لواء العلوم والمعرف، بل وكان الإسكندر المقدوني حاملا للثقافة اليونانية ناشرا لها، ثم ما لبث إلى أن بدأت بالتردي والانحطاط والتخلف، بعدما ظهرت الديانة المسيحية. فمذ دانت هذه الأمة بهذا الدين الجديد بدأت بالتردي والانحطاط وفقد مزاياها القديمة، ولم تزل تنحط قرنا عن قرن، وبطنا عن بطن، على حد تعبير الكاتب.
فيا ترى، ما السبب الذي جعل هذه الأمة تصل إلى هذا الحال؟ أو بصياغة أخرى، لماذا رفضت المسيحية الفكر اليوناني؟ وما طبيعة العقل المسيحي الأوربي؟

وقبل أن نجيب على هذا السؤال، لابد أن نعرف أولا أن طبيعة العقل اليوناني؛ كي يتسنّى لنا الوقوف عند الأسباب التي أودت باليونان. عن العقل اليوناني الإغريقي عقل تأملي، يرتاب ويزدري، ويتجنب الخبرة الملموسة، والعمل الذي يتطلب الملاحظة المكثفة، مثلما ينكر على الرجل الحر العمل اليدوي الموكول للعبيد فقط في الحقول، متمما بذلك تحليقه شطر مملكة الأفكار العامة والقوانين؛ لذا، فغن العقل اليوناني يذعن للصيغ الفكرية الهندسية المجردة، ولأشكال النقاء المثالية، في الوقت الذي يترك مزاولة الأعمال الحسابية إلى البائع في السوق، وهذا التصنيف ينطبق على المراتب الاجتماعية بدءا بالهيئة الحاكمة، ونزولا إلى المهن المبتذلة، كأصحاب الحرف، والمهندسين، ومهندسي البناء، والفنيين، وختاما بالعبيد.
فالعقل المسيحي الأوربي ( أو بالأدق آباء وقساوسة الكنيسة) قد حارب العلم والبحث بحجّة أن ذلك يجعلهم يترددون في الخطيئة، زاعمين بأنه بعد مجيء عيسى-عليه السلام- لا يحق لهم أن يكونوا محبّي استطلاع العلم، أو أن يبحثوا في العلوم. ففي الإنجيل الكفاية، ولذلك فلا الروم البيزنطيون، ولا فرق النصارى، هم الذين سعوا إلى إنقاذ حضارة إغريق "هلينية" التي كان بعضها قد أُبيد إبادة تامة على أيدي متحمسي النصارى النشطين في مهاجمة العلوم. كما فصلت المسيحية فصلا مطلقا بين الحياة الأخروية العلوية، وبين الحياة الدنيوية الأرضية المكتظة بالنقائض، وكل ما هنالك قابل للقسمة بعمق، وتُلقي بينهما العداوة والبغضاء، بلا أمل للتوفيق: الله والعالم، الروحي والمادي، الروح والجسد، الرجل والأنثى؛ لأنه لم يكن لدى المسيحية أسئلة توجهها إلى العالم.

إن الديانة المسيحية السماوية، لم تكن خالية الوفاض فقط من أسئلة توجهها إلى العالم؛ لأن مشيئة الله ليست موضع سؤال؛ بل لأنها فضلا عن ذلك غير قابلة للحساب، وفي رأيهم: لم يكن ثمة باعث، بل ولا حق أيضا في تقصّي الأسباب، واستنادا إلى خلفية الفكرة المسيحية عن العالم (صورته)، كما رسمها اللاهوتيين طبقا للإنجيل، ومؤازرة من خادمهم فإنه لم يكن بالإمكان قط نشوء علم طبيعي. لماذا؟

إن الثنائية المسيحية عملت على رفد الطبيعة بنظام خارجي، عن طريق إله أخروي، دخل في هيئة غيبية سواء أكان بمعجزة، أو بالرحمة أو بالعقاب، بتقمص صورة إنسان في عالم أبدي تسيطر عليه العفاريت، وبعد أن انسحبت ما انفك يتدخل يوميا من خلال سر الأقداس، ومن خلال تقبل الصلوات والجزاء والأعمال الخيّرة. ولم يكن للعلم أن يتقدم في ظل الثنائية الأفلاطونية والأفلاطونية الجديدة، طالما أن العالم المنظور للطبيعة السماوية والأرضية هو لا شيء، مجرد ظل واهن لعالم الفكرة، وأن كل مجهود يبذل لاكتشافها عبث، لا يستسيغه العقل، وإن انصراف أوروبا ذات النشأة المسيحية إلى الله والنفس، في ذات الوقت الذي تم فيه إعطاء الطبيعة الصبغة الشيطانية، وتلحيد المحيط، أدى إلى تخلف الثقافة، والى الركود العقلي إلى درجة العقم، وبدافع الازدراء لأعمالهم اليومية غير المفيدة.

حتى إن الكنيسة قد حرّمت طرق المداواة الجديدة باعتبارها شعوذة وخرافات باطلة، وظلّت ستمائة سنة بحالها مشلولة دون المضي قدما في تطوير الطب وتوظيفه في خدمة الإنسان... وكان الصليبيون في حملة "دمياط" يؤثرون علاج جراحهم لدى أطباء خصومهم العرب، وهذا ما جعل العقل الأوروبي لم يتوافق مع الديانة المسيحية، التي رفضت أن تمزج بين العلم وبين الدين، وبين الروح وبين المادة، لذلك تجرّد منهم المفكرون في القرون الوسطى؛ للتخلص من هذا الظلام الدامس الذي أصابهم؛ بسب جمود الكنيسة في ذلك الوقت. فالعقل اليوناني يهوى العلم محبا له، يبحث دائما عن الأفق والاطلاع، أما المسيحية آنذاك فقد سيطر عليها القساوسة والباباوات والبطارقة وجعلوا من هذه الديانة ظلام وعقم لكافة العقول المفكّرة التي ظلت أياما وحقبا طويلا باعثة للعلم والفلسفة أمثال، طاليس وسقراط وأرسطو وأفلاطون وإسكندر المقدوني... وغيرهم من العلماء والفلاسفة الذين وضعوا بصمة جليلة في عالم التقدم والرقي والعلم والانجاز الحضاري.

ثم لنا أن نسأل، لماذا فشلت المسيحية في الشرق الأوسط؟ ولماذا نجح الإسلام؟.

إن الجانب المهم في انجاز الإسلام في الشرق الأوسط هو أنه حلّ محل المسيحية التي كانت محور الحياة الثقافية في هذه المنطقة. مناطق شاسعة كان سكانها في غالبهم يشكلون قلب العالم المسيحي، فأصبحوا يشكلون قلب العالم الإسلامي، غنه من الضروري أن نتمعن في أسباب هذا التغيُّر بعناية، كما يتعين علينا أيضا أن نبحث عن جذور فشل المسيحية بمعالجة موضوع المسيحيين الشرقيين. إن كثيرا من المسيحيين الشرقيين، ولا سيما اللاهوتيين منهم، استخدموا أيضا اليونانية في الكتابات الجادة، لكن طريقة تفكيرهم كانت بشكل أساسي بعقليتهم في لغاتهم الأصلية ( السريانية، القبطية، الأرمينية..إلخ ).
وقد أدى الاختلاف في العقليات إلى اختلاف في الصيغ اللاهوتية في قضايا مختلفة، وعندما كانت تُطرح هذه القضايا اللاهوتية المختلف عليها أمام المجامع المسكونية كان اليونانيون يستبعدون المسيحيين الشرقيين ( الناطقين باللغات آنفة الذكر ) من حق التصويت. وبمرور الزمن وجد المسيحيون الشرقيون أنفسهم وقد اعتبرهم الآخرون هراطقة مُخرفين، بل واعتبرتهم الإمبراطورية البيزنطية طريدي عدالة ومحرومين من حماية القانون. ولقد دخل الإسلام إذن في منطقة لم تحقق فيها المسيحية نجاحا، أو لِنقُل إنها فشلت بالفعل، فالبلاد التي كان يسيطر عليها المسيحيون الشرقيون في وقت من الأوقات أضحت الآن بلادا تدين إلى الديانة الإسلامية.
إن تأثير المسيحية الفعلي، أو تأثير جوهر العقلية المسيحية يبدو في تناقض مستمر رغم محاولات التوسع التي تقوم بها الحركة التبشيرية، وفي الوقت نفسه وجدنا صحوة في معظم الأديان الكبرى الأخرى ( غير المسيحية )، بل وظهرت أيضا أديان جديدة. وإذا رجعنا إلى الإسلام وجدنا زيادة في عدد معتنقيه في نطاق منطقته الجغرافية، بل وظهرت حركات دعوة للإسلام في أوربا(24).

كلمة أخيرة

بعد أن عرفنا كل الأسباب التي تضافرت وكانت سببا في تقلب أحوال أوربا بالماضي وعدم توافق اللاهوت المسيحي مع العقل اليوناني أو الروماني، نعرج ونتطرق مع مستشرقة أنصفت الحق في الإسلام، وقد عمّدت أن احتفظ بها في نهاية البحث لتكون مسك الختام ونتعرف معها على مدنية الإسلام، وكيف استطاع أن يبني لنفسه حضارة ويشيّد لعظمته مكانة جليلة في عبق التاريخ، يقول الكاتب: "إن القائلين بان الإسلام كان سبب انحطاط الأمم الدائنة له لا مفر لهم بأن النصرانية قد أدّت أيضا إلى انحطاط اليونان التي كانت من قبلها عنوان الرقي".
والحقيقة أن هناك مستشرقة قد أنصفت القول بحق الإسلام وانه كان السبب في ارتقاء العرب، وليس كما يدّعي بعض الحاقدين والحاسدين على المدنية الإسلامية، زاعمين بان الإسلام كان السبب الرئيسي في انحطاط الأمم الدائنة به، وهذه المستشرقة هي الدكتورة "سيجريد هونكه"(25) حيث أظهرت مفارقة بين الديانة الإسلامية والديانة المسيحية، وتتبلور الشهادة في الآتي:

1- سماحة الإسلام في مقابل التعصب الأعمى للكهنوت النصراني الغربي.

2- الفهم الغربي الخاطئ للجهاد في الإسلام.

3- النموذج الإسلامي المتميز لتحرير المرأة وحريتها.

4- تميز العقل اليوناني بالطبيعة التأملية التجريدية المحتقرة للعمل اليدوي، وللتجربة في الطبيعة، الأمر الذي جعل هذا العقل لا يتّخذ من الطبيعة مصدرا للمعرفة، ولا من التجريب أداة لاختيار صدق المعرفة، فوقعت لديه عند العقل، لا الواقع والفلسفة، لا العلم.

5- تميز العقل المسيحي الأوربي بالموقف المعادي من معرفة الطبيعة، التي عدّها خطيئة وشهوة مماثلة لشهوة الجسد الكامنة في الحواس، كما عدّ العقلانية إثما وحصر المعرفة في اللاهوت والإنجيل وحده، فالمعرفة عند هذا العقل النصراني الأوربي والبحث عنها في غير الوحي خطيئة والحاد.

6- رفض المسيحية الأوربية للفكر اليوناني وتراثه على حين أحياه الإسلام.

7- الدور العلمي التجريبي الإسلامي في انتصار العقل العلمي الأوربي الحديث على النظرة اليونانية والنظرة المسيحية للطبيعة والتجريب. وتبني العلم الأوربي للنزعة الإيمانية في فلسفة العلم الطبيعي، على النحو الذي سنّته فلسفة العلم في حضارة الإسلام ومدنيته، وشذوذ العلم الوضعي الغربي عن إسلامية العلوم.
8- ضرورة تميز النهضة العربية المنشودة بمكونات الهوية الحضارية الإسلامية المتميزة دونما تغريب واغتراب، ودونما عزلة وانغلاق.

9- تميّز العقل الإسلامي والعربي بــ:

* التسامح والتفاعل مع المواريث الحضارية، وإنقاذ هذه المواريث من الضياع.

* أثر التسامح الإسلامي في إبداع الدراسات المقارنة.

* تميز الحضارة الإسلامية بالإبداع في العلوم المدنية والحضارية منذ فجر ظهور الإسلام.

* الإبداع الإسلامي للمنهج التجريبي، كأثر من آثار الموقف الإسلامي المتميز من الطبيعة، الأمر الذي ميّز العلم الإسلامي، وحقق الإضافات التي تجاوزت العلم اليوناني، وصحّحته بالتجربة التي نهضت على أساسها أوربا نهضتها الحديثة.

* اثر التجريب في العلم الإسلامي عل نشأة المنهج الاستقرائي المنطلق من الجزيئات إلى الكليات والقانون.

وبهذا نكون قد أدركنا أن الإسلام استطاع أن يضع بصمته المدنية والحضارية على مرّ العصور، دون إلا يفصل الدين عن الدنيا، ولا يحجر على العلم في سبيل الدين، ولا أن يقتصر الآخرة على الدنيا. فهذا هو الإسلام الذي استطاع بشريعته الفلسفية العظيمة أن يبني واحدة من أهم الحضارات على مرّ التاريخ، ولا يزال قادرا حتى تقو الساعة.
















الهوامش


(1) فمن رحم هذه الفترة خرجت تلك الجماعة التي رفعت شعارا "لا حكم إلا لله". ومهما يكن من أمر فإنهم ما لبثوا أن زاد خطرهم، واستفحل دمارهم، لا على الموقف السياسي للإمام علي فحسب، بل على المجتمع الإسلامي بأسره – والذي نحن نعاني منه اليوم من أمثال داعش ومن على شاكلتهم-؛ حيث أصبحوا يكفرون من لا يقول برأيهم، ويستحلون دمه وماله، ويبثون فكرهم المتشرذم المتشنج غي عقول الناس؛ مما أسفر ذلك على أن أفكارهم راحت تتسلل في عقول المسلمين، وأضحى جهلهم يتوغل في قلوبهم ونفوسهم. ويستفاد من ضوء ذلك، أن التاريخ يجب أن يكون معلمنا وشيخنا ومرشدنا، نذكره لنتعلم منه، ونتجنب أخطاءنا، وهذا ما يجب أن نعلمه الآن؛ خاصة في خضمّ وجود أفكار وحركات هدامة في عصرنا هذا، فينبغي أن نعلم أنّ قوتنا في وحدتنا، ووحدتنا في كلمتنا، وكلمتنا ما هي إلا نتاج فكرنا، وفكرنا ما هو إلا حصيلة علمنا.

(2) وعلى مدار العصور لم يلتفت إلينا التاريخ بنظرة سلبية بأن المسلمين تعاملوا مع الشعوب بقوة وعنف في زمن الفتوحات، ولقائل أن يقول: أن الإسلام لم ينتشر إلا بالسيف والقوة. والحقيقة أن هذا الادّعاء باطلً، ومن يقرأ التاريخ جيدا يستدل على أن هذا لم يحدث قط؛ لأن للفتوحات الإسلامية مغزان وهدفان، هما. أولا: الحفاظ على رقعة الدولة الإسلامية وردع أي عدوان خارجي، وثانيا: إعلاء كلمة لا اله إلا الله، وهذا من حق أي فكر أن ينشر مذهبه، وكذلك من حق أي شخص أن يأبى أو يوافق، وهذا ما طبّقه الإسلام بفلسفته حين أكد على مبدأ الحرية في الاعتناق. في قوله تعالى: "فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر"{الكهف:29}، وقوله أيضا: "لا إكراه في الدين"{البقرة:256}.

(3) فأين نحن الآن من هذه الأمم. هل سنظل نتنفس ونعيش على تقدمنا وعزتنا بالماضي، وعلى هامش الحضارة السابقة، ونقول: نحن امة أمس، ونحن من صنع كذا، واخترع كذا، وأسس كذا؟؟؟ أم سننهض من فراشنا ونتجرد من الكسل، وننفض غبار الفشل من على أكتافنا. والأدهى من ذلك هو: "الإحباط الذريع والخوف المريع" الذي أصابنا وجعلنا متكاسلين لهذا الحد، في حين أننا كنا امة متصدرة العالم في زمن من الأزمنة، وكانت أوربا تستلهم من علماءنا النظريات والأفكار.

(4) في الحقيقة إني أري أن الكاتب لم يكن صائبَ الرأي في هذه النقطة، أو بالأحرى يمكن أن نقول "نصف خطأ"؛ لأن الكاتب جعل فساد الأمراء متوقف على الدولة الإسلامية فحسب، فهو صائب في المضمون، أما في الشكل فهو مخطئ؛ لأنه اقتصرها على الأمراء المسلمين، وهذا ليس صحيح، فمن ظنّ أن فساد الأمراء بالدولة الغربية أمر بديهي، فإن ظنه باطل؛ حيث إن الحاكم بدونه لن تستطيع الأمة النهضة أو الحصول على الريادة والتقدم.

أمّا ما يتعلق بأمر علماء المسلمين فليس الدور عليهم وحدهم، والدليل على ذلك خطبة أبي بكر الصديق حين تولّى الخلافة، جمع الرعية كافة وقال فيهم خطبته الشهيرة، والتي منها: "وإن أحسنت فأعينوني، وإن أسأت فقوموني" فالخطاب هنا كان موجها للناس عامة، وليس علماء الدين بمفردهم، ومن ناحية أخرى يمكن أن نعلق تعليقا عابرا على كلمة "قوموني" حيث جعلها أبو بكر الصدق الفيصل بين الحاكم والرعية، فلم يقل "فاعزلوني" أو "اخلعوني"؛ لأن ذلك يُحدث بلبلة وفتن ونزاعات في الدولة، لذلك قال "قوموني" حتى تكون يد الحاكم مع يد الرعية والعكس تماما.

(5) وديننا في هذا الإطار يريد منّا أن نعلم فنفهم، ونفهم لنعمل، ونعمل لنتقدم، ولا يريد منّا الجمود المتجهم، أو التطرف المتشرذم، بل يريدنا أن نكون على الصراط المستقيم دون اعوجاج أو انحراف. مصداقا لقوله تعالى: "وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون"{التوبة:105}. فبهذه الآية الكريمة نكون قد أدركنا أن العمل هو السبيل الوحيد للتقدم والرقي، لا التخلف والركود والكسل، كما أن الإسلام لن يفصل الدين عن الحياة، بل مزج بينهما، فكما يريد منّا الله أن نعبده وندعوا إليه، يريدنا أيضا أن نعمل من اجله.والآية الكريمة "وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"{الذاريات:56} لا تشمل على العبادة المحضة من صلاة وصوم وزكاة فحسب، بل يتعمق جوهرها إلى أن العمل والكفاح جزء من العبادة، وهذا جليّ في الآية آنفة الذكر.

(6) وهذا وان دل على شيء فإنما يدل على الجهل والتعصب المتسلل في عقولهم، والمتوغل في قلوبهم المنغلقة، أما ما يتعلق بكون هذه العلوم من صنع الكفار، فأظن أنهم لو فهموا الدين حق فهمه لعرفوا أن النبي-صلى الله عليه وسلم- حين اسر سبعين من المشركين في غزوة بدر، كان منهم من يفدي نفسه مقابل المال، أما الذين كانوا لا يملكون المال ويعرفون الكتابة والقراءة أمرهم النبي أن يعلم كل واحد منهم أولاد الأنصار القراءة والكتابة، فهذا هو النبي الذي كان يعلم أنهم مشركين وكفار، لكن أراد أن يلقّنا درسا وهو أن العلم ليس له دين ولا وطن، وإنما من أهله وأصحابه؛ لأن الحضارات ليست منغلقة، ولكنها متممة ومكملة بعضها لبعض، فحضارة الشرق تتعلم من حضارة الغرب، والعكس تماما، وهكذا تدور الحياة.

(7) انظر الرازي، أسرار التنزيل صــــــ102

(8) كان يقصد النبي-صلى الله عليه وسلم- بهؤلاء هم: حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحه، الذين كانوا يهجون المشركين ويدافعون عن النبي ودعوته بشعرهم وفنهم.

(9) إن العلم من منظور الإسلام لم يقتصر فقط على العلوم الدينية الخالصة؛ لأن الإسلام عندما يهتم بالعلم ويرفع درجاته إلى هذا الحد، فإنه يعني العلم بكافة زواياه، وليس العلم الديني فقط. فالعلم الديني يتكفل به مجموعة من المسلمين، وليس المسلمون جميعا، في قوله تعالى: "فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم"{التوبة:122}، أما بقية طوائف المسلمين فعليهم أن يعتنوا بالعلم بكافة مجالاته؛ ليتمكنوا من بناء حضارة تمكن المسلمين القوة والعزة في الأرض.

ولقد اثبت المسلمون بالماضي أنهم لم يكونوا منغلقين إزاء الحضارات الأخرى، وإنما كانوا منفتحين،بل وأفادوا وعلموا وتعلموا من التراث الإنساني في شتّى المجالات الجمة. فالتراث الإنساني سلف ودين، ولا تجد امة عريقة في التاريخ إلا وقد أخذت من الحضارات والتراث الإنساني كما أعطت، وحسبنا أن نشير في هذا الصدد إلى ما قاله "الإمام أبو حامد الغزالي" في كتابه إحياء علوم الدين، أن العلم الذي هو فرض كفاية، هو من العلوم المحمودة الذي لا أحد يستطيع الاستغناء عنه في قوام أمور الحياة، كالطب إذ هو ضروري لبقاء الأبدان، والحساب الذي هو ضروري في المعاملات التجارية والمواريث...وغيره، ويُستدل من ذلك أن العلم في الإسلام لم يقتصر فقط على العلوم الدينية فحسب، وإنما امتد زراعه ليشمل ويحتوي كافة طوائف العلوم، وشتى المجالات من علوم دينية، وعلوم دنيوية (مادية).

(10) المعجم الوسيط

(11) كما عرفها المجمع اللغوي

(12) علي عزت بيجوفيتش : الإسلام بين الشرق والغرب، " الأخلاق والتاريخ " صـــــ225

(13) نفس المصدر السابق صـــــ227

(14) د/ عبد الرحمن فوده: النظم صــــ126، صــــ127

(15) انظر برتراند رسل، المجتمع البشري في الأخلاق والسياسة صــــــ19

(16) د/ الكسيس كارل، تأملات في سلوك الإنسان صــــ140

(17) انظر دور كايم، التربية الأخلاقية صـــــ9

(18) محمود حمدي زقزوق :هوامش على أزمة الفكر الإسلامي المعاصر صـــــ106

(19) يعود الفضل في ذلك إلى المهندس الجزاري في تصميم أهم الاختراعات الميكانيكية في تاريخ الإنسانية. فهو الذي صمم أول صمامات عرفها الإنسان، وهو الذي اخترع الساعات الميكانيكية، كما أنه أول من اخترع العقل الرقمي الذي نراه الآن مُستخدما في الحقائب والخزائن.

(20) مونتجومري وات: الإسلام والمسيحية في العالم المعاصر

(21) سيديو: خلافة تاريخ العرب صــــــ114

(22) ابن الأثير: الكامل جـــ6 ، صـــــ73

(23) د/ محمد عمارة: دراسات غربية تشهد لتراث الإسلام صـــــ177

(24) مونتجومري وات: الإسلام والمسيحية في العالم المعاصر ( ص 179- ص183- ص185- ص188- ص45 )

(25) تأتي هذه الشهادة ضمن الشهادات العلمية الغربية المنصة للإسلام، فهي للعالمة الجليلة، والمستشرقة الألمانية الشهيرة "سيجريد هونكه" التي تخرجت من جامعات "كيل"،و "فرايبورج"، و "برلين"... والتي تخصصت في الدراسات المقارنة بين الحضارات والأديان.





تمت
4/12/2015م





البحث الفائز بالمركز الأول بمسابقة اقرأ لجامعات مصر 2016م

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى