محمد خضير - رسالة كورتاثار..

تدخل الرسائل البريدية خطابَ السرد باعتبارها عتبات أو محفزات ثانوية. ومن النادر أن يتألف النص القصصي من القوام التراسلي وأسلوبه الحقيقي وعنوان مرسله على اعتبار رئيسي. وما جعلني أحصي نصوص الرسائل، ولعي في الدخول على عمليات الارسال واعتراض الدلالة المرسلَة بكتمان شديد. بل تجاوزتُ ذلك الى الاشتراك في عملية التبادل البريدي من أخفى وسائلها، ونسجتُ على منوالها رسائل لا تبلغ هدفها، تضيع في فضاء الطرق والمحطات، او تصل هدفها بعد مئات السنين. هذه وسيلتي الى استباق الزمن ونصب الشواهد على نقاط المرور بين العقود المتوالية: كتابة قصص عند عُقَد طريق الحرير القديم.
لا تهمني رسائل الشهرة السريعة (ومنها رسائل الحب الخائب) وما يسببه تضمينها من اضطراب نفسي وهيجان عاطفي لدى القارئ؛ لكنني أصطفي الرسائل المنسيّة التي يعتّقها الزمن فيرقّق حواشي ورقها ويثبّت خطّ حروفها وينصب سطورها الأفقية أو العمودية غاباتٍ لا حدود لسكونها وغموضها (ومنها رسائل الحب الذي لا شفاء منه). ولو شئت لأحضرت معي الى "جلسة الأشباح" المتراسلة، نصوصاً لرسائل لا دليل على تبادلها أو وصولها. اذ كلما تعذّرت الوسائل واندثرت الأواصر، صار ممكناً تدخّل القراء بين المرسلين الأصليين، وتخيّل اللقاءات الممكنة بعد غيابهم الأبدي. وهذا هو الأساس المقصود في عملية التراسل السردي.
ولو أردنا تعويض رسائل اليأس والأسى بأوراق الورد (بتسمية مصطفى صادق الرافعي رسائله) وتحرّيناها في رسائل المفقودين والمطمورين والغرقى في مياه الزمن لاستأثرتْ باهتمامنا رسائلُ السجون المكتوبة على ورق السيجاير الرقيق، ورسائل الجنود قبل المعارك الطاحنة، ورسائل البحارة المقطوعين في عرض البحر، محشورةً في قنينة جرفتها الأمواج بعد سنين. فمن وحي هذا الانقطاع كتب أدغار ألن بو قصته التي تستتبع اللحظة الضائعة في بحر الأبدية، وعلى منوالها قد يكتب قصّاصو المستقبل رسالةَ الانسان الأخير على الأرض ويضعونها في كبسولة فضاء خارجي كي تضيع الى الأبد صرخته قبل فنائه. لكن الكاتب الجيكي ميروسلاف مروجيك اختصر عملية الارسال البريدي لحضارة الانسان التكنولوجي، فابتكر في نص قصصي قصير نظاماً بريدياً خيالياً يقف مُرسِلوه كأعمدة التلغراف المتجاورة، على مسافات متساوية خارج المدن، يتناوبون على نقل مقاطع "برقية" شفاهية، في ظروف مناخية عاصفة؛ وليس علينا إزاء هذا الإرسال السريع (الشبيه بالإرسال الالكتروني) إلا أن نخمن أهمية هذه الرسالة/ البرقية ومدى خطورتها.
إن أهمية رسالة تقتصر على طريقة إرسالها، هذا ما بحثه مارشال ماكلوهان وميّزَ بين نوعين من الوسائط: الباردة والساخنة، قبل أن ينصب الإنترنت شبكته العنكبوتية لتقضي عمليةُ الإرسال الإلكتروني على حياة الرسائل اللاسلكية. افترست الشبكة الرسائلَ مع حمولاتها الصوتية المنغَّمة كحشرات محلقة في فضائها السبراني. بهتَ الإرسال الكتابيّ الطويل، وانطوت مشاعر الرسالة المتموجة كبساط مخملي، وسيطرت الصورة المشفَّرة على مجرى الرسائل القديم. ثمة سديم يبتلع بثقوبه ومجساته عواطفَ الانسان وجوعه للخلود، ويعترض رسائله وأسلوبها الحريري ويلتهمه. لكن ثمة طريق خيالية تمتلكها القصص، هي ما ستسلكه الرسالة هرباً من الأسلوب التكنولوجي الوعر والغامض. إنه أقصر طريق لقصة تتحدث عن رسالة سرية. وشاهدنا على ذلك الأرجنتيني كورتاثار، ناقل الرسائل السريع، من سيبتكر نصَّ "الرسالة" خطاباً أساسياً.
في قصة كورتاثار (خطوط اليد) ينسلّ سطرٌ (خطّ) من رسالة ملقاة على منضدة من خشب الصنوبر، وينزل من إحدى القوائم، ويصعد الحائط ثم يدخل صحيفة، ويهرب بعدئذ من الحجرة وينزل بواسطة سلك مانعة الصواعق من السطح الى الشارع، ويستقل حافلة واقفة في منعطف، ويترجل من الحافلة بواسطة درزٍ في جورب امرأة شقراء، ويسير نحو منطقة الميناء، يتعرج ويتلوى وينحدر الى سطح سفينة تصدر توربيناتها صوتاً متناغماً، ويجري عبر ألواح سطح الدرجة الاولى، ومع انطلاق صافرة الإقلاع ينسلّ السطر من باب مقصورة حتى يصل الى رجل وحيد فيها، فيتسلق درز سرواله ويندسّ في صدرته وينزل منها الى المرفق حيث بحركة أخيرة يندسّ في راحة يد الرجل اليمنى، لحظة تبدأ بالإطباق على مقبض مسدس.
لا يتركنا سطر رسالة كورتاثار نتنفس حتى يكمل مهمته في قودنا عبر رحلة في شوارع المدينة ووصوله ليد الرجل البائس في مقصورة السفينة (وربما كان هو المرسِل). رحلة خطّ منتقِم يرسم طريقه في جملة عكسية متصلة "لا يشعر بها ولا يتبع أثرها إلا جرذان الميناء". دعابة سوداء لا نفيق من وطأتها إلا واليد ترفع قبضة المسدس لتضع النهاية، نهاية الانتقام. وهل من رسالة ترسم خطوطُها نصاً دقيقاً، ولا تحوك في الوقت نفسه شفرة النهايات المفاجئة، أو سرّ الميتات الغامضة في طياتها؟
نصوص الرسائل ــــ أكثر من اليوميات ــــ هي احتمالات سردية متناصّة تعبر الحدود والأزمان، كسطر رسالة كورتاثار، تحمل بين سطورها نُذُراً وإخطارات مصير غامض، بمختلف اللغات (وهل نحتاج ترجمة سطور رسالة ما مثل رسالة كورتاثار؟ وهل يلزمنا معرفة الشخص الذي أرسِلَت إليه؟ أليس هذا هو القارئ نفسه؟).


محمد خضير

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى