عبد الفتاح البارودي - 2- فن المسرح..

(تحية للأستاذ الفاضل زكي طليمات)

المسرح وقيمته التصويرية:

ماذا يصور المسرح؟ إنه بصور ما أودعه المؤلف في مسرحيته من أفكار وتجارب. ولما كان لهذا الفن - كما لكل فن - أسلوب خاص في التصوير كان من اللازم أن تكون تلك الأفكار والتجارب مما يمكن تصويره بهذا الأسلوب دون سواه. والمفروض أن طريقة التأليف المسرحي تجري - فينا - على النسق الآتي: يلتقط خيال المؤلف بعض احتمالات الحياة ويكون منها مجموعة مستقلة من الحوادث المتصلة تستحيل في ذهنه إلى حوادث مرتبة ترتيبا معينا وهذه يعبر عنها بواسطة شخصيات وهؤلاء يعبر عنهم شعورهم وتفكيرهم عن طريق ما يلفظون به من قول

فإذا جاز لنا أن نقارن بين الفنون عامة من حيث أساليب التصوير فماذا يكون شان المسرح؟.

المشاهد أن من الفنون ما يجنح للخيال المبهم ومنها ما يهبط إلى الواقع السطحي بينما المسرح - فيما يبدو - يشكل التجارب والأفكار المجردة في قوالب ملموسة دون أن يقلل من روعة ما كانت عليه (خيالا) أو يزري بما صارت إليه (واقعا) يقول (آبركرمبي) وهو يشرح رأي أرسطو بهذا الصدد ما مؤداه: (إن الفن المسرحي إنما وجد لكي يعطي صورةومادة لضرب خاص من التنبه الخيالي. ووجود الفن يستلزم وجود التنبيه الخيالي. . . ومن الممكن أن نصور الحياة كما هي تماما ولكن الأمر الذي يحرك الشعور هو أن نتصور الحياة كما يمكن أن تكون وهنا يصبح الخيال قوة قادرة على الإيحاء. . . وربما كان عمل الخيال لا يعدو مجرد تقطير الأحداث الواقعية باستبعاد جميع نواحيها السخيفة. .)

فهل لنا أن نتخذ من هذه الواقعية الفنية مبررا قويا لتفضيل الفن المسرحي على غيره؟ المصطلح عليه انه من الصعب - إن لم يكن من العبث - أن نفاضل بين الفنو بإخضاعها كلها لمقاييس جمالية واحدة بل ينبغي أن نراعى (الخامة) التي يستعملها كل فن على حدة. ومع هذا فقد نستطيع المقارنة بينها بالمقارنة بين هذه الخامات المختلفة وحينئذ يتبين لنا بجلاء أن خامة المسرح أغناها عنصرا وأقواها قدرة على التصوير الحي. فالمسرح بعناصره الثلاثة - أي التأليف والإخراج والتمثيل وأدواتها ووسائلها الخاصة المتآلفة - يمتاز على الفنون التي تصور (الجسم) - كالنحت - بالحياة والحركة. . . ويمتاز على الفنون التي تصور (الشكل) - كالتصوير اليدوي والآلي - بأبعاده الثلاثة. . . ويمتاز على الفنون التي تصور - (الحركة) - كالرقص والبانتوميم والميم - بالإفصاح الذي لا يغنى عنه الإيماء. . . ويمتاز على الفنون التي تصور (الفعل) كالشعر والقصة - بالتجسيد والتحديد. . . . أكثر من هذا فالمسرح يمتاز على الفنون جميعا في تصوير (اللحظات الفنية) التي هي مناط الاهتمام من كل فن. بيان ذلك إننا إذا أردنا - فرضا - تصوير حقيقة كبرى كالموت - وليكن موت أحد الفنانين مثلا - بشتى الطرق الفنية فان الفنون المكانية أي التي تشغل من الوجود مكانا ما كالنحت - ستتمثل اللحظة الفنية في غمضه عينية. . . والفنون الزمانية - أي التي تشغل من الدهر زمانا ما كالموسيقى - ستتمثل اللحظة الفنية في صوته وهو يتهدج ويخفت قبيل موته. . أو نحو ذلك بينما المسرح ستمثل اللحظة الفنية في كل ما بينه وبين الحياة من صلة: فمشهد يظهر شعور تلاميذه وعارفيه بالألم. . . ومشهد يظهر احتفال الناس بآثاره ومشهد يظهر ما ألم به من ظلم في حياته ومشهد يظهر ما صار إليه من مجد وهكذا.

بمثل هذه المزايا التي لا تتوفر الفن آخر استأثر التصوير المسرحي دون غيره أو اكثر من غيره من الفنون بتصوير الطبيعة البشرية والدوافع الإنسانية على مدى العصور فمن تصوير للنزعات العنيفة قديما إلى تصوير للمثاليات في عهود الرومانتيكية إلى تصوير للواقعية المجردة من الرياء أو العرف الاجتماعي، ثم الكشف عن مكنونات العقل الباطن في العصر الحديث.

وبمثل هذه المزايا كان للتصوير المسرحي دون غيره أو اكثر من غيره من الفنون فضل احتضان الآراء والنظريات الفلسفية والنقدية على مدى العصور. وليس أدل على ذلك من أن المسرح أمكنه حتى في العصور الاستبدادية أن يردد - وحده - ما يشاء من الآراء بفضل قدرته البارعة على تصوير ما يشاء من الأجواء. ولنضرب مثالاً واحد لذلك بعهد الديكتاتورية الرومانية القديمة فقد استطاع بعض المسرحيين وقتذاك أن يصوروا كثيرا من الأجواء الحرة الطليقة - نقلا عن اليونان - بينما تشكلت سائر الفنون الأخرى قسرا بما يوائم سياسة تلك الديكتاتورية البغيضة.

كذلك انفرد التصوير المسرحي دون غيره أو اكثر من غيره من الفنون بالتوغل في أعماق النفس البشرية وإظهار دفائنها التي لا نكاد نصدق بها أحيانا. من ذلك مثلا (عاطفة الكراهية) التي يقال إنها تتولد في الخفاء بين الأب وابنه تمشيا مع قانون البقاء. فهذه العاطفة لم يكتشف مجرد احتمال وجودها إلا منذ بدا فرويد واتباعه في القرن الماضي يهتدون إليها. . ومع هذا فالمسرح يصورها منذ مئات السنين! فبالرغم مما يبدو في المسرحيات - نقلا عن مظاهر الحياة - من توقير الأبناء لآبائهم وعطف الآباء على أبنائهم (أو ما يسمونه عقدة الكترا وعقدة أوديب نسبة إلى تعلق الفتاة الكترا بابيها القائد أجاممنون وتعلق الملك أوديب بابنته انتيجونا واسمينا في الأساطير والروايات الإغريقية) إلا إننا نجد بالاستقراء أن للآباء أو في نصيب من السخرية والتحقير في الروايات الهزلية كما نجد أن معظم الروايات - هزلية وغير هزلية - تدور حول شاب يحب فتاة ويقوم أبوها أو أبوه بدور (العاذل) أو ما شاكل ذلك. وربما لا نجد تفسيرا لهذا كله إلا عاطفة الكراهية التي أسلفنا الإشارة إليها.

ولكن. . . قد يقال أن التصوير المسرحي مهما بلغت قيمته في العصور السالفة ذات الطابع الهادئ فقد اصبح في العصر الحديث ذي الأساليب الميكانيكية اقل قيمة من بعض الفنون الأخرى - والسينما على الأخص - لأسباب كثيرة منها: انه يصور الحوادث تصويرا بطيئا ويحصرها في زمان معين ومكان معين، الفكرة الواحدة إلى فصول متقطعة. . ويصطنع التقديم والتأخير في ترتيب حوادثها والتضخيم في تعبيره عنها لفظا وحركة، وهذا في مجموعه لا يطابق الواقع ولا المعقول بل لعله يتنافى معها! بينما السينما تعرض للناس ألواناً مجهولة لهم وتروح عن نفوسهم وتؤثر فيهم بواقعيتهم ومنطقها المعقول. . . الخ.

والحق أن الأمر - من الناحية الفنية على الأقل - ليس كذلك.

فبطأ التصوير ميزة للمسرح لأنه يهيئ للمشاهد فرصة الانفعال في كل مشهد بينما السينما لتتابع اللقطات - التي لا تعد أن تكون مشاهد - تتابعا فظيع السرعة لا تتيح حتى مهلة التأثر.

وأيضا حصر القصة في زمان معين ومكان معين ميزة للمسرح. إذ يضطر المؤلف إلى قصرها على اعظم حوادثها دلالة وأثاره ومغزى وبذلك بكون مركزة وخالصة من الشوائب فتزداد روعتها.

وكذلك تجزئة الفكرة الواحدة إلى فصول متقطعة ميزة للمسرح. فمن المعلوم أن المسرحية تتطور دائما في مصطرع فكري وعاطفي وفني هو (الحبكة) لذلك فان تجزئتها إلى فصول تتيح للجمهور شيئا من الراحة واستعادة النشاط وتتيح للمؤلف - وهذا هو المهم فنيا - الانتقال من تيار إلى آخر واستئناف التصوير كلما وصل تطور الحوادث وتعقدها إلى ما يسميه الفنيون (الطريق المسدود) بعكس السينما التي تتخطى هذه الطرق المسدود بالانتقالات المفاجئة في قفزات آلية لا جمال فيها.

وأما ترتيب الحوادث ترتيبا يغاير الواقع بتقديم بعضها وتأخير البعض الآخر فميزة من ميزات المسرح الهامة لأنه لا يغار الواقع على هذا النحو إلا تنظيما لحوادثه التي قد تقع كيفما اتفق وانتشالا لها من الفوضى والتماسا لتعليل حدوثها منطقيا وتهيئة لما يتوخى في العمل الفني من انسجام وتناسق.

وكذا التضخم في الإلقاء والأداء من ميزات المسرح التي يعتد بها لأن في تضخيم الألفاظ والحركات - في الحدود الفنية - إجلالا لما تدل عليه من مدلولات وإظهار لملامح الشخصيات ومواطن الانفعالات تماما كما ينحت النحات تمثاله من مادة فخمة وكما يصبغ الرسام لوحاته بأصباغ فخمة وهكذا بل أن هذا لا يعدو أن يكون مقاربا لما نفعله في حياتنا العادية حين نقص نبا نظنه هاما فنتكئ على بعض الألفاظ ونتحرك حركات خاصة بقصد التفهيم والتأثير. المسرح على هذا النحو يعمل ما وسعه على التفهيم والتأثير لذلك يضفي بأساليبه جلالا على الحوادث يجعلها ذات وزن.

وقل مثل ذلك عما يأخذونه على الفن المسرحي من إيهام أو تخييل أو مبالغة لأن العبرة بمدى إحساسنا بالصورة النهائية التي يصورها لا سيما ونحن نعلم أن ما يجري فوق المسرح أن هو إلا (تمثيل) بحت وليس واقعا. فقد نشاهد في نصف ساعة مشهدا يصور قرونا بأكملها. وقد نسمع تهامس ممثلين وبجانبها مباشرة ثالث لهما (يمثل) أنه لا يسمعهما. . إلى غير ذلك دون أن نصدم بمخالفة الواقع أو دون أن نحس من هذه المخالفة بنفور أو شذوذ طالما إننا نعلم أن للمسرح (اصطلاحات) لا تحول دون التأثر النهائي المطلوب.

ولهذا يجوز أن نشاهد في بعض الروايات سمات يكاد يستحيل وجودها بين البشر (كما في: رومير وجوليت) أو حلول للمشكلات غير معهودة الحديث في دنيانا (كما في: ولكننا ننتهي من المشاهدة متأثرين اعظم التأثر سواء بتصوير (شكسبير) في الرواية الأولى لقوة الحب الطاهر أو بتصوير في الرواية الثانية لمغزاها الرائع: (الظروف تغير الأحوال

وأياما كان الأمر الدفاع عن فن ما لا يستلزم الزراية على فم آخر. ويكفينا من الفنون جميعا أن تنهض بما تمارسه في حدود قدرتها على هذه الممارسة. غير أن هذه لا يبرر الأخذ بظواهر الأمور فنغتر بالسينما دون اعتبارات فنية ونجاري العامة وأوساط الناس في نظرتهم المتواضعة إلى المسرح العظيم. . .

(للبحث بقية)

عبد الفتاح البارودي


مجلة الرسالة - العدد 759
بتاريخ: 19 - 01 - 1948

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى