فاطمة رضا - تأثيرات اللغة العربية على اللغة الاسبانية..

لطالما كان للعربية تأثير بليغ في اللغة الإسبانية، إذ استقرت فيها العديد من الكلمات العربية الأصل على إمتداد العصور.
وهي حاليآ تستعمل في مختلف مجالات الحياة وحقول المعرفة المتعددة بأسبانيا، مما يقدم الدليل القاطع على مدى غنى وثراء وقوة وعظمة وجزالة وفحولة وجمال وجلال لغتنا الجميلة التى ما فتئت تتألق وتتأنق وتنبض بالحياة في عصرنا الحاضر مطواعة مرنة سلسة عذبة متفتحة متسامحة، ينبوع حنان وجنان كأم رؤوم تأخذ وتعطى بسخاء وكرم لا ينضب معينهما. وتعيش اللغة الإسبانية بدورها في الوقت الحاضر تألقا وازدهارا وقبولا وانتشارا كبيرين في مختلف ربوع المعمورة، ووعيا من الإسبان بما أدركته لغتهم من ‘أوج' وسمو فهم يبذلون جهودا مضنية للتعريف بها وإظهار كل ما من شأنه أن يبث الإعتزاز في ذويها وأصحابها وأبنائها وأحفادها، ومن ثم تأتي تلك الندوات والمناظرات التي تعقد في هذا السبيل في مختلف المناسبات في إسبانيا تحت الرئاسة الفعلية للعاهل الإسباني خوان كارلوس الأول نفسه وفيليب السادس ايضآ، كما انه يحرص كذلك على حضور العديد من جلسات أكاديمية مجمع الخالدين للغة الإسبانية، او الاكاديمية الملكية للغة الإسبانية، خاصة في حالة انضمام عضو جديد إليها أوعند تكريم أحد الراحلين عنها، وتصرف الدولة الاسبانية أموالا طائلة في سبيل نشر لغتها وثقافتها والتعريف بتاريخها وبآدابها و فنونها وتراثها وموسيقاها.

[لغة الضاد العربية وتأثيرها في الإسبانية]
ولا ينبغي الحديث عن ‘أوج’ اللغة الاسبانية وتراثها وغناها وانتشارها من دون التطرّق الى الأصول التي تستمد أو تنبني عليها هذه اللغة، فعلى الرغم من جذرها وأصلها اللاتينيين، فإنه معروف لدى جميع جمهرة الباحثين وغير الباحثين مدى التأثير الذي أحدثته لغة الضاد في هذه اللغة على امتداد القرون الثمانية التي كانت الغلبة فيها من دون منازع لها في شبه الجزيرة الإيبيرية منذ الفتح الإسلامي عام 711 م الى سقوط آخر معاقل الدولة الإسلامية في الاندلس وهي غرناطة 1492م، بل لقد استمر الوجود العربي بالاندلس حتى القرن السادس عشر عندما تم طرد وإبعاد آخر الموريسكيين الذين ظلوا متسترين في المدن والقرى والمداشر والمدائن الأندلسية، وقد بلغ عددهم سبعة آلاف في عام 1588، وعشرات الآلاف في عام 1609وهكذا لا ينبغي إطلاق الكلام على عواهنه في هذا المضمار، بل يجب إعطاء كل ذي حق حقه، ووضع الأمور في نصابها إحقاقا للتاريخ وحفاظا للامانة العلمية.
فجميع الباحثين والمؤرخين والمثقفين إسبانا كانوا أم غير إسبان يؤكدون هذا التأثير البليغ والعميق الذي أحدثته الحضارة العربية الإسلامية في الأندلس، ليس في ميدان اللغة وحسب بل في مختلف مناحي الحياة كما هو معروف بما لا يترك مجالا للشكّ، وقد سلم العديد من هؤلاء المثقفين الإسبان بالخصوص بهذه الحقيقة، بل ذهب بعضهم أبعد من ذلك حيث اكّد الروائي العالمي خوان غويتيسولو، والكاتب الإسباني أنطونيوغالا وقبلهما شيخ المستشرقين الإسبان إميليوغارسيا غوميس، وكذا الباحث الاسباني بيدرو مارتنيس مونطافيس وسواهم أنه يستحيل فهم واستيعاب تاريخ إسبانيا وثقافتها ولغتها على العموم فهما واستيعابا حقيقيين دون معرفة اللغة العربية والثقافة الإسلامية.
فكيف إذن لا توجد هناك أي دراسة معمّقة أوتحليل ضاف لهذه البدهية في مختلف المؤتمرات والندوات والتظاهرات الكبرى التي تنظّم بين الوقت والآخر حول الأخطار التي قد تداهم اللغة العربية، أو حول التأثير المتبادل بين هذه اللغة أو تلك..؟
بل ان هذا يحدث حتى عند بعض الإسبان الذين يحظون بشهرة عالمية واسعة مثلما حدث مع الكاتب الاسباني الراحل ‘كاميلو خوسي سيلا ‘ الحائز على جائزة نوبل في الآداب، فقد فاته وهو يحاضر في مؤتمر عالمي حول الروافد التي أثّرت في اللغة الاسبانية الاشارة صراحة وبكل وفاء الى هذه الحقيقة، وإبراز فضل اللغة العربية على الاسبانية، وهو الذي يستعمل في حديثه اليومي وكتاباته ورواياته عشرات الكلمات العربية أو من أصل عربي، بل هو الذي وضع رواية تحمل عنوانا عربيا واضحا وهي روايته المعروفة ‘ رحلة الى القارية ‘والقارية من السنام أعلاه وأسفله، هذا على الرغم من أن هذا الكاتب نفسه كان قد اكد خلال ندوة دولية أخرى أن لغتنا العربية ستصبح في قريب الاعوام من أولى لغات العالم أهمية وانتشارا حيث قال بالحرف الواحد: ‘نحن الاسبان وسكان أمريكا اللاتينية الناطقين بالاسبانية نعرف جيّدا أننا أصحاب لغة سوف تصبح في المستقبل القريب من أعظم اللغات الحيّة في العالم وأنتم تعرفون اللغات الثلاث الباقية وهي الانجليزية والعربية والصينية’.

[كلمات عربية في اللغة الاسبانية]
يقول الاستاذ عدلي طاهر نور في مقدمة كتابه ‘كلمات عربية في اللغة الاسبانية’: انه لاجدال في أن اللغة العربية ظلت لعدة قرون في النصف الثاني من العصر الوسيط لغة الحضارة السائدة في العالم، ولا عجب ان نسمع ‘ ألبارو القرطبي’ وهو من أقطاب الثائرين على المسلمين في القرن التاسع الميلادي يستنكر انصراف المسيحيين في اسبانيا عن دينهم ولغتهم، ويندّد بشغفهم باللغة العربية وآدابها وإنفاقهم الكثير في سبيل اقتناء كتبه، وهو لا يجد بين ألف منهم شخصا واحدا يستطيع أن يكتب باللاتينية خطابا صحيحا إلى صديق له. ويؤكد الباحث المكسيكي أنطونيو ألاتورّي ‘صاحب كتاب’ ألف سنة وسنة من تاريخ اللغة الاسبانية : ‘انه عندما عمد الى كتابة الفصل المتعلق بتأثير الحضارة واللغة العربيتين في اللغة الاسبانية، وصار ينقّب في الوثائق والمراجع تيقّن له انّ شيئا غير عادي كان يحدث له، حيث وجد نفسه يربط التاريخ باللغة’. ويضيف: ‘لقد بهرني العهد المتعلق بوجود العرب والمسلمين في اسبانيا، بل إنني شعرت بإنجذاب كبير نحو هذا العهد، وانّ أبرز ما استرعى إنتباهي، وسيطرعلى مجامعي في هذا العهد العربي الزاهر هو التسامح، فالعرب بعد ان استقرّوا في اسبانيا لم يكونوا ذوي عصبية، بل انهم جعلوا مبدأ التسامح ديدنهم، فساد هذا المبدأ في اسبانيا إبّان وجودهم بها ،كان الناس يعيشون في رغد ورفاهية من العيش، لدرجة ان كثيرا من سكان اسبانيا القدامى أصبحوا عربا بطريقة عفوية طبيعية، لقد وجدوا طريقة الحياة العربية مريحة وجميلة، وكان دينهم أقل تعقيدا من المسيحية، واتّسمت مظاهر العيش بالرقيّ والازدهار في مختلف مناحي الحياة’. ويضيف ألاتورّي:’ ان هناك شهادة الفيض الهائل من الكلمات العربية التي دخلت واستقرّت في اللغة الاسبانية ليس قهرا ولا قسرا، بل لقد تقبّلها الناس طواعية واختيارا، لقد كان العرب والمسلمون الذين

[ ارتباط كولومبوس باللغة العربية]
ومن أطرف ما يمكن أن يحكى في هذا القبيل،أي في مجال التأثيرالعربي (اللغوي) في المجتمع الإسباني، على سبيل المثال لا الحصر هو كريستوفر كولومبوس نفسه إستعمل كلمات عربية أو من أصل عربي في يومياته الشهيرة ليس فقط تلك التي لها علاقة بميدانه أيّ علوم البحر ومعارف الإبحار التي برع فيها العرب وألفوا وصنفوا، بل في المسمّيات اليومية العادية ويكفي أن نستدلّ في هذا الشأن بالفقرة الاخيرة من يوميات كولومبوس بعد وصوله إلى اليابسة، وهي الفقرة التي تحمل تاريخ السبت 13 أكتوبر(تشرين الاول) 1492 من هذه اليوميات حيث يقول :’وعند الصباح حضر إلى الشاطئ عدد غفير من هؤلاء القوم ثم’ قدموا في اتجاه المركب بواسطة(المعديات) في الأصل الإسباني كما نطقها كولومبوس (ألميدياس)، (مفردها المعدية وهي كلمة أوردها معجم الدكتور عدلي طاهر نور في كتابه الآنف الذكر، وهي مركب أو زورق صغير يعبر عليه من شاطئ إلى آخر، ومنها عدوة الأندلس، أو عدوة سلا والرباط على نهر أبي رقراق)، إلى أن أن يقول :’واستقدموا معهم لفائف من(القطن) ،(وهي كلمة عربية كذلك ونطقها كولومبوس’ ألغودون’ كما تنطق اليوم في الإسبانية)، وكانوا يحملون (الزغايات) ،وجاءت في يوميات كولومبوس’ أزاغاياس’ (من الزغاية وهي الرّمح او الرماح وحسب معجم دووزي هي كلمة من أصل بربري تعني الآن الحربة القاطعة التي تثبت في طرف البندقية). ويضيف كولومبوس: كما استقدموا معهم طيور(الباباغايوس) ‘جمع الببغاء وهو طائر يطلق على الذكر والأنثى، من خصائصه أنه يحاكي كلام الناس’، وهكذا نجد في فقرة قصيرة جدّا من هذه اليوميات الكلمات العربية التالية: المعديّة،القطن،الزغّاية، الببّغاء بالإضافة إلى كلمات أخرى وفيرة من أصل عربي مبثوثة هنا وهناك من هذه اليوميات، بل إنّ كولومبوس نفسه كان يحمل لقبا عربيا وهو ‘ أمير البحر’ وينطق في الإسبانية محرّفا بعض الشيء (ألميرانتي) ،وما زال هذا اللقب يستعمل في الإسبانية إلى اليوم.

يحلو للاسبان عند الحديث عن انتشار لغتهم والإشعاع الذي تعرفه ثقافتهم إستعمال هذه الكلمة العربية، وهي تنطق عندهم ‘أوخ’حيث تقلب الجيم خاء، كما هو الشأن في : جبل طارق، جبلي،الجامع، وادي الحجارة، الخ.

د. فاطمة رضا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى