عبدالرشيد محمودى - فنون القرى..

فى زمن غير بعيد كان يطوف بالقرى فنان يسمى الأديب الأدباتى. وكان هذا الأديب يرتدى طربوشا تخرج منه فتلة فى طرفها خرزة، وكان يدور برأسه فتدور فتلة الطربوش، بينما ينشد أشعارا بالعامية بعضها محفوظ وبعضها مرتجل فى التو واللحظة على إيقاع طبلة صغيرة. وكان يبدأ إنشاده دائما بالإعلان عن نفسه: أنا الأديب الأدباتى. ولقد اختفى الأديب الأدباتى من المشهد الريفى، ولكن لدينا الآن نموذجا يمثل شعره. وأعنى بذلك أغنية الشيخ إمام عيسى: أنا الأديب الأدباتى/ غايظنى حال بلدياتى/ لكن بلدنا سمعها تقيل,.إلا أن أحمد فؤاد نجم الذى ألف كلمات الأغنية كان يستند إلى تراث شعبى عريق يضرب بجذوره فى الماضى البعيد، ومن المؤكد أنه جرت عليه تحولات عدة عبر العصور. وكان الأديب الأدباتى شاعرا جوالا يقصد بيوت الميسورين من الناس ويرتجل بعض أشعاره فى مدحهم والإشادة بأسرهم ويتلقى عطاياهم.
ونحن نعلم أن المتنبى كان أحد هؤلاء الشعراء المداحين الجوالين. ولأبى نواس قصيدة أنشدها فى مدح الخصيب أمير مصر، ويقول فيها: تقول التى من بيتها خف مركبى/عزيزٌ علينا ان نراك تسيرُ. أما دون مصرِ للغنى متطلبٌ/ بلى إن أسباب الغنى لكثيرُ. وهو ما يذكرنا بأن قصيدة المديح كانت تتضمن أحيانا وصفا للرحلة الطويلة التى تجشمها الشاعر سعيا إلى الممدوح، وكان لهذا الجزء من القصيدة وظيفة واضحة هى تأكيد علو شأن الرجل وأريحيته وسخائه فى إكرام من قصده من بعيد.
ومن المحتمل أيضا أن يكون الأديب الأدباتى هو النموذج الأصلى لمغني المونولوج الذين ظهروا فى المدن وأصبح بعضهم نجوما فى القرن العشرين، وذلك مثل عمر الجيزاوى وإسماعيل ياسين وشكوكو.
وكان هناك عصر يفد فيه إلى القرية فئات أخرى من الشعراء الجوالين. ومن هؤلاء المداحون الذين كانوا ينشدون فى مدح الرسول وتعداد مناقبه. ومنهم من كان ينشد قصصا يراد بها الوعظ واستخلاص العبر، وذلك مثل قصة سعد اليتيم وما تعرض له من ظلم، وقصة صبر نبي الله أيوب على ما ابتلي به من محن..
ومن الشعراء الجوالين الذين كانوا يفدون إلى القرى شعراء الربابة منشدو الملاحم، مثل الزير سالم وسيف بن ذى يزن وأبو زيد الهلالى سلامة. وكان هؤلاء جوالين، ولكنهم كانوا أحيانا يقيمون بين أهل القرية لبضعة أيام فى مضيفة تخصص لهم ويحيون فيها أمسيات لإنشاد أشعارهم، ويتكفل أهل القرية أو الميسورون منهم باستضافتهم، ويحملونهم عند رحيلهم بالعطايا. ويخيل إلى أن هؤلاء الشعراء انقرضوا، إن لم يكونوا فى طريقهم إلى الانقراض. وقد التقى المرحوم عبدالرحمن الأبنودى ببعضهم (فى السبعينيات من القرن الماضى؟) وأخذ من أفواههم السيرة الهلالية وسجلها كتابة. فهل مازال لهم وجود؟
وأين ذهبت الغوازى؟ كانت الغازية تفد فى فترة طفولتى إلى القرية ومعها زوجها الطبال وحماها. وكان ثلاثتهم من الغجر الذين يقيمون بمعزل عن غيرهم من سكان الريف، ولكنهم كانوا يتسقطون أخبار الاحتفالات المرتقبة مثل الأعراس، والمواليد، وختان الذكور. وعندئذ يظهر الثلاثى (الغازية وزوجها الطبال والحماة) عند باب الأسرة المعنية، وتؤدى الغازية رقصتها على إيقاع الطبلة. والواقع أن الحدود غامضة بين رقص الغازية الغجرية وبين ما يسمى الرقص البلدى أو الرقص الشرقى أو هز البطن. ولكننا نعلم أن الغجر المقيمين فى مصر لم يخترعوا ذلك الشكل من أشكال الرقص. فله جذور عميقة عريقة فى ريف مصر. يدل على ذلك أن أى فتاة أو سيدة ريفية كانت تستطيع إذا اقتضت الحاجة فى مناسبة أو أخرى أن تتحزم وتؤدى الرقصة دون أى تدريب سابق. والأمر نفسه يصدق على الفتاة أو السيدة التى تعزف على الدربكة وفقا للإيقاع الصحيح (على واحدة ونص) دون أن تتلقى أى تدريب على ذلك. كانت خطوات الرقصة والموسيقى المصاحبة شائعة فى الجو الثقافى الريفى، وكانت حياة القرية هى المدرسة التى تعلم فيها الرقصة دون معلم.
ومن الفوارق التى تلاحظ بين الرقصة فى صورتها الريفية وبين الرقصة الحضرية أن الأداء فى هذه الحالة الأخيرة يستهدف بوضوح وعلى نحو صارخ إثارة الرجال. أما الرقصة الريفية كانت فى الأصل طقسا مصريا قديما يؤدى احتفالا بالزواج وتهيئة العروس لدخول دنيا الحياة الزوجية.
ويذكرنى هذا الشكل من أشكال الرقص برقصة الفلامنكو الإسبانية التى تؤديها عادة راقصات غجريات. ومن أوجه الشبه بين الرقص البلدى ورقص الفلامنكو أن الراقصة فى الحالتين قد تشارك فى عزف الموسيقى المصاحبة عن طريق صفق الصاجات (أو الكاستينيت الإسبانية). وهو ما يغرينى بأن أتساءل: هل هناك علاقة ما بين الرقصين؟ هل من المعقول أن نفترض أن الغجر وهم قوم رحل قد نقلوا رقص الغوازى البلدى إلى إسبانيا، وإلى الأندلس بصفة خاصة، وهناك تطور وامتزج بعناصر أخرى وتحول إلى رقص الفلامنكو؟ وهل يمكننا أن نقول إن الرقصة الإسبانية لها أصول عربية؟ وهناك سؤال آخر لافت للنظر ولا أستطيع الإجابة عنه. ومن الممكن أن يصاغ كما يلى: لماذا أصبحت صفة الأديب تطلق على الأديب الأدباتى صاحب الشعر العامى الحلمنتيشى بعد أن كان الأديب ينتمى فى نظر المبرد وطه حسين إلى عالم الثقافة الرفيعة؟ ولماذا أصبحت الراقصة الغجرية غازية (من الغزو)؟ ولماذا أصبحت العالمة عالمة (من العلم)؟
ولكن الأصول الريفية للفنون التى أشرت إليها تذكرنا على أى حال بأن الريف كان ذات يوم مركزا للإبداع الفنى ومدرسة لتفريخ المواهب. ويكفى أن نتذكر فى هذا الصدد أن الكتاتيب التى كانت تعلم حفظ القرآن وتجويد قراءته (أحيانا) كانت مدرسة أولى لكبار المقرئين. وكانت تلاوة القرآن مجودا فنا شائعا فى بعض الأحيان فى جو الثقافة الريفية، وكان باستطاعة الفتى الموهوب بعد تخرجه فى الكتاب أن يتلقى هذه الصنعة فى هذه المدرسة القروية الكبيرة دون وجود معلم محدد. وينبغى ألا ننسى بالمناسبة أن كوكب الشرق أم كلثوم نشأت وتعلمت الغناء فى تلك المدرسة العظيمة، وأحيت أولى حفلاتها فى الأعراس والمناسبات الريفية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى