صلاح سالم - الحضارة ليست هى الدين وحده..

على صعيد الهوية ينحاز العقل الأصولى إلى فهم للأصالة الإسلامية يتسم بالجمود والانغلاق، إذ يتأسس على مسلمة نراها متعسفة واختزالية، وهى أن نقاء العقيدة الدينية إنما يقتضى أو يفترض نقاء الهوية الحضارية، الأمر الذى يقود إلى اعتبار كل تفاعل ثقافى أو تداخل حضارى بين الحضارة العربية وغيرها من الحضارات بمثابة عملية تشويه للإسلام، تنتقص من خيرية المسلمين أمام الآخرين، أما هؤلاء الآخرون فليسوا إلا أصحاب الديانات، وليس الحضارات الأخري.. هذه المسلمة تتأسس على مقدمة خاصة بها وتقود فى الوقت ذاته إلى نتيجة مميزة لها:

أما المقدمة فهى عدم الثقة بالإنسان، أو بالعقل الإنساني، ومن ثم ضرورة الارتهان الكامل للنص الديني/ النقل/ الوحى بما يشل فعالية الإنسان ويطمس حضوره فى التاريخ، حيث التوجيه الإلهى الكامل لحركة التاريخ والقصور شبه الكامل للعقل الإنساني. هذه الرؤية تقود إلى اختزال كل حضارة فى الدين الذى تقوم عليه أو يقع فى المركز منها، فالحضارة الآسيوية مثلا هى الهندوسية والبوذية والكونفوشية، أما الحضارة الغريية فهى المسيحية وفقط، ولا معنى جوهرى هنا لعصور كالنهضة والتنوير والصناعة والحداثة، التى مثلت نوعا من القطيعة التاريخية فى مسيرة الغرب الأوروبى مع الروح التقليدية وفى قلبها الدين المسيحى الأرثوذكسي، ومن ثم فلا اكتراث مثلا بحركة كالإصلاح الدينى البروتستانتي، ولا بالنقد الرفيع للكتاب المقدس وما أفضى إليه من قراءات تاريخية للعهدين القديم والجديد، ولا قيمة لعمل وجهد الفلاسفة الكبار خصوصا ليبينتز وسبينوذا وكانط، ولا حتى للفلاسفة اللاهوتيين الكبار أمثال كارل بارت وباول تيليش وجاك ماريتان، ونيقولا بيرديائيف، فرغم كل ما جرى عبر القرون الخمسة الماضية يبقى الغرب هو المسيحية، وأوروبا هى الصليب. ومن ثم فإنجاز كل حضارة إنسانية يبقي، حتى الآن، نتاجا للدين، ما يعنى أنه إنجاز لصيق بها بنفس درجة التصاق المؤمن بدينه، وهنا تصير الحضارة، كالدين، مسألة تقع فى صميم الخصوصية الثقافية، وليست إرثا عاما للبشرية، أو تراثا مشتركا للإنسانية برمتها، أخذا وعطاء. أما النتيجة التى تترتب على تلك المقدمة، فهى ضرورة الانفصال الكامل عن تيار الحضارة الإنسانية حفاظا على نقاء الهوية (الإسلامية)، بل يصل الأمر أحيانا إلى تحويل الفهم الخاص للدين (التدين) إلى (إطار ثقافي) مغلق على نفسه داخل الحضارة نفسها، فلا يمتنع لدى التيار السلفي، مثلا، مجرد الحوار والتداخل مع الآخر الخارجي/ الغربي، بل يمتنع كذلك التفاعل مع الآخر الفكرى والسياسى داخل الاعتقاد نفسه حرصا على نقاء التدين، حيث يكون الليبراليون غريبى الأطوار، والعلمانيون زنادقة وربما ملحدين، أما اليساريون فقطعا ملاحدة ماديون، ناهيك طبعا عن الشيعة الذين هم فى الأقل منافقون وفى الأكثر خارجون على الملة. بالطبع يتناقض هذا الانغلاق الذاتى حتى مع تاريخ الإسلام، الذى صاغ فى عصوره التأسيسية حضارة منفتحة على جميع الثقافات، استوعبت أهل الملل والنحل. والبادى لنا أن مسيرة تفتح المسلمين قد توازت مع صعودهم السياسى والحضاري، والعكس صحيح؛ حيث ازداد تعصبهم وانغلاقهم فى العالم الحديث تحت ضغط تخلفهم، ثم الاحتلال الأوروبى لأراضيهم. ومن ثم يمكن التمييز بين هوية إسلامية (تاريخية) كانت منفتحة لأنها تتحرك بحرية واستقلال على سطح الزمن الذى كانت فيه رائدة. وهوية عربية معاصرة، تتوزع على تيارين اثنين أساسيين: أولهما نقدى منفتح ينظر إلى الآخرين بتوازن، تأسيسا على ما فى الموروث الإسلامى من نزعة إنسانية. وثانيهما سلفى لا يرى العالم إلا من منظور علاقة تضاد مع الغرب المسيحي، ومن ثم يصوغ رؤيته عن التاريخ وكيفية التأثير فيه عبر افتراضين أساسيين:

الافتراض الأول: هو أن أصالتنا تكمن بالضرورة فى لحظة تكوين ثقافتنا بكل قوالبها وأشكالها، وليس فى خصوصية عناصر تكوينها. ولدينا فإن عناصر التكوين فقط هى جوهر الذات ومن ثم فهى التى تصوغ مفهوم «الخصوصية» الذى يعكس حقيقتنا/ ذاتنا، ولذا نفضله على مفهوم «الأصالة»، الذى يؤكد على قوالب وأشكال لحظة التكوين، إذ يفضى بنا إلى «الماضوية». تبسيط ذلك هو أن الأصالة كمفهوم تبدو محملة ببعدين: أولهما «تكويني» يعكس جوهر الذات مما لا غنى عنه لتبقى قائمة. وثانيهما «زمني» يربط هذا الجوهر، بلحظة تاريخية فى الماضي، وهذا هو البعد «الشكلي» الزائف. وعلى هذا يحيلنا مفهوم الخصوصية عن الارتباط بالماضى نحو الارتباط بالجوهر، لنصبح أمام «ذاتنا» التى تعكس تكويننا وليس «ماضينا» إذ يسمح لنا بمراكمة الخبرات الإيجابية والقيم الجوهرية الكامنة فى شتى التجارب وعبر كل العصور، لأنه فى تصوره عن الذات إنما يفصل بين الشكل والمضمون، الطقوس والقيم، الثوابت والمتغيرات. ثم تقوم بعزل القوالب: الأشكال والطقوس والمتغيرات لأنها تاريخية تعكس لحظة التشكيل وتبقى على الجواهر: المضمون، والقيم، والثوابت لأنها تكوينية تصوغ خصوصيتنا وتحميها من التعارض الظاهرى مع الزمن، أو التناقض الزائف مع العصر. فمثلا: لا يبقى المسلم مسلما إذ ما تخلى عن مفهوم التوحيد، أو تقاعس عن النهوض بأركان الإسلام الخمسة، أو تخلى عن فضائل كالأخوة والعدل والرحمة والتسامح، على نحو ما جسدها النبى الكريم، كونها لباب الإسلام. لكنه يظل مسلما لو تخلى عن كل طقوس الحياة المصاحبة للعهد النبوى فى المأكل والملبس والسكن والمظهر وغير ذلك من أمور قشرية.

أما الافتراض الثانى فهو أن توحد الجماعة المسلمة كفيل وحده بإقالة الأمة من عثرتها، ودفعها نحو امتلاك زمام التاريخ دونما حاجة إلى النقل عن الآخرين أو الاقتباس منهم، أو حتى التلاقح معهم ، فكل معرفة وكل فضيلة موجودة فى نصوص الإسلام لا ينال منها الزمان. ومن ثم يصبح التوحد حول الإيمان الصحيح، من وجهة نظر الأصولي، بمثابة الهدف الأمثل الذى يجب على مخلصى الأمة التوجه صوبه، أما غير ذلك فهو انحراف من كليهما عن القصد والسبيل الصحيح. وهنا يجرى تجاهل قيمتى المعرفة والحرية اللتين صنعتا قوة الغرب، وصاغتا منطق التاريخ الحديث، وبدونهما يظل الضعف ساكنا فى كهفنا العتيق، ولو كان واسعا وممتدا، ما دام قد امتلأ بالظلام والجهل، وأمعن فقط فى طلب الوحدة الشكلية، وربما الموت اليائس.

صلاح سالم


الحضارة ليست هى الدين وحده

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى