سحر الأحمد - حمام‭ ‬السوق..

هذا‭ ‬المساء‭ ‬يشبه‭ ‬كل‭ ‬المساءات،‭ ‬عند‭ ‬انتهائها‭ ‬من‭ ‬الالتزامات‭ ‬الحياتية‭ ‬اليومية‭ ‬تدخل‭ ‬الحمام‭ ‬ترمي‭ ‬عنها‭ ‬أوراق‭ ‬التوت،‭ ‬تُطلق‭ ‬عنان‭ ‬الماء‭ ‬الدافئ‭ ‬لأقصاه‭ ‬على‭ ‬جسدها‭ ‬الذي‭ ‬مازال‭ ‬يضجُ‭ ‬أُنوثة‭.‬

بينما‭ ‬تتساقط‭ ‬حبيبات‭ ‬الماء‭ ‬صاخبة‭.. ‬تائهة‭.. ‬مبعثرة‭ ‬تغمض‭ ‬عينيها‭ ‬بابتسامة‭ ‬يلفها‭ ‬الحزن‭.‬

تستحضر‭ ‬من‭ ‬ذاكرتها‭ ‬التي‭ ‬تمنت‭ ‬أن‭ ‬تفقدها‭ ‬لتتخلص‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬الذكريات‭ ‬القاتلة،‭ ‬لم‭ ‬تكن‭ ‬تبالي‭ ‬تخليها‭ ‬عن‭ ‬الذكريات‭ ‬الجميلة‭ ‬أيضا‭ ‬في‭ ‬جملة‭ ‬الفقد‭. ‬هذه‭ ‬الصور‭ ‬ما‭ ‬فتئت‭ ‬تنخر‭ ‬في‭ ‬عقلها‭ ‬وروحها‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أجهزت‭ ‬على‭ ‬جسدها،‭ ‬تَشخَّص‭ ‬لها‭ ‬خميسها‭ ‬العتيق‭ ‬أو‭ ‬هكذا‭ ‬تسميه‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬أصبحت‭ ‬شابة‭. ‬هذا‭ ‬اليوم‭ ‬هو‭ ‬فرحة‭ ‬نهاية‭ ‬الأسبوع‭ ‬عند‭ ‬الأسرة‭ ‬يُتَوّج‭ ‬بالذهاب‭ ‬إلى‭ ‬حمام‭ ‬السوق،‭ ‬حيث‭ ‬يرتاده‭ ‬الرجال‭ ‬من‭ ‬الصبح‭ ‬حتى‭ ‬الثانية‭ ‬عشرة‭ ‬ظهرا،‭ ‬وبعدها‭ ‬حتى‭ ‬المغرب‭ ‬يصبح‭ ‬مُلكا‭ ‬لنساء‭ ‬الحي‭ ‬يقضين‭ ‬في‭ ‬هذا‭ ‬الوقت‭ ‬ما‭ ‬يحلو‭ ‬لهنَّ،‭ ‬ابتداء‭ ‬من‭ ‬استعراض‭ ‬أجمل‭ ‬الأثواب‭ ‬القصيرة‭ ‬الشفافة‭ (‬الشلحة‭) ‬وانتهاء‭ ‬بكل‭ ‬ألوان‭ ‬اللباس‭ ‬الداخلي‭ ‬النسائي‭ ‬يتبخترن‭ ‬بها‭ ‬كبيرات‭ ‬السن‭ ‬قبل‭ ‬الصبايا‭.‬

إلا‭ ‬أمي‭.. ‬أراها‭ ‬أمامي‭ ‬الآن‭ ‬وهي‭ ‬تقترب‭ ‬من‭ ‬امرأة‭ ‬شبه‭ ‬عارية‭ ‬تجلس‭ ‬على‭ ‬مصطبة‭ ‬مربعة‭ ‬لا‭ ‬تتعدى‭ ‬مساحتها‭ ‬ثلاثة‭ ‬أمتار‭ ‬في‭ ‬مدخل‭ ‬البهو‭ ‬المستدير‭ ‬الكبير،‭ ‬الذي‭ ‬تتوسطه‭ ‬بحرة‭ ‬صغيرة‭ ‬وبقربها‭ ‬صندوق‭ ‬خشبي‭ ‬مطعّم‭ ‬بالصدف،‭ ‬مهمة‭ ‬هذه‭ ‬المرأة‭ ‬استلام‭ ‬النقود‭ ‬أجرة‭ ‬الاستحمام‭.‬

تدنو‭ ‬منها‭ ‬أمي‭ ‬وتقول‭ ‬لها‭ ‬بصوت‭ ‬عال‭ ‬وكأنها‭ ‬تريد‭ ‬أن‭ ‬تُسمع‭ ‬الحاضرات‭ ‬أنها‭ ‬لا‭ ‬ترغب‭ ‬بالتعارف،‭ ‬فهي‭ ‬هنا‭ ‬لغرض‭ ‬محدد‭ (‬الاستحمام‭) ‬تقول‭ ‬أمي‭: ‬أريد‭ ‬مقصورة‭ ‬خاصة‭ ‬لي‭ ‬ولبناتي،‭ ‬تناولها‭ ‬ضعف‭ ‬أجرة‭ ‬الاستحمام‭ ‬المشترك‭. ‬نأخد‭ ‬مكانا‭ ‬قصيّا‭ ‬لتغيير‭ ‬ملابسنا‭ ‬بحذر‭ ‬شديد‭ ‬خشية‭ ‬أن‭ ‬تلمح‭ ‬أجسادنا‭ ‬الغريبات،‭ ‬وتحرص‭ ‬أمي‭ ‬دائما‭ ‬على‭ ‬أن‭ ‬نلبس‭ ‬ثوبا‭ ‬قطنيا‭ ‬مستورا‭ ‬كما‭ ‬كانت‭ ‬تقول‭.‬

ندخل‭ ‬مقصورتنا‭ ‬الخاصة‭ ‬بنا‭ ‬وحدنا‭ ‬وتبدأ‭ ‬مراسم‭ ‬النظافة،‭ ‬نستهلك‭ ‬الساعات‭ ‬والمياه‭ ‬بين‭ ‬غسيل‭ ‬الرأس‭ ‬والتلييف‭ ‬والتفريك‭ ‬لعشرات‭ ‬المرات‭ ‬حتى‭ ‬تصبح‭ ‬أجسادنا‭ ‬ووجوهنا‭ ‬مثل‭ ‬الخوخ‭ ‬الأحمر‭ ‬الذي‭ ‬نُسي‭ ‬حتى‭ ‬نضج‭ ‬زيادة‭ ‬عن‭ ‬اللزوم‭. ‬كانت‭ ‬النساء‭ ‬والصبايا‭ ‬في‭ ‬بهو‭ ‬الاستحمام‭ ‬يملأن‭ ‬المكان‭ ‬بالصخب‭ ‬والضحك‭ ‬وطرطقة‭ ‬طاسات‭ ‬النحاس‭ ‬ويتجاذبن‭ ‬الأحاديث‭ ‬بحكم‭ ‬التفاف‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬عائلة‭ ‬على‭ ‬جرن‭ ‬ماء‭ ‬واحد،‭ ‬بعد‭ ‬ذلك‭ ‬تبدأ‭ ‬حلقات‭ ‬الرقص‭ ‬والغناء‭ ‬ونحن‭ ‬في‭ ‬منفردتنا‭.‬

كل‭ ‬مرة‭ ‬نذهب‭ ‬إلى‭ ‬حمام‭ ‬السوق‭ ‬أكون‭ ‬منزعجة‭ ‬وأستطيع‭ ‬أن‭ ‬أعاتب‭ ‬أمي‭ ‬وألومها‭ ‬كوني‭ ‬أكبر‭ ‬أخواتي،‭ ‬لأنها‭ ‬لا‭ ‬تسمح‭ ‬لي‭ ‬بالانضمام‭ ‬إلى‭ ‬بنات‭ ‬جيلي‭ ‬ومشاركتهن‭ ‬شعائر‭ ‬الفرح‭ ‬البريء‭ ‬بالمرح‭ ‬والرقص‭ ‬وتبادل‭ ‬الأحاديث‭ ‬الجانبية،‭ ‬وتعيد‭ ‬عليّ‭ ‬كلامها‭ ‬كل‭ ‬مرة‭ ‬وباللهجة‭ ‬الصارمة‭ ‬نفسها‭ (‬يا‭ ‬ماما‭ ‬جسدك‭ ‬ليس‭ ‬مشاعا‭ ‬وممنوع‭ ‬بشكل‭ ‬قاطع‭ ‬أن‭ ‬يرى‭ ‬تفاصيله‭ ‬إلا‭ ‬صاحب‭ ‬النصيب‭) ‬ثم‭ ‬تردف‭ (‬الله‭ ‬يطلق‭ ‬نصيبك‭ ‬ويسترك‭).‬

فتحت‭ ‬عينيها‭ ‬وهي‭ ‬مازالت‭ ‬تحت‭ ‬الدوش‭ ‬بينما‭ ‬تماهت‭ ‬حبات‭ ‬الماء‭ ‬مع‭ ‬دمعها‭ ‬مع‭ ‬ذكريات‭ ‬سبيها‭ ‬ورميها‭ ‬في‭ ‬زنزانة‭ ‬لتكون‭ ‬عطيّة‭ ‬مجانية‭ ‬لكل‭ ‬سجانيها‭ ‬أيام‭ ‬اعتقالها‭ ‬في‭ ‬بلادها‭ ‬بعد‭ ‬اندلاع‭ ‬الثورة‭ ‬الشعبية‭ ‬المنادية‭ ‬بتحرر‭ ‬الشعب‭ ‬من‭ ‬كل‭ ‬الفساد‭ ‬الذي‭ ‬لحق‭ ‬بالبلد‭. ‬كان‭ ‬الماء‭ ‬ينزل‭ ‬مع‭ ‬دمعها‭ ‬فتحسه‭ ‬أسيدا‭ ‬ملعونا‭ ‬جعل‭ ‬أجزاءها‭ ‬تتساقط‭ ‬معه‭. ‬أنفها‭ ‬ذاب‭ ‬من‭ ‬رائحة‭ ‬دمها‭ ‬الذي‭ ‬تخثر‭ ‬في‭ ‬أروقة‭ ‬المتوحشين،‭ ‬رقبتها‭ ‬التي‭ ‬ضُبطت‭ ‬مصبوغة‭ ‬بألوان‭ ‬الموت،‭ ‬حتى‭ ‬أثداؤها‭ ‬تناثرت‭ ‬قطعـــــا‭ ‬في‭ ‬المكان‭ ‬وعلقت‭ ‬في‭ ‬مستقر‭ ‬أنفاسها‭ ‬حتى‭ ‬كادت‭ ‬تخنقها،‭ ‬يداها‭ ‬اللتان‭ ‬لم‭ ‬يعد‭ ‬لهما‭ ‬ضرورة‭ ‬بعد‭ ‬أنا‭ ‬رُبطتا‭ ‬معا‭ ‬وكأنها‭ ‬الأبدية‭ ‬لا‭ ‬فكاك،‭ ‬أما‭ ‬باقي‭ ‬أجزاء‭ ‬جسدها‭ ‬فكان‭ ‬مرتعا‭ ‬للغرباء‭ ‬جميعا‭.‬

تمنت‭ ‬لو‭ ‬تقول‭ ‬لأمها‭ ‬التي‭ ‬ماتت‭ ‬منذ‭ ‬عقود‭ ‬وبأعلى‭ ‬صوت‭ ‬الأجراس‭ ‬وما‭ ‬لصوت‭ ‬مآذن‭ ‬العالم‭ ‬أجمع‭ ‬أمي‭: ‬لو‭ ‬عاد‭ ‬بك‭ ‬الزمان‭ ‬أما‭ ‬زلتِ‭ ‬تخشين‭ ‬على‭ ‬جسدي‭ ‬من‭ ‬أن‭ ‬تراه‭ ‬الغريبات،‭ ‬لأنه‭ ‬كما‭ ‬زرعت‭ ‬بوعيي‭ ‬ليس‭ ‬مشاعا‭ ‬ولا‭ ‬حتى‭ ‬أمام‭ ‬بنات‭ ‬جيلي‭ ‬بل‭ ‬هو‭ ‬لصاحب‭ ‬النصيب‭. ‬أغلقت‭ ‬حنفية‭ ‬الماء‭ ‬ولملمت‭ ‬أجزاءها‭ ‬ولفت‭ ‬جسدها‭ ‬بمنشفة‭ ‬وخرجت‭ ‬من‭ ‬حمامها‭ ‬بعد‭ ‬أن‭ ‬ابتلعت‭ ‬الجوارير‭ ‬بريق‭ ‬عينيها‭ ‬وحياتها‭.‬

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى