ألف ليلة و ليلة محمود عبد الله التهامي - غواية الحكي في الليالي العربية

بمجرد أن تتصدر الكلامَ الجملةُ الأثيريةُ: بلغني أيها الملك السعيد، يجد الإنسان نفسه وسط سيل من الحكايات والأحداث التي لا تنتهي، تستطيع الحكاية -بدورها التاريخي في تقديم العبرة والموعظة والتسلية- أن تخلق عالما جديدا، وتظل وسيلة الإنسان لبيان أفكاره ومعانيه، ونشر القيم بين أفراد المجتمع فضلا عن وظيفتها التربوية في تعليم النشء، وفي دراسته “ألف ليلة وليلة الرواية الأولى “يقول مصطفى الضبع: تظل الحكاية الفن الأكثر قدرة على التغلغل في النفس الإنسانية، والأقدر على التأثير في متلقيها بشتى وسائل التلقي”.

ولاقت حكايات “ألف ليلة وليلة” انتشار واسعًا في العالم بعدما اكتشفها المستشرق الفرنسي أنطوان جالان وترجمها للفرنسية عام 1704م، ولحكايات الليالي شكلا ربما فرضتْ هذا الشكل شهرزاد تلك الشخصية المسيطرة على عملية الحكي بصورة كبيرة، فالحكاية التي لا تتضمن أعاجيب تثير بها قلق الملك وتحفزه لانتظار البقية سوف تثير فيه الملل يدفعه للتخلص منها، أوجبت على نفسها شكلا أصبح سمة من سمات الحكي الشهرزادي، وتعدى ذلك إلى شخوصها فأصبحوا بدورهم يحكون بنفس طريقتها، فالحكاية عجيبة وأسطورية تثير الدهشة، وهي تتظاهر كلما انتهت من واحدة أن لديها ما هو أعجب! لتظل مستحوذة على الملك حتى اللحظات الأخيرة حين تُمنح العفو. تطلب منه الإذن في البداية لتكون حيلة خفية لتتمكن بعد ذلك من إثارة السؤال السرمدي الذي يُجنبها الموت: وماذا بعد؟

ولقد دفعت شهرزاد أختها كمثير للحكي في البداية، ولم تستمر دنيازاد طويلا ليحتل مكانها الفضول الإنساني الذي تحكم في إثارة الحكي خلال الليالي ابتدءا من الملك ليمتد إلى باقي الشخصيات، لعلها واضحة الدلالة من ناحية الراوي الأول ليوضح أن الحكاية التي تلقي بنفسها دون مبرر أو إثارة لدى المتلقي ربما لا تعود بالنفع أو تموت من البداية، شهرزاد استدعت أختها ورتبت معها الخطة قائلة أنها سوف تحدثها حديثا فيه الخلاص. ويعتبر ذلك تحديا، ربما لا يكون في الحديث الخلاص ويعود عليها عكسيا، إن الحديث الذي تعنيه لم يكن سوى حكاية.

وصيغت الحكاية الشعبية في قالب يستحوذ على المتلقي ليتعلق بالحكي، فالحكاية كما أسلفنا أسطورية لا تتفق مع الأسباب الطبيعية لقوانين الكون، فالسندباد البحري يستريح فوق جزيرة هي في الأصل ظهر سمكة كبيرة تتحرك عندما يوقد فوقها النار، واعتمدت أيضا على تقنية (تداخل الأنواع) فأصبحت الليالي التي يتم سردها بالطريقة النثرية يتداخل في كثير من الأوقات معها الشعر والأغاني لتصبح نصا “عابرا للنوعية” لتكون الحكاية جامعة للفنون، ولا عجب أن تجد جمع البعض لأشعار الليالي العربية ليكون ديوان ألف ليلة وليلة. وتحوي الحكاية الكثير من الأمثال الشعبية “ليس في كل مرة تسلم الجرة” والحكم “من لم ينظر في العواقب ما الدهر له بصاحب” بالإضافة للحديث النبوي وآيات القرآن الكريم.

وكان للسارد الشعبي في الليالي شكلا في الهيكل الفني للحكاية يُفصِّلها داود سلمان الشويلي في دراسته “ألف ليلة وليلة وسحر السردية العربية”: وهي بهذا التنظيم الفني الرائع تمثل في بنائها عنقودًا واحدًا أساسه “حكاية المفتتح” حيث تتفرع منها، حكايات أخرى أطلقنا عليها اسم “حكايات الإطار” أي الجامعة لنوع آخر من الحكايات، لا تختلف عنها بشيء، ولكنها تدخل في بنائها ومحتواها، وقد أسمينا هذا النوع من الحكايات، بحكايات “التضمين” أي الحكايات التي جاءت ضمن حكايات “الإطار” وقد توالدت حكايات أخرى داخل حكايات “التضمين” أسميناها حكايات “خارج السياق” لأن حكايات “التضمين” لها ما يعلل سبب ورودها داخل حكايات “الإطار” حيث ترتبط بالمحتوى العام بوشيجة أو أخرى، كأن تكون بسبب حكمتها، لأنها تحمل دلالاتها الرمزية لحديث ما، أو أن تكون للتسلية، أو… إلخ، ولكن حكايات “خارج السياق” لا تفيد المحتوى العام لحكايات “الإطار” بشيء اللهم إلا إفادة حكايات “التضمين”.

وعلى الرغم من أن الليالي صنعت عالما لا يتقيد بالعلل الطبيعية للأحداث فإنها أصرت على انتماء هذا العالم الخيالي الأسطوري للواقع وعدم الانفصال عنه، ووضح ذلك من استدعاء الراوي للشخصيات الحقيقية المعروفة والأماكن المشهورة، فمن الخلفاء هارون الرشيد، والوزراء جعفر البرمكي، والشخصيات المشهورة بأعمال الكرم حاتم الطائي، ومن الشعراء جميل بن معمر وغيرهم الكثير، ومن المدن بغداد والبصرة ودمشق والإسكندرية.

واستُخدمت اللغة الشفوية في الحكايات للدلالة على تلك اللحظة التي تجمع بين شهرزاد الراوي وشهريار المستمع، وراعى ذلك ظهور المخاطب في حديث المتكلم “بلغني أيها الملك السعيد” ولم يكن منبع الدهشة بالليالي تلك الأحداث الغريبة المسرودة بل ساهمت اللغة في إثارة الدهشة، ويمكنك أن تلاحظ ذلك مع وصف عفريت الصياد “ثم انتفض فصار عفريتا رأسه في السحاب ورجلاه في التراب؛ برأس كالقبة، وأيد كالمداري، ورجلين كالصواري، وفم كالمغارة، وأسنان كالحجارة، ومناخير كالإبريق، وعينين كسراجين، أشعث أغبر”

إن شخصيات الليالي تتمتع بفائض من الحكايات، فكل إنسان لديه حكاية ما، يستطيع أن يحكي للآخرين ما شاهده وما وقع معه في الحياة، فالرَّحالة لديهم مغامرات الطواف بالدنيا، والخلفاء عندهم عجائب الحكم والسياسة، والمشعوذين والسحرة، والبحر للصياد مخبأ للحكايات، والعلماء عندهم ما طالعوه مثلما كانت شهرزاد واسعة القراءة، يقول الراوي الأول: “وكان الوزير له بنتان، الكبيرة اسمها شهرزاد والصغيرة اسمها دنيازاد، وكانت الكبيرة قد قرأت الكتب والتواريخ وسير الملوك المتقدمين وأخبار الأمم الماضين. قيل أنها جمعت ألف كتاب من كتب التواريخ المتعلقة بالأمم السالفة والملوك الخالية والشعراء”.

وظفت الليالي الحكاية لأدوار جديدة، وأثبتت قدرتها على آداء الأدوار، كانت وسيلة شهرزاد للإفلات من عقاب الملك، استطاعت أن تجذبه لفترة طويلة جدا لم يشعر معها الملك بالملل، هذبت فيها روحه وعقله، واستخدمت الحكايات لأهداف مثل:

  • دفع مكروه عن النفس:
إن ملك الصين عزم على قتل النصراني والمباشر واليهودي والخياط لاشتراكهم في قتل الأحدب المهرج، لكنهم ينجون من العقاب بعدما يحكون حكاية أعجب من قصة الأحدب “فعند ذلك تقدم المباشر إلى ملك الصين وقال: إن أذنت لي حكيت لك حكاية اتفقت لي في تلك المدة قبل أن أجد هذا الأحدب وإن كانت أعجب من حديثه تهب لنا أرواحنا. فقال الملك: هات من عندك”.

  • دفع مكروه عن الآخرين:
ففي حكاية التاجر والعفريت اشترك ثلاثة من الشيوخ في سرد ما وقع لهم من العجائب مقابل أن يعفي العفريت عن التاجر ويهب روحه لهم فيطلقون سراحه، ويستطيع الوزير جعفر أن يخلص رقبة عبده ريحان من العقاب في مقابل أن يحكي للخليفة قصة شمس الدين وأخيه نور الدين.

  • التعبير عن حال الضيق:
ووسط التدفق السردي يتوقف إنسان ليعلن عن موقفه وما يقع عليه من الهم، فيعبر عن ذلك بامتناعه عن الحكي، ففي قصة الصياد والعفريت يمتنع الحكيم رويان عن حكاية التمساح ليبدي ضيقه وكربه لكن الملك يصر على قتله، ويمتنع أيضا العفريت عن حكاية أمامة وعاتكة لتنضم إلى مجهولات الليالي العربية التي سكت عنها الراوي.

  • دفع الحجة بالحجة والانتصار للنفس:
إن شخصيات الليالي تتخذ من الحكايات سلاحها الأول للانتصار وتوضيح الرأي، إن الحكاية تظل على مدار ألف ليلة وليلة ذات وزن وقيمة تتساوى بهما مع حياة إنسان لتدفع عنه مكروه وتزيل عنه كربة.

ولأنها تحمل هذه القيمة الرفيعة كان لا بد من الاحتفاظ بها، إن سجلات الأمراء والملوك حوت الكثير من الحكايات، فنحن نجد أنه في نهاية السرد يأمر المستمع -إن كانت له سلطة- بتدوين هذا الحكي العجيب. كما أن كتب العلماء والشعراء والفلاسفة كانت مكانا ملائما لهذه الحكايات فالمتلقي منذ البداية لا يعرف لشهرزاد مصدرا إلا مطالعتها الواسعة لهذه الكتب، وأصبحت ذاكرتها خزانة صالحة وأمينة للاحتفاظ بما طالعته لتسرده في أوقات مختلفة ولا يظهر عليها أثر النسيان والاختلاف. إن النص العجيب الذي استمع له شهريار طالعته شهرزاد في الكتب واستقر في الذهن، لكنه في الحقيقة له مكان افتراضي يتضح من إصرارها على ذكر ذلك المكان الذي يمكننا أن ندون عليه هذا النص، فشهرزاد لا تجدا مكانا يليق بالتدوين خيرا من آماق البصر ولا تجد وسيلة غير الإبر ولا تجد مدادا خيرا من ماء الذهب، تقول شهرزاد على لسان أحد الشخصيات: حكايتك حكاية عجيبة لو كتبت بالإبر على آماق البصر لكانت عبرة لمن اعتبر، ويقول عبد الفتاح كيليطو في دراسته الممتعة “العين والإبرة دراسة في ألف ليلة وليلة”: هل خطر ببالكم، ذات يوم، أن تكتبوا على آماق بصركم، بواسطة إبرة جد حادة، حكاية برمتها تحمل عبرة أخلاقية؟ كلا بالطبع، سيكون الأمر مؤلما للغاية ومستحيلا على أية حال، إنها مع ذلك الاستعارة التي يستخدمها في غير ما مكان راوي ألف ليلة وليلة كي يبرز في النهاية الطابع الوعظي للحكاية.

ولقد أصبحت الحكاية بما أحاطها من أهمية أن تصبح فتنة تثير فضول المتلقي وتدفعه لاستمرارية التلقي، وغواية تدفع الإنسان للحكي، فكل حكاية تساوي حياة، وتعتبر حديثا يكون فيه الخلاص.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى