محمد عبد حسن - لعبة الصبر.. قصة قصيرة

( لعبة الصبر القديمة في يديّ تحطمتْ )
– حسب الشيخ جعفر –

ما زال في العمر متسع للجنون.. مكان آخر بعيداً عن صفيحتك الصدئــة هذه، أنت أكثر صدأ منها.. هل تدرك ذلك؟ نعم تدركه، وتدرك أنه لولا دخولك المتكرر للحمام لكنت الآن شيئاً آخر.. كومة صدأ بني أغمق لوناً من الصفيحة التي أمامك.. وجهك ممتلئ بالحفر.. أخاديد شقتها عصا الرجل الذي بدأ يشيخ، كانت تصلك وأنت في أبعد زاوية في الصف الأخير، يقول لك: اقرأ.. فتقرأ.. وتبقى تقرأ حتى تستقر عصاه فوق رأسك. يضربك مرة أخرى فيهبط رأسك، ينحني جذعك كله حتى تستقر جبهتك فوق ساعديك المضمومتين على الصفيحة، لقد حملتها معها إلى (طرمبة السبيل)، قبل ذلك راقبتها وهي تفرغ الدهن في واحدة أخرى كبيرة اعتادت أن تحفظها في زاوية ميتة خلف باب المطبخ تماماً.

في اليوم الأول.. ألبستني، في الصباح، (دشداشة) بيضاء ترتفع كثيراً فوق كاحلي، (لاطية) أبي المتهرئة.. رافتها بعناية ثم وضعتها فوق رأسي، تبعتها حافيا، وعند باب بيت الرجل أخرجت لي، من تحت عباءتها، نعلا جديداً رصاصيّ اللون ضاعت قدمي فيه، إنه كبير.. قلت لها، “أحسن. ستكبر قدمك سريعاً”، وكبرت قدمي أسرع مما كنت أظن، ضاق النعل، تمزقت أوصاله، وكنت أربطها مستخدما أسلاكاً رفيعة أجدها عندما يرسلني الرجل لأحضر له شيئاً أو يجيء دوري في تنظيف الدار.. داره، وقتها يترك مكانه الأثير، خلف المسند الخشب الحامل للمصحف، بين الوسائد الخضر.. ويتبعني بعصاه، يشير إلى الزوايا المعتمة، فرش الأرض القصبية، هنا.. ارفع هذا.. نظّف.. اكنس جيداً، وهو، بين كل ذلك، يرفع صوته بجنون محافظاً على نسق قراءته، وهم يرددون خلفه وكأنه ما زال متربعاً أمامهم، وكنت أردد معهم متتبعاً رأس عصاه حاملاً إبريق الماء النحاسي وكفي ترتجف بشدة تحت عنق فوّهته الطويل، “إياك أن تحوّل الأرض طيناً”، حوّلتها يوماً متعمداً، ركلني حتى تعب، بعدها ألقاني في الطريق ورماني بالصفيحة، بقيتُ دقائق.. جسدي يشرب بلذّة برودة تراب الزقاق الذي لم تصله الشمس بعد، كنت أتفحص الصفيحة، أبحث عن جسدها اللّماع الذي كان يبرق عندما غسلتها أمي تحت (طرمبة السبيل).. تركت الماء ينساب داخلها، اختفت بقايا السمن. “ستحملها معك. تضعها أمامك، وفوقها تضع (جزء عمّ)، وتحفظه بداخلها عندما تعود، فهمت؟ “كانت تستقر أمامي مطّعجة صدئة، ضربتها بالأرض فانفصلت ْ عن وجهها الداخلي طبقة صدأ رقيقة. في اليوم التالي حملتها بيدي، وكانت أمي تمسك يدي الأخرى، تتدلى من يدها الثانية دجاجة بيضاء سمينة. قبلها الرجل، ثم قبلني. عدتُ إلى مكاني.. الزاوية البعيدة في الصف الأخير. قرأتُ معهم أولا، بعدها تهتُ حتى انتفض جسدي عندما استقرتْ عصاه فوق هامتي.

* * *

“صباح الخير ملا”. بدأ شاربك يسود، صوتك يغلظ، وكان الرجل قد بدأ يشيخ، ينطوي، عبارته القديمة تثقل، تتطاير أحرفها، متقطّعة، من فمه، تصل إلى أذنيك، ربّما لم يعد يقول شيئاً، فقط يرفع رأسه إليك، ومرة أخرى تقول: “صباح الخير ملا”، فيصلك الصوت أثيرياً.. واضحاً هذه المرة: (لا صبّحك، لا ربّحك، تخدم سبع سنين ما لك بخت)، نقشها برأسك، سبع سنين وأذناك تمتصانها يومياً، تطاردك نظرات الصبية، إنك أطولهم قامةً، ومع ذلك تلملم نفسك خجلاً خلف صفيحتك. اضطررتُ للحضور مبكراً كل صباح قبل أي أحدٍ آخر، أمتص عبارته وحدي، أشهد فطوره، أجمع حاجياته، أنظف الدار، أملأ الزير ماءً، أجلس خلف صفيحتي قبل أن يحضروا، سبع سنين حفرت فيها مكاناً لي على الأرض الطينية، بعدها طردني الرجل، (لم يعد مكانك هنا. أصبحتَ رجلاً، أنظر إلى شاربك. سبع سنين وأنت لم تختم (جزء عمّ)، لم يعد مكانك هنا). خرجتُ وحدي. كان جالساً، لا يستطيع النهوض، بين وسائده الخضر الباهتة. أشار إلى الباب بعصاه. خرجت. لم أنظر خلفي. عند النهر.. كوّمتُ ثيابي على الضفة، قرصتني أولاً برودة الماء، بعد لحظات اعتدت عليه، عمتُ على ظهري تاركاً تيار المد يحملني، بدت السماء أمامي زرقاء واسعة، أفقاً آخر.. أرحب كثيراً من دار الرجل.. ودارنا.. أسقف قصــبية واطئة، حيطان حبلى بشكل غريب. كان النهر يحملني بحنوًّ أبوي. قبل أن أصل دعامــات جســر المدينة القديـــم عدتُ، كــان المــاء قد لامس كــم (دشداشتي) المتدلي. لبستها وانطلقتُ.

* * *

تركت المدينة خلفي. غابتْ عن ناظريّ. كنت أستعيد الصور في رأسي، أجترّها ثم ألقيها بين أرجل الحمار الذي يحملني. (سأحملك).. قال لي الرجل، (أنت ترى أن ليس معي ما أحملك عليه غير هذا الحمار، وما دمتَ لا تملك شيئاً تدفعه لي.. ستساعدني في إدخال البضاعة إلى الخان، ماذا تقول؟). وافقتُ. كان الحمار هزيلاً، تحت حوافره تركت كل شيء: المدينة.. النهر.. الصبية الآخرين.. غابات النخل.. أعتاب البيوت المرشوشة بالماء عصراً.. الأنهر الصغيرة التي كنّا نتسلى بالقفز فوقها.. الكهول المنحوتين تحت سقيفة القصب قرب عمود الكهرباء المنير ليلاً، وجودهم الدائم هناك منعنا من الاقتراب منه والتصويب على مصباحه بدقّة، لم تستطع حَصانا التهامه فبقي وحده يضيء.. (الملا) الغارق بين وسائد خضرٍ ممزقة، حنكه الطويل المستقر فوق كفيه المضمومتين على رأس عصاً صغيرة نابتةً في حجره.. النساء المتجمعات عند (طرمبة السبيل). (لقد أصبحتَ كبيراً، ألا تنظر إلى نفسك؟ النساء أصبحن يتحرجن من وجودك. عندما نصل، ضع (الصينية) على الأرض وانصرف. سأعود وحدي). كنت أحملها على رأسي ممتلئة بأوانٍ وصحون وأشياء أخرى وضعتها أمي فيها بعد أن وضعت فوق رأسي خرقة لفّتها بشكل عمامة صغيرة، أتبعها محاذياً صف البيوت القصبية، على يساري تمتد تلك البركة الأزلية الآسنة. أقفز فوق مجاري المياه الممتدة من البيوت إلى البركة، طقطقة الأواني تجعل أمي تلتفت: (حاذر أن يقع شيء). لا أذكر أن شيئاً وقع مني يوماً، إلا أنني، وأنا أحمل بضاعة الرجل إلى داخل الخان، أحسستُ أن قواي تخونني، كنت مرهقاً، ظهري يكاد ينقطع بعد أن أخذ منه ظهر الحمار مأخذه. وكان الرجل ينظر إلي، يراقبني محذراً: هذه الصناديق مملوءة بالزجاجيات، وما دمتَ مرهقاً إلى هذا الحدّ سنتركها هنا الليلة إلى الغد ثم تحملها إلى الغرفة هناك. ارتح الآن.

تركني. كانت البضاعة مكومة وسط الخان، وكنت، أنا الآخر، مكوّماً فوق أحد الصناديق الخشب، حولي تتوزع غرف الخان الموصدة بأبواب خشب عالية منقوشة بتشكيلات بارزة تتكرر، بذات التتابع، على جميع ضلف الأبواب فيما تحتل نافذة من الزجاج تقسّمها شرائح خشب تمتد بشكل شعاعي من منتصف ضلع النافذة الأسفل باتجاه زواياها العليا، نافذة فوق كل باب، في الركن البعيد المظلم سلّم حجري يقود إلى الطابق الأعلى. هذا فقط ما رأيته في الليلة الأولى قبل أن أغفو. في الصباح وجدت جسدي قرب صندوق خشبي، وكان ساعدي الأيمن، المطوي تحت رأسي، متخشباً. استيقظتُ قبل أن يحضر الرجل حاملاً إليّ شيئاً التهمته قبل أن أعرف ما هو بالضبط، بعدها بدأت بحمل البضاعة وتوزيعها على الغرف كما يريد. صناديق الزجاجيات إلى هذه الغرفة. هذه الرزم.. أقمشة حريرية وقطنية.. إلى الغرفة هناك.. يمين السلم. عطور.. توابل.. جلود مدبوغة.. أكياس ممتلئة بذوراً.. ثياب يمانية.. خيوط من الحرير.. النايلون.. حبال من القنّب، أشياء كثيرة وزعتها على الغرف، وهو يتبعني: ضع هذه هنا.. وهذه هناك، انتبه لقارورة العطر الكبيرة، هذه الجرة مملوءة بماء الورد، أخرى بماء النعناع، أضعها على الأرض بعناية، أنتهي من توزيع البضائع على الغرف، أوصد الأبواب، وأنظف ساحة الخان.

(ما رأيك أن تبقى معي)؟ إنها المرة الأولى التي أراه فيها بوضوح. كان ضوء الشمس يفرش نصف ساحة الخان المرصوفة بطابوق فرشي متآكل زاحفاً ببطء غير ملحوظ باتجاه قدميه. طوال الطريق كنت خلفه، أتبعه فوق حمار منهك، أزرع عيوني في ظهره، في اللحظات القليلة التي كلمته فيها كي يحملني.. لم أنتبه لخصوصية ملامحه، كنت أبحث فيه عن الوجوه التي أعرفها، وقد أعطاني ظهره قبل أن أجد فيه بعضاً ممّن أعرفهم. كان ضوء الشمس قد التهم قدميه، بدت الأخاديد حول عينيه أكثر عمقاً منها في الصباح. وأنا أنظف الساحة، ساحة الخان، كان قد أعدّ (نارجيلته) جالسا فوق كرسي خشب بمسند ظهر مرتفع؛ عارضته، التي يستريح عليها الساعد الأيسر، مكسورة. اختلط صوت قرقرة (النارجيلة) بخشخشة المكنسة على الأرض الطابوقية، فيما كان الدخان الأبيض يرتفع بأشكالٍ هجينة منبعجة باتجاهات شتى متلاشياً بين ذرات الغبار السابحة في ضوء الشمس الذي أكمل التهام قدمي الرجل متسلقاً ساقيه.

(ماذا قلت)؟ أقول إنها سبع عجاف أخرى قضيتها متنقلاً بين الخان، حيث أسكن، وحانوت الرجل وسط المدينة، أحمل البضائع، أملأ القوارير بالعطر، أرتّب الجرار، أكنس الخان.. أمام الحانوت.. أرشّه بالماء كل صباح، (الماء يجلب الرزق)، ويجلب العصا على رأسي، (أي عصا)؟ عصا الرجل، أنت لا تعرفه، ولم تسمع عنه، أما أنا.. فأعرفه أكثر من أي شيء آخر، ما زالت عبارته محفورة بذاكرتي، لم أستطع انتزاعها.. نسيانها، ونسيانه هو: بقايا رجل تسنده وسائد خضر باهتة، دعك منه الآن. أين أضع هذه؟ تلك؟ أتتبع إشارته، أزيح التراب المزمن عن الرفوف.. عن البضائع المكدسة بفوضى في مؤخرة حانوته خلف ستارة قماش سميكة تتدلى من السقف. ما تصنع بكل هذه؟! (هذه بضاعة الحرب).. أجابني.. ثم أضـاف: (لقد تغيرت أذواق الناس، أنت لا تدرك ذلك، فقد كنت طفلا عندما اندلعت الحرب. امتلأت المدينة بالجنود، بالعربات المصفحة، عجلات كثيرة كانت تقف قرب الشط لتغلّف بالطين، وجوه ذابلة.. سلع ملونة.. أجساد هزيلة.. أشياء كثيرة تأتي من مدن بعيدة.. عيون ضائعة تحت طبقات الملح والبارود، تدخل المدينة ليلاً، وتتركها في الصباح، قد يعودون مرة أخرى مشياً أو محمولين.. وقد لا يعودون. تخيّل مدينة كهذه.. تمتلئ فجأة بأشياء غير مألوفة، كثيرة وغريبة. غير أن أحدا لم ينتبه لتوسع المقابر، بدأت تضيق، هدمت أسوارها، تمددت كأورام خبيثة ملتهمة جسد الأرض البكر، شيدت فيها القباب، الغرف، الأقفاص الحديد، فتحت فيها شوارع جديدة.. هل تتصور ذلك! كانت المدينة ترقص بصخب، وتدفن موتاها بهدوء. لم يعد أحد يفكر بكل ذلك الآن، إن لنا قدرة عجيبة على النسيان.. نسيان كل شيء، وتذكّر كل شيء عندما تمتلئ الرأس خمراً.. شاياً ثقيلاً.. دخانا ً معسّلاً).

رتبّتُ كل شيء خلف الستارة. كنتُ أبقى حتى ساعة متأخرة محاولاً إعادة تنظيم سنين من الفوضى. نجحتُ في عزل الكثير من الزجاجيات.. صحون كبيرة، قوارير برؤوس مستدقة، أشياء مهشّمة، أقمشة ممزقة، أشياء لم أرها من قبل. رتبّتُ كل شيء. وكان يراقبني حاملاً معي، من زاوية لأخرى، عدة أكياس من القماش مشدودة الرؤوس، واحد منها فقط كان مفتوحاً، وجدته ممتلئاً باللّعب، أخرجتُ واحدة منها أتفحصها. (إنها “لعبة الصبر”).. قال لي: الشيء الوحيد الذي ما زال مطلوباً منذ أن بدأت الحرب وحتى الآن، أبتاعها من مدينة منسية.. بعيداً عن المكان الذي التقيتك فيه مسيرة ثلاثة أيام بلياليها، أمّا هم.. فلا أدري من أين يأتون بها، أظنهم يصنعونها بأيديهم، أحدهم أخبرني أنهم يجدونها مرمية في المدينة كل صباح فيتسابقون إلى جمعها، إنهم لا يتركون غريباً يبيت عندهم، فمدينتهم تفتح أبوابها ضحىً، وقبل المغيب بساعات يشيعون جميع الغرباء بصحبة حراس يوصلونهم خارج حدود المدينة، إن نصف أرباحي هو من بيع هذه اللعب، كل الذين تراهم يأتون إلى المتجر يأتون في الحقيقة من أجلها، بعضهم يطلبها مباشرة، فيما يخاف آخرون مع أنها ليست ممنوعة، أمّا أنا.. فلا أعطيها إلا للذي يلّحُ في طلبها، لا أريد أن أدخل في خطيئة أحد.. كما يقولون. إلا أنه دخل في خطيئتي إذ تركني أسرق واحدة، وعلّمني، صباح اليوم التالي، كيف أضعها في حجري وأنظر في عينيها وأنا أتحدث، كل ذلك بعد سبع عجاف، وبعد أعوام فيها أُغيث الناس وفيها عصروا . أعصر الدمية كل ليلة محاولاً منع انتفاخها الذي يحلّ عقدة لساني، يسجر بركاناً تحت ذاكرتي، يوقدها فتشتعل.. تشتعل بأكملها دون أن يحترق منها شيء! تنتفخ اللعبة بين يدي. حدثتها عن أمي.. الوجه المؤطر دائماً بفوطة سوداء محمرّة.. كالحة، كانت متعة، بالنسبة لي، أن أذهب معها، وكان همّاً، بالنسبة لها، أن تقف طوال الصباح وحتى الظهر في طابور سرعان ما يتشتت بظهور شرطي كهل عند بوابة المركز المختفي أسفل جسر عالٍ يقود إلى مركز المدينة، أتشبث بظلّها.. وبذيل العباءة الشاحبة، انتفخي.. تنفسي بعمق كما كنت أفعل لمّا تحتويني ساحة الموقف بعد لحظات تبلغ فيها القلوب الحناجر. أتابع تمدد بطن الدمية.. تفتّقها عند منطقة السرة.. فأمسك، أترك ذلك لليلة أخرى، وقت أكون فيه وحيداً، أتأكد من قفل الباب بالترباس، أوصد النوافذ عدا الكوة الهزيلة المفتوحة على فضاء السلّم، أتركها كي لا أختنق.. وتختنق معي لعبتي. (أصبحتَ صامتاً أكثر من قبل). كان محقاً. إذ كنت أجد متعتي في الحديث، فقط، مع اللعبة، بغير ذلك.. تصبح الذاكرة مرجلاً يغلي.. تقترب لحظة انفجاره، وقتها أترك المتجر راكضاً إلى غرفتي في الخان، أضع اللعبة بين يدي وأبدأ، تنقطع أنفاسي، أتركها تنقلب، تتمدد أمامي كبالون منتفخ يوشك أن يطير، هل هي حقـــاً (لعبة الصبر) التي سرقتها يوماً وأخفيتها تحت (دشداشتي)! (هي بعينها،هذه اللعبة التي تراها، ……)، كان، وهو يحدثني، يقلّب واحدة بين كفيه، (تكبر بشكل غريب يصعب تصديقه، تمتص جميع ما في جوفك وتحتفظ به، هذا سرُّ إقبال الناس عليها، أنت تدري أن الحروب.. الاختفاء المفاجئ للكثير من الأشخاص.. الأزمات المستمرة من عهود سحيقة.. الجوع الذي شبع وسمن في أجساد الكثيرين.. كل هذه وأشياء أخرى غيرها جعلت صدور الناس تنتفخ، بعضهم يتنفس فقط عندما يضع اللعبة أمامه)، هكذا أصبحتُ، لم يعد حضني يتسع لها فأجلسها أمامي، بطنها المنتفخ يصطدم بصدري. رأسي يختنق بما أريد تقيؤه أمامها، وكذلك صدري. أبدأ.. لا أدري من أين. المهم أن تبدأ، ثم تترك ذاكرتك تنساب.. أو تتدفق بعنف عبر المنافذ المتاحة. لم تعد للعبة قدرتها الأولى على الامتصاص، ما أتقيؤه يفرش أرض الغرفة، يغيّب البساط.. الطابوق الفرشي المنخور، يزحف على الدمية. الشق الذي ظهر قبل ليال عند السرة يتمدد طولياً للأسفل والأعلى، أحس لزوجة سائل ساخن يلامس صدري ويتخثر بسرعة، أتمنى لو أستطيع السكوت، إلا أن لساني يتحرك، أطبق فكيّ فيخرج الصوت من عينيّ.. أذنيّ.. منخريّ. كان الشق قد بدأ يخترق عنق اللعبة، السائل مازال متدفقاً.. سرعان ما يتخثر على جسدي، عندها أدركتُ أن الوقت قد فات ولم يعد ممكناً قضاء ليلة أخرى مع (لعبة الصبر). فلأستمر إذن.

* * *

كنت أعلم أنه، ككل الذين جاءوا قبله، سيسرق واحدة من (لعب الصبر)، ولمّا فعل.. قررت خصم ثمنها من أجرته المستحقة نهاية الشهر.

بدأت أراقبه عبر الكوة الضيقة المفتوحة على فضاء السلم. تحدث عن أشياء كثيرة.. وكانت الدمية تكبر بين يديه. أول الأمر.. لم أهتم كثيراً بحضور جلساته، فهو، كالآخرين الذين طُحنوا من قبل، ما يثيرني فقط هو التعرف على بعض خصوصياته التي يسرّ بها إلى (اللعبة)، كنت أحضر بدافع الفضول.. أحضر حينا وأغيب حينا، إلا أنني أصبحت مواظبا بعد أن تجاوز حجم الدمية الحد الذي يستطيع قبله ترك الحديث إليها، أردت أن أشهد نهايته. قضيت ليالي عدة منحنياً على الكوة، عظام ظهري بدأت تؤلمني، رقبتي تخشّبت، وكثيرا ما كنت أنام على حالتي تلك.. منحنياً.. مسنداً رأسي إلى جدار السلم الرطب، غير أن ظهور تفتّق عند سرة (لعبة الصبر) جعلني يقظاً أكثر، فهذا يعني أن النهاية قد اقتربت، أردت أن أشهد موته، رأيت بطن (اللعبة) ينشق عن نصل حاد اخترق بطنه ثم بدأ يعلو ممزقاً صدره وصدر (اللعبة) معاً فيما كان الدم المنساب على صدره وفخذيه يتخثر بسرعة تاركاً بقعاً حمراً داكنة فوق البساط الملوّث بكوم من قيء لفظه الرجل قبل أن يخترق النصل رأسه.

أيلول – 1997 م
أيار – 1999 م
محمد عبد حسن


* نقلا عن:
محمّد عبد حسن: لعبة الصبر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى