نيِّر مسعود - كبير مُحاسبي الهَرم.. قصة قصيرة - ترجمة عن الأُردية: هاني السعيد

اسم فرعون وتمجيداته منقوشان على جدران الهرم الأكبر. مما يُستخلص منه نتيجة بدهية مفادها أنَّ فرعون هو الذي بنى هذا الصرح. غير أنَّ ثمة نتيجة بدهية أخرى يمكن استنباطها كذلك،وهي أنه قبل نقش اسم فرعون وتمجيداته، كان بناء الهرم مكتملًا بالفعل.

لكن بكم من الوقت قبل ذلك؟ بضعة أشهر؟ أم بضع سنين؟ أم بضعة قرون؟ أم بضعة آلافٍ من السنين؟ إذا ادَّعى أحد أنَّ الهرم كان موجودًا قبل فرعون بعشرين ألف سنة، فلن يكون هناك أي دليل لدحض هذا الادعاء، سوى أنَّ اسم فرعون منقوش عليه، بل سيكون هذا الأمر نفسه برهانًا على أنه أثناء نقش الاسم كان هذا الصرح مبنيًا وموجودًا قبله. لكن منذ متى كان موجودًا؟ يعجز المؤرخون عن الإجابة على هذا السؤال، وكذلك المعماريون: أما المؤرخون فلأنهم لا يملكون وثائق بناء الهرم، وأما المعماريون فلأنهم لا يملكون أجهزةً تحدد عمره. فأجهزتهم المتطورة لا يمكنها أن تبين كم مضى من عمر الهرم، ولا كم بقى له منه. اللهم إلا أنَّ هذه الأجهزة تشير إلى رحلة الهرم الطويلة جدًا في كلا الاتجاهين الماضي والمستقبل.

بالنظر إلى مساحة الهرم نفسه والأراضي المحيطة به، قدَّر المعماريون بالطبع أقصى عدد من الرجال كان يمكنهم أن يعملوا معًا في بناء الهرم، وأدنى مدة كان يمكن أن يستغرقها أقصى عدد من الرجال في إتمام بنائه، وهذه المدة الأدنى تبلغ مئات السنين.

لكن في عهد الخليفة عُثِر على العبارة التالية منقوشةً على أحد ألواح الهرم الحجرية:

“لقد بنيناه في ستة أشهر، فلنَرَ من ذا يهدمه في ستة أشهر”.

كان لا بد أن يُشعِل هذا غضب الخليفة. فأُحضر العمال، وبدأت المعاول تنقض على جانب واحد من الهرم. لكن لم يحدث أي شيء سوى أنَّ أسنَّة المعاول تكسَّرت، وتتطاير الشرر من الحجارة. فزاد غضب الخليفة. فأمر بتسخين حجارة الهرم من الأمام، وعندما اشتد توهجها صُبَّ عليها الخل البارد. فطقطقت الحجارة، وتشققت تشققات ضيقة، فانهالت عليها معاول جديدة، وكسَّرت منها قطعًا صغيرة. فطابت نفس الخليفة، وعاد إلى عاصمته تاركًا وراءه أمرًا بألا يتوقف العمل في أي وقت من الليل أو النهار لمدة ستة أشهر.

***

وبينما كان الشهر السادس يُوشك على نهايته، وقف الخليفة مع أمرائه مجددًا في مواجهة الهرم. فشعر بخيبة أمل لما رآه، فكل ما أمكن تكسيره من الهرم خلال كل هذا الوقت مجرد حجارة بحجم جدار صغير. وقد لاح قبو صغير خلف هذه الحجارة موضوعٌ فيه برطمان منحوت من حجر. قُدِّم البرطمان للخليفة، وعندما أُفرغت محتوياته، تبيَّن أنها أحجار كريمة، ومجوهرات ذهبية من طراز عتيق. ثم لُوحظ أنَّ البرطمان الحجري أيضًا عليه عبارة منقوشة، قُرِئت بأمر الخليفة، نصها:

“إذًا ها أنت لم تستطع هدمه. خذ أجرة عملك وانصرف.”

كان الخليفة حينئذ يقف أمام القبو، وظِلُّ الهرم المخروطي ممتدًّا وراءه إلى مدى بعيد في الصحراء. فاستدار وسار ببطءٍ حتى وصل حيثما ينتهي الظل. ثم تقدم إلى الأمام قليلًا وتوقف. الآن بدأ ظلُّه هو أيضًا يتراءى على الأرض. وبرؤية الظلِّ فقط في ضوء شمس الصحراء، بدا كأن الخليفة يقف على قمة الهرم. لكن لم يكن ثمة أحد على القمة. عاد الخليفة ووقف أمام القبو مجددًا، والآن أصدر أمرًا بإعداد كشف حساب كامل بنفقات مهمة الستة أشهر هذه، وتقديمه إليه. كما أصدر أمرًا آخر بضرورة إبداء تحديد دقيق لقيمة الكنز المُستخرج من البرطمان.

ومن المشهور أنَّ قيمة الكنز التي حُدِّدت كانت مساويةً تمامًا للمبلغ الذي أُنفق على مُهمة فتح قبو الهرم، ولا عجب في ذلك – أي في شُهرة مثل هذا الأمر –. كما لا ينبغي العجب أيضًا من انتشاره حتى قبل الانتهاء من الحسابات. أما ما يثير العجب حقًا فهو أنه خلال هذه المسألة برمتها قد نُسِي تمامًا كبير المُحاسِبين الذي كان مسؤولًا عن هذين الحسابين.

***

كان مشهورًا بأنَّ لديه إحصاء بكل شيء في مملكة الخليفة، حتى ذرات الرمال. وما أن تُوضع أمامه حُزم كُشوف الحسابات حتى يُقدِّر مجاميعها بنظرة واحدة. كما قيل أيضًا: إنَّ أخطاء الجمع والطرح تقفز على الورقة من تلقاء نفسها لتظهر أمام عينيه. لذا لا عجب من أنَّ معظم الناس كانوا يخافون من كبير المُحاسِبين أكثر من الخليفة نفسه. واعتاد سكان العاصمة أنْ يقولوا لبعضهم – تارةً لإثارة السُّخرية، وتارةً لإثارة الخوف -: إنَّ مساحة المشاعر في قلب كبير المُحاسِبين ومساحة الأفكار في عقله ممتلئتان بالأرقام. وهذا الأمر– أو بالأحرى ما يُشير إليه هذا الأمر – لم يكن مُجانبًا للصواب كثيرًا، على الأقل حتى ليلة ذلك الحساب.

في تلك الليلة كانت كُشوف كلا الحسابين مفرودةً أمامه، وقدَّر بنظرة واحدة أنَّ كلا الحسابين متساوٍ على وجه التقريب. ومع ذلك رأى من الواجب أن يفحص ويُمحِّص كل بند في كلا الحسابين. وكان مرؤوسوه الأكْفَاء قد سجَّلوا كل شيء بعناية فائقة. فلم تكن هناك أي زيادة أو نقصان في قيمة أي بند على الإطلاق. ولحساب المجموع أمسك أولًا كشف حساب الكنز المُستخرج من البرطمان. لكن عندما بدأ يكتب ناتج الجمع تعثر قلمه، وأحس أنه ارتكب خطأً في موضعٍ ما من حِسبته. فجمع الحساب مجددًا، ووجد ناتج الجمع الآن مختلفًا بعض الشيء، لكنه أحس مجددًا بارتكاب خطأ ما، فأعاد جمع الحساب من جديد، ووجد الناتج مختلفًا كذلك. وفي النهاية وضع ذلك الكشف جانبًا، وأمسك كشف نفقات مُهمة فتح القبو، لكنه كان كمن يريد فقط تأكيد شبهةٍ لديه، وفي الواقع تكرر نفس الأمر مع هذا الكشف أيضًا. فكانا أمامه كشفين وستةً أو سبعةً أو ما يزيد من نواتج الجمع. وبعقلٍ مُشوَّش، أهمل الكشفين هكذا وخرج. كان هناك سؤال ما يزعجه، وسؤال ما يريد الوصول إليه، لكن لا يجد طريقًا له وسط زحام الأرقام.

ظلَّ يقف في ضوء القمر بالخارج حتى بدأت قدماه تُنَمِّلان، وكفَّاه يحتَقِنان، عندئذٍ فقط أحسَّ بأنَّ حشد الأرقام يتباعد عنه باستمرار شيئًا فشيئًا. وبدت له هذه الأرقام المتباعدة عنه كجماعاتٍ من الناس. فرأى الاثنين والاثنين يسيران متشابكي الأيدي، ووراءهما ناتج جمعهما، الذي لم يستطع أن يُميِّز ما إذا كان أربعةً أم شيئًا آخر. بعد مرور هذا الحشد الأخير عاد إلى الداخل. ووضع الكشفين فوق بعضهما، وراح يفكِّر ما إذا كان ناتجا جمعهما سيكونان مُوحَّدَين أم مختلفين؟ ثم طفق يفكِّر ما إذا كان هو نفسه يريد أن يكون الناتجان مُوحَّدين أم مختلفين؟ ثم ماذا يريد الخليفة؟ عندئذ أدرك فجأة أنَّ هذا هو السؤال الذي كان يبحث عن طريقٍ له وسط زحام الأرقام، ماذا يريد الخليفة؟

أمضى بقيَّة الليل وهو يفكِّر، ماذا يريد الخليفة؟

عند حلول الصباح غلبه النوم. فرأى في منامه الخليفة وفرعون يسيران مُتشابكي الأيدي، ومتجهين إلى نهاية ظِلِّ الهرم، لكن لم يكن ثمة أحد على القمة. وأدرك في منامه أنه يحلم، فترك عينيه تنفتحان.

كان النهار يتلاشى عندما أحرق كلا الحسابين وأحالهما إلى رماد، وسَرَّج بغل أحد عبيده، وارتدى ثياب العبد، ثم انطلق إلى الخارج. كان اللا مُبالون يتجوَّلون في الأسواق مُتشابكي الأيدي، ومكوِّنين مجموعات صغيرة. لم يكن هناك سوى موضوعٍ واحدٍ فقط هو مدار الحديث في المدينة يومذاك، إذ كان جميع الناس يقولون لبعضهم بعضًا: إنه لم يُعثَر على ذرة فرقٍ بين قيمة المبلغ الذي أُنفق على فتح القبو، وبين كنز البرطمان، وأنَّ هذا الحساب صدر من جانب كبير المُحاسِبين، الذي لديه إحصاء بكل شيء في مملكة الخليفة، حتى ذرات الرمال.

***

أما هو فلم يخرج من البيت بأي نية للعودة. بل نخس البغل، وترك وراءه الأسواق، وضيَّع نفسه في متاهات الصحراء التي تتطاير فيها ذرات الرمال كالشرر، ويُلقي الهرم على أرضها ظِلَّه المخروطي.



كبير مُحاسبي الهَرم. قصةالكاتب الهندي: نيِّر مسعود

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى