عرفات محمد عبد الله - ياباني..

من ضروب الكلم، ما تتلقفه الألسن فتلوكه وتبلبله وتذهب به إلى معان شتى، منها، ما يمت إلى المعنى الأصلي بصلة ومنها الذي لا تجمعه به قرابة أو نسب، وفي فترات الانتقال وبدء دخول حضارات جديدة وتداخل اللغات بعضها في بعض يكثر مثل هذا.
ومن الألفاظ التي أسئ إليها في الأعوام الأخيرة عندنا «الفن» ثم «الياباني» .. فقد جنت على الأولى فرق كرة القدم والمهاويس من المعجبين بها، وجنى عليها سائقو التاكسي وصبيان المقاهي ونساء الطرقات وأبناء السبيل وتبعهم المتعلمون والمثقفون أو من يسمون كذلك. ولم يبق من لم يشترك في هذه الإساءة إلا القليل أو الشاذ «الذي يثبت الشدة» كما يقولون.
وجنى على الأخرى أبناؤها البررة. أبناؤها المجدون العاملون؛ الذين أغرقوا الأسواق بمصنوعاتها، فقضوا على «باتا .. صديق الحفاة» بين عشية وضحاها، وأغنونا نحن المعدمين المعسرين عن خزف سكسونيا وسيفر، ويسروا لكل فرد في هذه الضائقة المستحكمة أن يدخل السرور على أهله وولده في كل عيد بكل براق ومرقش؛ يشبه الخز ويخجل دودة القز فتتوارى في شرنقتها ولا تخرج إلى ضوء النهار بعد اليوم.
هذا ما نعرفه عن اليابان، أو قل ما يعرفه سوادنا وتتحدث به مجالسنا، كل ما رخص ثمنه وبهر منظره وأحكم تقليده من منتجات الآلات؛ بين نسيج ومطاط وصفائح شتى وخزف مرقم وزجاج... و... و... ونحن بالرغم من شعورنا بالارتياح لوجود هذه السلع في متناول يدي ويدك، نقضي بها الحاجة «إلى أن يفرجها ربك»، على الرغم من هذا كان من أثر هذا التبذل أن رسخ في نفوسنا شئ من الاحسار ومن السخرية لكل ما هو ياباني .. حتى باتت كلمة «ياباني» مرادفة لكلمة رخيص أو مزيف أو مصطنع .. وأود لأتنحى عن معارفي الجغرافية والتاريخية لأستطيع تصور ما يرتسم في عقل العامي عن هذه البلاد، التي جنى عليها نشاط بنيها حتى عند الأمم المتأخرة أمثالنا.
وبدهي أن سواد الناس في هذا البلد أميون، وسواد الأقلية من القارئين غير مكبين على قراءة الصحف ؛ والذين يقرأونها قليلو الاهتمام بتتبع ما ينشر عن أمثال : مؤتمر نزع السلاح، المعاهدات البحرية بمنشوكو .. حتى يتيسر لهم أن يسمعوا باليابان في ميادين السياسة العالمية، وأقل منهم الذين بقي في ذاكرتهم شئ عن المفاجأة التي بغتت بها اليابان العالم منذ ثلاثين عاما حين انتصرت على الدب الروسي في البر والبحر، وغرست قدمها الاستعمارية في طرف القارة الآسيوية مؤذنة بتوسع لا يعرف مداه.
منذ ذلك اليوم بدأ الناس في العالمين القديم والجديد يفهمون مغزى جديدا لما اسموه «الخطر الأصفر» وبدأوا يخشون هذه الأمة الناهضة خشية تختلف عما كانوا يحسون به قبلا من بعض الأزدراء «لياجوج وماجوج» فلا يذكرون اليابان والصين إلا بالاستخفاف والسخرية فقوم كانوا يشبهونهم بالقردة لبست حلل الغرب ونقلت علوم الغرب وقلدت دول الغرب، فسمت ابناءها البارون والمركيز والكونت والأميرال والمارشال والكولونيل.
وكنا صبيانا في المدارس وكان يتاح لنا أن نقرأ ما كان يكتب في ذلك الحين وقبله ببضع سنين، وتدرج الأمر بنا إلى الحرب العظمى فكان حظ اليابان من خطرها الفعلي قليلا لعدم متاخمتها للعدو، فإذا جاءت مؤتمرات السلام لم نستطع أن نفهم لإشراك هذه الدولة في تقرير مصير الأمم إلا أنه مراعاة لخاطرها ومكافأة على انتصارها للحلفاء في ذلك الركن السحيق من الباسفيك، ومن المفهوم أن نهضة اليابان كانت بانتحالها المدنية الغربية بحذافيرها بمادتها وشكلها فكان الذين لا يعلمون يقولون «ما هم إلا مقلدون سيطرحون عاداتهم وتقاليدهم المجيدة ظاهريا وتغويهم المدنية الأوربية بزخرفها فيؤول أمرهم إلى ما آل إليه أمر الغرب في الزمان الخالي».
ولكن تعالوا نر إذا كان من العقل في شئ أن نصبح، ونحن بلا حاجة إلى التعريف، بحيث يخول لنا أن نستخف بمثل اليابان واليابانيين تبعا لاستخفافنا بالياباني من السلع، ولعل القليلين منا الذين يقرأون الأنباء الخارجية يقلبون شفاههم السفلى عندما يسمعون أن اليابان تحدت «عصبة الأمم» بانسحابها منها لئلا يتدخل أحد في سياستها تجاه بني لونها في الشرق الأقصى. وأنها فسخت العهد البحري لأنها لا ترضى أن تكون في المكان الثاني في القوة البحرية لا لترامي أطراف سلطنتها واتساع أرجاء ملكها فهي بعد جزيرات متجاورة ومناطق نفوذها في متناول يدها بل لأنه في وضعها في المكان الثاني سبة. وتأبى إلا أن تكون مع الإمبراطورية البريطانية والولايات المتحدة الأميركية على قدم المساواة برغم الفارق بين حاجة كل إلى الأساطيل.
وليس هذا مجرد حنكة سياسية من ملك أو وزير أو وزارة وليست شعوذة حزب سياسي يتملق الدهماء ويبغي الفوز في الانتخابات، ولكنه صورة الشعور القومي وصدى العزة الوطنية، والنتيجة التي لا مناص منها للجد، للإخلاص، للتفاني في خدمة القومية ابتداء من العامل الصغير في العمل الذي يعيش على حفنة من الرز المسلوق .. إلى الملاح الذي يجوب البحار .. إلى الجندي الذي يحمل السلاح.. إلى السياسي الذي يخدم إمبراطوره وبلاده.. إلى الإمبراطور ذاته خادم القوم وسيدهم.


1935

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى