عبدالله حبيب - بيـــاض..

(1)
«الورقة البيضاء
سيدة الكلام
وعبدة القراءة
بيضاء بعد الكتابة
وتظل بيضاء» (قاسم حدَّاد، «محاولة خامسة»).

(2)
البداية بيضاء، والنهاية بياض.

(3)
وُلد البياض من احتضان حبيبين يلثمان بعضهما البعض بعد انتظار دام حوالي نصف قرن، وذلك في أكبر حنان حدث على الأرض وذاب له حديد السيارة الزرقاء الصغيرة ذات ليلة مقمرة على شاطىء البحر.
وهناك أيضاً مات البياض.

(4)
وحده طلال مدَّاح في «مقادير» و«زمان الصمت» و«أحبك لو تكون حاضر» (وأيضاً في نسخة عبَّادي الجوهر من الأغنية الأخيرة المدماة بالعود فقط في «حفلة أبها» والمهداة استهلالاً بدمعة مخنوقة إلى طلال — الذي لا يحتاج لأي مديح — بعد رحيله) يفهم كل البياض الحالك لهذه الليلة الطويلة.
ولم يكن وحده أندريه تاركوفسكي من ابتدأ مسيرته السينمائية العبقرية بفيلم روائي طويل بالأبيض والأسود في عصر السينما الملونة («طفولة إيفان» الذي لن ينساه تاريخ السينما ومستقبلها بكل الألوان بما في ذلك الألوان التي لا نعرفها بعد لأنها لا توجد في السينما بعد، والذي «صَنَعْتُهُ فقط لأتأكد بيني وبين نفسي أن لي ثمَّة علاقة بالسينما»)!، ففي البال أمثلة مثل تجربة جِمْ جارمش قبل انحداره المُهَلْوَد المؤسف وغير المؤسف كثيراً («أَغربُ من الفردوس»، «تحت وطأة القانون»)، لكن وحده كان أندريه تاركوفسكي من يلجأ إلى الأبيض والأسود في أفلامه الملونة حين يتضح للجميع بمن في ذلك الرؤية والرؤيا أن بقية الألوان ليست إلا عتهاً وخيانة ومؤامرة («المرآة»، «حنين»، «القربان»).
ووحده ذاك المشاغب العظيم بيير باولو بازوليني الذي كي يتأكد قاتلوه الجبناء من انهم قد تمكنوا من اغتياله أخيراً سحقوا رأسه ووجهه سحقاً تحت عجلات سيارته نفسه، بحيث أن ألبِرتو مورافيا حين رأى الجثمان المشوَّه في المستشفى صرخ رعباً وبلاغة في جملة بالأبيض والأسود سيتذكرها التاريخ: «رجال بلا وجوه قتلوا رجلاً ذا وجه»!، والمطرود – أي بازوليني — شر طردة من الحزب الشيوعي الإيطالي الذي انضم إليه بقلبه قبل أن ينتمي إليه بفكره، في عصر السينما الملونة أيضاً، من يمكن أن يبدأ فيلماً روائياً خالداً مثل «عصافير وصقور» بلقطات وثائقية بالأبيض والأسود لتشييع الجنازة الحاشدة ألوفاً مؤلفة للزعيم التاريخي للحزب الشيوعي الإيطالي بالميرو تولياتي، ثم ليبدأ بعد ذلك في السرد الروائي بالأبيض والأسود حيث لا العصافير بيضاء تماماً ولا الصقور سوداء تماماً!. (بالمناسبة: العنوان الإيطالي
الأصلي للفيلم يُكتب ويُقرأ ويُقال ويُلفظ هكذا: «أوتشيليتشي ايؤتشليني» [Uccellacci e uccellini] حيث «العلاقة» المعقَّدة والمتداخلة بين العصافير والصقور واضحة منذ العنوان كتابيَّاً وصوتيَّاً. وبالمناسبة أيضاً: النسخة العربية الحمقاء الخرقاء الوحيدة المترجمة من الفيلم تحمل هذا العنوان العجيب الغريب: «طيور صغيرة، طيور كبيرة»!، وكأنه لا توجد عصافير وصقور في البيئة العربية، ولا يوجد «طويلو عُمر» يمارسون رياضة الصيد بالصقور العتيدة)!.

(5)
البياض:
لا لعاب يعطيه الريق للطريق
لا شفة تعفيه من الوسادة في الظمأ
لا غياب يسعفه في الوجد
لا نظرة تمنحها الريح للخاصرة
لا يتدفأ الهلال في المدفأة
لا تهيج العذراء في الإنجيل
ولا الأيقونة سر النبوءة.

(6)
ابتسامتها فراشة بيضاء، وذكراها بياض في بياض.

(7)
«في غرف العمليات/‏‏ كان نقاب الأطباء أبيض/‏‏ لون المعاطف أبيض/‏‏ تاج الحكيمات ابيض/‏‏ أردية الراهبات/‏‏ الملاءات/‏‏ لون الأسرَّة، أربطة الشاش والقطن/‏‏ قرص المنوِّم، أنبوبة المصل/‏‏ كوب اللبن/‏‏ كل هذا يُشيع بقلبي الوهن/‏‏ كل هذا البياض يذكرني بالكفن/‏‏ فلماذا إذا متُّ/‏‏ يأتي المعزُّون متشَّحين/‏‏ بشارات لون الحِداد؟/‏‏ هل لأن السواد/‏‏ هو لون النجاة من الموت/‏‏ لون التميمة ضد الزمن؟/‏‏ ضد من؟/‏‏ ومتى القلب – في الخفقان – اطمأن؟/‏‏ بين لونين أستقبل الأصدقاء/‏‏ الذين يرون سريري قبراً/‏‏ وحياتي دهراً/‏‏ وأرى في العيون العميقة/‏‏ لون تراب الوطن» (أمل دنقل، «ضد من؟»، من مجموعته الأخيرة «أوراق الغرفة رقم 8»).

(8)
يهذي بها ويكرع الصفراء، والصفراء لا تثمل إلا بالبياض.

(9)
أُفق العدم في نهاية النفق الأبيض.

(10)
ليس الأبيض سيداً للألوان، لكنه أهلٌ وخِلٌّ وخَدينٌ لكل الأحزان.

(11)
قالوا: حين وصلنا إلى المقبرة الواقعة بمنطقة المزارع في القرية الصغيرة ما وجدنا رايةً بيضاء على القبر الأبيض.
فقط سمعنا نحيباً ملتاعاً آتٍ من قبر ملاصق. قيل لنا أن تلك هي طفلة اسمها محفوظة، وهي تبكي وحيدة في حِفْظِ اللون الأبيض.
وانصرفنا.

(12)
كانت لياليهما حمراء، وزرقاء، وخضراء، وبنفسجية، و…، و….
أما ليلة الفراق فكانت بيضاء، بيضاء، بيضاء.

(13)
إن لم تكن تبصر كل هذا البياض فأنت لا تقطن في عينيك ولا يسكن فؤادك فيك بعد. أما روحك فإنها لا تزال تبحث عن مزيد من البياض كي تحل في جسدك.

(14)
ليس البياض في الشرق هو نفسه البياض في الغرب (وفي الحضارة الغربية لم يبلغ أي لون شأواً عظيماً كما فعل اللون الأبيض، ولم يتعرض لون للنقد واللوم كما تعرض اللون الأبيض).
والجنوب أبيض والشمال أبيض، والجهة الخامسة المنبثقة من سبَّابتها بيضاء.

(15)
قَشٌّ أبيض، ونار بيضاء، ورماد أبيض.

(16)
الموت المتوقَّع أبيض، والموت المفاجئ أبيض، والموت المستحيل أبيض — لا أمي في حلٍّ من الكفن، ولا أمك براء من النعش (لكن دعيني أداعبك قليلاً مداعبة مُرَّة: يقول لي صديق ساخر اننا ننتمي إلى ثقافة موتيَّة بامتياز شديد؛ فدشاديشنا البيضاء تشبه الأكفان تماماً. وأضيفُ: أما عباءاتكنَّ فترتدي لون الحِداد)!.

(17)
لا يرتدي البياض شكل الموت على الوجه إلا حين يبلغ الوجع سويداء القلب.

(18)
أي خيال ومخيلة ذينك الذين في السينما وقفا إلهاماً وراء تقنيتي «أفول الكادر نحو البياض» (fade to white) و»زيادة التعريض للضوء» (overexposure)، أي خيال؟. ويا راينر ماريا فاسبندر (الذي أظن انه الأكثر راديكالية في استخدام تقنية «أفول الكادر نحو البياض»): لماذا ارتبطت أحلامه بها في نومه الشحيح بتينك التقنيتين حيث كانا مرة – هي بفستان طويل أبيض وهو بدشداشته البيضاء – يذوبان تدريجياً في البياض وهما يتمشيان ظهراً على الشاطىء؟، أي مآل؟.

(19)
يُخرِجُ الأبيض من الأسود، ويُخرج الأسود من الأبيض، ويُخرِج الأبيض من الأبيض.

( 20 )
أبيض كل هذا الثلج، في أوردة بيضاء.

(21)
أتهجد. أتجهد. أتسول. أتوسل. أرضع. أتضرع. لستُ أحمراُ أو رصاصياً كي تفعلي بي كل هذا. إنني أبيض.

( 22)
كل السيارات التي تمخر شوارع المدينة اليوم سيارات بيضاء فاخرة تقودهن نساء فارهات بلون ذكريات بيضاء جارحة.

(23)
كان الجمر والفحم ينتظران حنانه وأمانه. وكان البياض ينتظر كل شيء.

(24)
أبيض كان كل ما يحيط بمقلتي زرقاء اليمامة.

(25)
دمعة بيضاء على زند أبيض في ليل لا لون له.

( 26)
الأبيض يعذِّبه، والبياض يزيدها عذوبة.

(27)
أبيض هو النصل، والبياض دم.

( 28)
«الورقة البيضاء
سيدة الكلام
وعبدة القراءة
بيضاء بعد الكتابة
وتظل بيضاء» (قاسم حدَّاد، نص أحاول أن أسميه «محاولة واحدة»، أو «محاولة سادسة»، أو «محاولة تاسعة وعشرون»).

__________
* عن مجلة ثقافات

بيـــاض - ثقافات

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى