مصطفى سيف - أرواح ودمى.. قصة قصيرة من أدب الفانتازيا

في إحدى الفيلات الساحرة القابعة في أرقى أحياء القاهرة كان هناك ثلاثة أصدقاء يتبادلون أطراف الحديث في بهوها الفاخر، ورغم أن كلا منهم يعمل في مجال مختلف إلا أنهم أصدقاء منذ الطفولة أولهم ذلك الشخص البدين الذي يفرط دوما في التدخين، بالرغم من أنه طبيب وحين تسأله كيف لطبيب أن يدخن ويأمر غيره بعدم التدخين، يضحك ويقول هكذا أريد أن أصنع، وهكذا أريدك ألا تصنع، إن التدخين مجرد إرادة لا أكثر، إنه الدكتور مجدي طبيب في أواخر الثلاثينيات، أما الثاني الذي يختفي وجهه خلف شاربه الكث فهو الأستاذ وحيد صاحب شركة سياحية، أما الثالث فهو صاحب الضيافة رجل الأعمال سامي الذي يشتهر دوما بأنه مغامر يدخل الصفقات التي يظنها الجميع خاسرة ليحولها إلى مكاسب طائلة هكذا لا يخشى المغامرة أو يخشى شيئًا، لو اقتربت معي منهم ربما تناهى لك فيما يتحدثون، كان الأستاذ وحيد يرتشف الشاي وهو يقول:

-في الشهر الماضي قابلت سائحا غريب الأطوار كان يواجه بعض المشاكل مع شرطة السياحة؛ لأنه كان يصطحب معه حيوانا غريبًا أشبه بالسحلية، ولكنه أكبر قليلا وحين ساعدته في حل تلك المشكلة مع الشرطة صرنا صديقين وتبادلنا بعض الأحاديث كان من المهتمين بمجال السحر فتحدثنا عن عالم الأرواح كان يقول لي: هل تعلم أن الأرواح البشرية يمكنها أن تغادر الجسد وتسكن جسدا آخر وتحتله وتغير نمط حياته؟ بالطبع لم أقتنع بما يقول، فأجابني أن للجن أرواحا مثل الإنس وكونهم يستطيعون أن يخترقوا حياة الآخرين ليس حكرا على الجن، نعم ستقول: إن الجن لا يحويهم عالمنا المادي لكن يحويهم عالم له أبعاد أخرى كل ذلك قد أتفق معك فيه، لكن أليس حين يموت البعض قد تبقى أرواحهم الشريرة لتمس بعض الناس الآخرين؟ أليس النوم هو موت؟ لذلك بحثت في ذلك الأمر كثيرا حتى استطعت التوصل لعقار يستطيع أن ينقل أرواحنا ويجسدها في جسد آخر.

قاطعه سامي: ما تقوله جنون لا يصدقه عقل ولا أستطيع أن أتفهم تلك النظرية الغريبة عالم الأعمال يعلمني دوما أن المعادلات المنطقية فقط هي التي لها وجود ومعادلتك ليست منطقية فحاصل جمع واحد وواحد لا يكون إلا اثنين.

أجابه وحيد: أتفق معك يا صديقي، ولكن ذلك السائح المجنون أرسل لي بالأمس تلك القنينة قائلًا: ذلك هو العقار الذي يتحدث عنه.

أمسك سامي بالقنينة برهة وفتحها وقربها من أنفه ليتنسم رائحتها العطرية الرائعة ثم أدناها من فمه في ذهول من الجميع وبمنتهى الجرأة لم يستطع أن يمنع روحه المغامرة في احتساء السائل الموجود.

الدكتور مجدي: ماذا فعلت يا مجنون؟

سامي: لا شيء.. أعجبتني رائحتها فشربتها، أوه ذلك المذاق الشهي كأنه عصير من كل فواكه الأرض، أشعر كأنه مزيج من الفراولة والليمون والمانجو يا له من مذاق شهي وها أنا أمامكم لم يحدث لي شيء، إنه مجرد هراء.

هدأ مجدي قليلا ثم قال: حسنا يا صديقي أخبرني هل ستذهب للحفل الخيري السنوي نهاية ذلك الأسبوع؟

سامي: قطعا يا صديقي، فجومانة ستحضره، ولا أستطيع أن أمنع نفسي من أن أراها، يا لها من ساحرة إن قيل إن الجمال تجسد في جسد سيكون جومانة، وإن قيل إن الجمال تجسد في روح سيكون جومانة أيضًا، هي في حياتي كالشجرة الظليلة التي أهرب إليها من عالمي المادي الجاف.

تبادل الصديقان الابتسامات وهم يتابعون صديقهما المغرم وهو لا يتوقف عن الحديث عن جومانة، إنه حديث لا ينقطع، حديث يقتل الوقت حتى أتى وقت الرحيل، فرحل الأصدقاء.

بينما ذهب سامي للنوم ولا يفكر إلا في شيء واحد جومانة، حدث نفسه كم هو يهواها ويتمنى أن يظل معها طوال عمره، ونام سامي ولم يعلم أنها ربما تكون آخر مرة ينام فيها؛ لأن روحه غادرت جسده، لكنه ما زال يتنفس وما زال حيًا، رحلت روحه لتبحث عن وليفتها في عالم الأرواح لتحلق بجوارها في سماء الصفاء.

* * *

– آنسة جومانة , لقد نسيتِ باقي الحساب ..

قالها البائع وهو ينادي على تلك السيدة باهرة الجمال التي اشترت تلك الدمية ورفضت وضعها في حقيبة بل ضمتها إلى قلبها وهي تخرج من المتجر، وحين غادرت ذلك المتجر لم تنتبه إلى أن هناك من يتبعها، عيون يملؤها الجوع وقلوب يملؤها الشره، وحين انعطفت لشارع جانبي حيث سيارتها هاجمها الرجلان ليضعاها في سيارة ويهربان بها بعيدًا.

وكر مقيت كريه الرائحة كرائحتهما أو كروحيهما قال أحدهما بينما عيناه لا تتوقف عن حركة عصبية تجعلها تغمض وتفتح بطريقة عصبية:

– اذهب وأجْرِ اتصالا بوالدها الثري من السنترال وأبلغه أننا نملك جومانة، إن أرادها فليدفع الفدية.

– كم سنطلب يا صالح؟

– خمسة ملايين جنيه ولن يرفض.

ضحك سالم بشره وذهب إلى السنترال وأجرى الاتصال، بينما صالح بقي وحيدا في الوكر الخاص مع جومانة يلمس بأنامله الغليظة وجنتها النضرة ويمرر أصابعه القذرة على شعرها الحريري بينما عيناه لا تتوقف عن حركتها العصبية ويهمس في أذنيها: بعد أن نقبض الفدية ستكونين لي فأنت لن تعودي لبيتك مرة أخرى، وابتسم في قذارة.

عاد سالم واتفق الاثنان على أن يتبادلا نوبة الحراسة فذهب أولا صالح للنوم بينما بقي سالم ساهرًا.

حين رقد جسد صالح كانت أفكاره تحلق عاليا في الملايين القادمة إليه بسهولة، يفكر ماذا سيفعل؟ ويمني نفسه برحلات حول العالم وقصور، حتى الجاكوزي وحمام السباحة لم يفلتا من طموحاته.

وقادته أحلامه للنوم ليرى رجلا يقاتل رجلا آخر ويتبادلان الضرب بقوة، يقترب منهما أكثر، ينظر في وجه أحدهما كأنه ينظر للمرآة، فالرجلان هما هو، نعم إنه صالح نفسه يقاتل صالحا، وصالح ثالث يقف يراقب ما يحدث، كان أحدهما صالح بهي المنظر، وصالح الآخر مقيت كحالته.

يشاهد المشهد في عجب ويحاول أن يوقف الشجار دون جدوى، لكن ما أوقفه هو يد سالم تهزه لأن يتسلم نوبة المراقبة.

أخذ صالح برهة من الوقت ليعرف أين هو ولماذا هو هنا قبل أن يقوم ليتسلم نوبة المراقبة.

جلس بجوار جومانة ليراها كما لم يرها من قبل؛ يرى روحا طاهرة سكنت جسدا بديعا، نظر إليها يحدثها: أعلم أنك تكرهينني كما لم يكره إنسان، أعلم أنك تمقتينني، ولكن كيف تمقتي طفلًا رأى فتاة تحتضن دميتها لتستمد منها الأمان، وهو ملقى في الضواحي بلا مأوى يرتوي من عرق الحياة المر شرابا كالعلقم يزيد مرارة أيامه؟

كيف تمقتي طفلًا بحث عن نفسه فلم يجد شيئًا يدله عليها ولم يجد أثرا يقتفيه حتى يصل لروحه؟ أعلم أنك خائفة مني بل أنا أيضا أخاف نفسي، ولا أعرف لماذا أقول لك هذا الكلام؟ لكنني أشعر بأنني أريد أن أتحدث، بداخلي بركان يريد أن ينفجر وأريد أن أتحدث مع أحدهم.

أزاح صالح الشريط اللاصق من على فمها لم يخف أن تصرخ، وهي أيضا شيء بداخلها حثها على عدم الصراخ.

قالت: وهل الطفل يختطف أو يقتل أو يغتصب؟ لا تدعي البراءة يا هذا.

-إن مات بداخله الأمل صار الطفل وحشًا.

-وماذا عن الإيمان؟

-عندما كنت صغيرًا ذهبت إلى المسجد مرة وكنت جائعًا ممنيًا نفسي بما قيل لي إن الله يحب من يطيعه ويصلي له، فيرزقه فخرجت من المسجد وأنا جائع أيضًا، وكانت هذه نهاية الإيمان بالنسبة لي.

-كم أنت فقير يا هذا! كيف تحيا بلا أمل وإيمان؟ إنك ميت وأنت لا تعلم.

نظرت لدميتها الملقاة على أطراف الوكر قائلة: إن بداخل كل منا دمية يستمد منها الأمان، لكن دميتك هي وحش أحال نفسك للجحيم وحملها بعيدًا عن طريق الصواب. أنك حقا تثير الشفقة.

دمعت عينا صالح وهو ينظر للدمية الملقاة بعيدا ثم ذهب في اتجاهها وأحضرها وقدمها لها وتلاقت العيون. لاحظت أن عينيه توقفت عن حركتها العصبية التي كانت تشعر حين تلاحظ أن العينين تقاومان النظر بعفوية، وأن هناك من يسيطر عليها ليريها ما يشاء.

– كم هي رائعة عيناكِ ، هذه أول مرة منذ بدأت الليلة أنظر إليها، هكذا أشعر أنني تحت تأثير سحر خاص تملكينه داخلها..

شعرت بالخجل، فأغمضت عينيها وأزاحت رأسها عنه.

تابع قائلا: أشعر كأنني ولدت من جديد على يديكِ، أشعر كأنني أول مرة أتنفس هواء نقيا غير الهواء الملوث الذي حييت به طوال حياتي.

أزال القيود عن معصميها وأمسك برسغها وأخرجها من الوكر، هربا معا بينما سالم ما زال يغط في نومه.

كان الصباح قد بدأ يتنفس وبدأت الناس تخرج لعملها، بينما هو وهي ما زالا يسيران في طريقهما المحفوف بالمخاطر، فسالم لن يرحمه إن عرف بما صنع، فجومانة تعرف ملامحه وسيعتبر ما فعله صالح خيانة.

* * *

قام الخادم بمحاولة إيقاظ سامي دون جدوى، فسامي لا يستجيب لمحاولة الإيقاظ، فما كان من الخادم إلا أن اتصل بالدكتور مجدي صديق سامي الصدوق الذي قدم على عجل هو ووحيد، فإنهما الوحيدان اللذان يعلمان بما فعله سامي بنفسه بالأمس.

-التنفس طبيعي والنبض طبيعي إلا أن جسده بارد جدا كأن حرارة الحياة غادرت جسده (هكذا قال الدكتور مجدي).

– ماذا فعل بنفسه ذلك المجنون؟ وإلى متى سيظل في تلك الغيبوبة؟

– لا أعلم إلى متى سيظل نائما، ولا أعتقد أنه يوجد علاج لإيقاظه.

– سأحاول أن أرسل لصديقي السائح الغريب ربما كان لديه علاج لحالته.

* * *

أوصلها صالح لمنزلها وهم بالعودة، إلا أنها استوقفته قائلة: هل سأراك مجددًا؟

لم ينطق صالح.

– لا تقل لي إنك دخلت حياتي وخرجت منها في ليلة واحدة كأنك عابر سبيل.

– هذه هي الحقيقة يا سيدتي ما أنا إلا عابر سبيل وحان وقت رحيلي.

– بل أنت ملاك بداخلك روح طاهرة لكن لوثتها الحياة التي لا ترحم.

انطلق صالح يحمل نفسه حملا بعيدا عنها، لأنه يشعر كأن عينيها مغناطيس يجذبه جذبا إليها، انطلق والأفكار تغتاله والصراع يتولد بداخله بين روحين، ماذا فعلتَ بنفسك أيها المجنون؟

لقد فعلت الشيء الصحيح لأول مرة في حياتي.

-كلا، لقد حفرت قبرك بيدك، سالم لن يتركك.

-لا يهم، فقط لأول مرة شعرت أنني حي.

-ألم تكن حيا من قبل؟

-كنت حيًا كالموتى، هذه أول مرة أتذوق النور.

لم يقطع ذلك الصراع بداخله إلا عيون سالم الغاضبة وهو يحمل مطواة حادة ويغرسها في قلب صالح وهو يقول: كالعادة أنت جشع يا صالح أردت أن تحصل على الفدية وحدك، فاحصل عليها الآن.

هرب سالم بينما صالح مسجى على الأرض مثخن بالدماء تغادر روحاه الاثنتان جسده.

* * *

كان وحيد يتكلم بهاتفه المحمول مع السائح بلغته الأجنبية بينما مجدي يراقبه ينتظر جوابا شافيا لحالة سامي، إلا أن الإحباط على وجه وحيد انتقل بالقلق والتوتر على وجه مجدي قبل أن يغلق وحيد هاتفه ويقول لمجدي: الحل هو أن تتحرر الروح مرة أخرى من الجسد الذي سكنته، وذلك لن يتم إلا بأخذ ذلك الجسد للعقار أو أن يموت الجسد.

– وكيف نعرف ذلك الجسد الذي سكنته؟

– أخبرني أن الأرواح تبحث عن وليفتها وتبقى قابعة بجوار من تحب.

– جومانة؟ ومن الأقرب لها؟

– لا أعلم.

همّ كل منهما بالذهاب لبيت جومانة، إلا أنه أوقفهما سعال سامي، فنظرا إليه، وجداه يفتح عينيه ويتساءل أين أنا؟

– أيها المجنون ماذا فعلت بنفسك؟ الحمد لله أنك عدت إلينا، أخبرنا ماذا رأيت؟

– لم أر شيئا، فقط كنت نائما.

– لا عليك يا صديقي حمدا لله على سلامتك.

اتفقا على أن يلتقيا للذهاب للحفل الخيري، وفي الحفل الخيري ذهب سامي ليجلس مع معشوقته جومانة. لم يلحظ التوتر الذي ينتابها، وأنها أقل ترحابا به من كل مرة، ولم يعرف قصة اختطافها، فعائلتها قد أخفت الخبر عن الجميع، كانت جومانة تفكر بصالح ومصيره، ولم تعلم ماذا حدث له.

بينما كان سامي جالسا يحاول أن يحدثها عن أعماله ومشروعاته وصفقاته المستقبلية، وهي لم تنظر إليه طوال السهرة، حيث كانت تنظر نحو الباب تمني نفسها بقدوم صالح في أي لحظة، لذلك لم تر تلك الحركة العصبية التي تصدرها عينا سامي.


«مصطفى سيف» يكتب: (أرواح ودمى)- قصة قصيرة من أدب الفانتازيا - لأبعد مدى

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى