أدب السجون أحمد الفيتوري - ذكريات سجين سياسي ليبي..

[ ... إلي أمي عربية بشير الغرياني من صابها السكرى، وإلي أبي محمد عبد السلام الفيتوري من مات حسرة، وإلي كل أمهات وآباء زملائي دون تخصيص .. ]

لم يكن يوما معتادا ، هناك متشابهات كثيرة بشكل عام لكن التفاصيل بينة، عادة نقضي أغلب اليوم في الزنزانة، دائما الأبواب مقفلة، بين حين وأخر يتأخر الفطور أو الغذاء وحتى العشاء، كثيرا ما منعنا من الخروج إلي ( الأريا ) أي ساحة السجن حيث نقضي هناك من ساعتين إلي ثلاث لكن لم يغب الحرس عن المكان البتة ، منذ سنوات عشر مضت قضيتها في السجن متنقلا من سجن الجديدة إلي سجن الحصان الأسود ثم هاأنذا في سجن بوسليم لم يحدث أن غاب الحرس عن المكان، حدث كهذا الهدوء المريب في مرات سابقة وأعقبه عاصفة من التفتيش الشخصي وللزنازين وقد يرافق ذلك الضرب أيضا، لكن لم يحدث أن غاب الحرس.
لم نخرج للساحة ، لم يجلب لنا طعام الإفطار والغذاء أيضا مر والجوع في زيادة ، الهدوء أيضا في زيادة لذا كانت الريبة في زيادة أيضا. أكلنا التوتر وتلبكت الأنفس من جوع وخوف تلازما لحظتها ، حتى وان قطعت اللحظة حركة فهي بعيدة في ساحة إدارة السجن .
أخذنا نتنصت ، كنا في الزنزانة عند المدخل سريري الحديدي،كنت في أسفل وفي الأعلى عبد الرحمان الشرع، مقابل الحمام سرير عمر المختار الفردي ،ثم عبد الحليم البشتي وأخيه عبد الحميد ثم محمد الفقيه صالح والأخ الثالث عبد المعنم البشتي وفرج الصالح ورمضان المقصبي وعجوز صوفي من خروبة مدينة مسلاته نسيت اسمه الآن .
بعد أن لم تلتقط الآذان شائنا يذكر ، هاج في النفوس التخمين و التوقعات والتقديرات، ومن ثم التحليل ديدن السجناء جملة كل الوقت وفي أي مكان وحتى في زنزانة انفرادية. ككل مرة طارت النفوس علي جناح الأمل وشدتها مخاوف للأرض، لم تتباين التوقعات وتتنافر التحليلات فحسب بل وكذا هيجان عاث في النفوس تلكم اللحظة، كما لو كنا نترقب أمرا أو أننا علي بينة من خفي يتجلي.
كسرة مرآة دسها رمضان من تحت مليمترات في الباب، يرقب مجاري ( الكورادوري ) أو الممر الذي يفصل طابوري الزنازين المتقابلة . رمضان الرجل العملي في الزنزانة ومخترع حاجتها المادية العملية، رصد فراغا يثير أغبرة المكان وحركة السكون ثم رجح أن ثمة أمرا. من مرصده وهو منطرح علي بطنه يدس رؤوس أصابعه بكسرة المرآة تبين ذلك، وأضاف لفضولنا معلومات جمة وهامة وهواجس أطلقت العنان لتخمينات عمر المختار الوافي؛ من شيمه الاستطراد .
في قسم الإعدام والمؤبدين سكون ضاج، عبر حفرة في الجدران - وجدت لأن حيطان السجن من نوع البناء الصناعي أي المركب تركيبا – عبر هذه الحفر بدأت مراسلات صوتية وكتابية تدور بين الزنازين ، تتسأل كلها عما لا يحدث هذا الذي يحدث ؟ ..... لاشيء يحدث و لا أحد يجيء خمنت في نفسي مرددا لازمة مسرحية بيكت الشهيرة : في انتظار غودوا .
الجوع أندغم في السكون ومن خلائط عجائن اللحظة المتوترة تلك غاب كل شيء، فقد كان سيد المكان بل ربه الانتظار، ضاقت الأنفس بما حملت وانبثت حركة بين الآسرة ، الزنزانة 4 × 4 متر كأنها ملعب كرة طائرة ، ثمة من يقفز إن وحى فكرة ، ثمة من يطيره التوتر ،ثمة من يسبح في فضاء من سكون رائب.
المفاجأة في لحظتها تخترع ؛ فالترقب يلدها. لهذا زحف آخرون للمرصد واستولوا علي وسيلته من يد رمضان ، كلما امتدت يد لكسرة المرآة يتسربل محمد في صمته ،ويشطح خيال عمر، فيما يطفو قلق عبد الرحمان يوكد عبد الحميد توكيداته حول قرب لحظة الإفراج وقد دامت لحظته تلك خمسة عشر سنة قضاها في ذلك السجن.
فات عصر اليوم؛ لم يعد أحد يفكر في الأكل و لا أحد تطرق للجوع الذي تمثل في الجوع للمعرفة والشغف لفتح الستارة: كل شيء واضح في غموضه ذاك ساعتها، عندها كانت ظنون تشبع فضولنا ؛ وان لم يحدث شيئا حتى جفلة صرصور- رغم كثرة الصراصير في الزنازين- فقد حدث كل شيء، وأكثر مما يحدث في ميدان غاص بالجمهور في مدينة كبرى .
حدث أننا أخذنا من نفوسنا، وأن الشغف أخرجنا من سجوننا، لم نعد فرادة كما حال السجين كل الوقت، لكن صرنا فردا ؛هنا تبين لي المفرد بصيغة الجمع في لغتنا العربية . دون مبالغة تسمع نبض صاحبك باعتباره نبضك والأمر كذلك لحظتها ؛ لحظتها صرخ رمضان من استعاد مرصده : مفاجأة . وجدتني من لم أدنوا من المرصد علي بطني، أرقب من كسرة المرآة ما فاح في المكان وجالت أبخرته في الدماغ وما صم الآذان ؛ عربة الأكل دخلت القسم والطعام تجول روائحه، ما رأيت دفعني للانسحاب غير مصدق وفي ذهول . موسى أحمد أخذ جانبا من قبل الحارس ودخل معه في حديث مطول، هذا خبرنا به آخر أخذ مكاني . أحدث هذا بلبلة رفعت من وتيرة الصمت اللحوح وأخذ الطير مكانه، تركز علي رؤوسنا بثبات .
لابد أن نعرف ما الخبر من موسى. حين قربت عربة الطعام من زنزانتنا - التي تعد الثانية في الممر- سحب المزلاج فعرفنا حينها أن الأقفال كانت مفتوحة وهذا أيضا نادر الحدوث . حين حصلنا علي طعام اليوم الأول لم نجد الحيل وبالتالي الحيلة كي نعرف ، كأن الأكل أكل فضولنا وأن الشغف غص في حلوقنا ؛ الأكل الملوكي الذي التقمناه أو التقمنا لقمة صائغة عطل أجسادنا وخبل أرواحنا التائقة لحدوث شيء أي شيء .
وإذا كان الوقت بين العاشرة صباحا ؛ موعد فتح الزنازين واخرجنا للساحة ،والساعة السادسة مساء ساعة إحضار الأكل ما لم نحلم به حتى : مكرونة اسباغيتي ولحم ديك رومي ، إذا كان هذا الوقت تبخر في لمحة فما بعده ثقل علي النفوس. خمل المكان وخمدنا، عدنا لمعتادنا ، وتبددت الدهشة وسرى خدر من تعب .
لكن ما عرض علي شاشة التلفزيون أجج الغضب ، في أخبار التلفزيون الليبي - المحطة الوحيدة التي نتمكن من مشاهدتها - عند التاسعة والنصف مساء عرض مشهد فضيع؛ يقوم فيه جنود صهاينة بتحطيم - بحجارة - ذراعي شاب فلسطيني مشارك في الانتفاضة آنذاك ....
أصابنا غمّ وحاطنا قهر مزدوج ووهن كبلنا فرادة ، انفرد المشهد بنا فبدد العزم وعدنا كل لزنزانة النفس الانفرادية .
لحظتها فاتنا أن مزلاج الزنزانة الأخيرة - من جهتنا- قد فتح بقوة، وأنه تم إخراج أحدهم من هناك، ما انتظرنا أن يحدث حدث وانتباهنا سلب منا هناك .علي عجل وصلنا الخبر : تم استدعاء الساعدي سيف النصر، وعلمنا أيضا معلومات موسي أن هناك لجنة تزور السجن منذ ضحى اليوم .
الأحداث لم تترك فرصة لتخميناتنا كي تضطرد أو تظهر حتى، من استدعى تاليا كان عمر المختار من زنزانتنا، فور عودة الساعدي علمنا أنه بلغ بالإفراج عنه، في اللحظة عاد عمر في ذهوله المعتاد أخبرنا بما وكد خبر الساعدي، لم يصدق أحد ما يحدث باستثناء المتفائل أبدا عبد الحميد، كنا نلوك تفاصيل التفاصيل في دوخة المُكذِب المشتهي أن يُكذَبْ، ثقل المكان خفّ حتى لم يعد يحتمل، طارحنا صاحبنا الأسئلة المنشطرة وما تعودنا من إلحاح غير ذي معنى، كنا نريد أن نرى الله كما سيدنا موسى بنا وله عاشق اليقين.
حارس دخل الممر في صوت ميكرفوني: وين جماعة الصحافة.
كان يعنيني وزملائي في القضية؛ التي حكمنا فيها بالإعدام مخففا للمؤبد بتهمة الانتماء لحزب ماركسي لينيني يستهدف إسقاط النظام، عرفت القضية بجماعة الصحافة بحكم أنها تضم إثناء عشر هم من الكتاب والشعراء والصحفيين وهم : عبد السلام شهاب وعمر الككلي وفتحي نصيب وجمعة بوكليب القاصون وإدريس المسماري ومحمد المالكي ومصطفي الهاشمي الكتاب وإدريس ابن الطيب ومحمد الفقيه صالح وعلي الرحيبي الشعراء ورمضان الفارسي وأنا طبعا .
طلب منا أن نأخذ معنا حوائجنا هنا حدثت ربكة واضطراب وطلعت هواجس؛ ما من مرة تنقلنا إلا وهذا الطلب أول، كنا نحمل أسفارنا منقولين من سجن لأخر. فكيف وقد أعيد الطلب بهت الذين صدقوا الخبر، وبدأ كأن أروحنا تطلع لا أجسادنا، في الأكمة ما فيها، جلبت لنا عربة الطعام كي نحمل حوائجنا معا وكانت أسمالا حرصنا عليها كما الحرص علي الروح، لحظتها كنت والمسماري في حيرة هل نترك النتاج الإبداعي والفكري : مجلة النوافير التي أصدرناها في بوسايم ومنها أعداد كتبت علي ورق سجائر الأطلس الداخلية وكتب أصدرتها مجلة النوافير : جدل القيد والورد – دراسات في الشعر العربي وكتاب عودة مواطن كتب من عدد كبير من السجناء حول فلم عودة مواطن للمخرج محمد خان وكان عرض في التلفزيون الليبي وشاهدناه وكتاب المعقول واللامعقول في العقل العربي أيضا شارك في كتابته عدد من الزملاء والتصحر في دراما التلفزيون العربي وكتب مترجمة عن الايطالية حول تاريخ النهضة الأوربية ترجمها عبد الحميد البشتي ورواية وكتاب عن الفرنسية وعن الانجليزية ثم كتابات شعرية وقصصية ورسوم .. وغير ذلك .
هل نترك هذا لزملائنا أم نأخذه معنا ، كان الحارس يلح بالإسراع للخروج وكنا علي عجل وبنا ولع لذا تركنا الأمر غير جازمين وكأن الحرية المنشودة غلبت الحب الذي ألفنا، فما يحدث يطرد ما حدث دائما .
في ساحة إدارة السجن بلغنا رسميا بالإفراج عنا حيث قرئ علينا بيان بالخصوص . ويلغنا أن نبقي أحرارا في السجن حتى 3 مارس؛ حيث سيتم الإفراج فعلا لا بالقوة كما يقول الفلاسفة، وحيث سيأتي أهلنا ونخرج معهم في حفل بالمناسبة .
لم نفرح كنا مشغولي البال بزملائنا الآخرين بأصدقائنا، لكن هذه اللحظة الإفراج عنا قد تم . لم يكن يوما معتادا ، هناك متشابهات كثيرة بشكل عام لكن التفاصيل بينة، لم نعد إلي الزنازين والأبواب أصبحت مفتوحة فقد : أصبح الصبح .. ساعتها قاربت الفجر تقريبا حين بلوغنا بأمر الإفراج عنا ..



أحمد الفيتوري - ذكريات سجين سياسي ليبي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى