ميخائيل سعد - حمص واسطنبول

تنتهي اليوم زيارتي الطويلة الثالثة الى اسطنبول، "المدينة التي اشتهاها العالم"، ولكن بالنسبة لي فقد تحولت شهوتي لها إلى حب عميق تتكون عناصره من روحانية الشرق ومادية الغرب، لم أشعر به إلا تجاه مدينة حمص، ليس لأنها كانت مدينة هادئة وعاقلة وجميلة بين المدن السورية، وإنما لأنني قرأت تلك الصفات قبل وقت، على أنها تضمر القوة والعدل والحرية، وليس الخنوع والاستسلام كما أرادها آخرون.
تسعون يوما مرت دون أن أشعر بالزمن وهو يدحرجني من عمر إلى عمر، ومن صديق إلى صديقة، ومن مؤمن إلى ملحد أو العكس، ومن شعبان إلى رمضان فشوال، ومن انقلاب فاشل إلى طفل ينام جائعا في حديقة تقسيم أو يتسول ثمنه، مفرغا احتفال النصر من معنى العدالة الاجتماعية، باسطا يديه، وشاهرا جوعه وعريه وطفولته في وجه أحزاب المعارضة والحزب الحاكم، التي استطاعت، ربما، تحقيق معجزة السمو عن المصالح الحزبية الضيقة والوحدة في مواجهة الانقلاب، مبرهنة على شرف الانتماء إلى هذا الشعب، الذي واجه الدبابة بصدور عارية.
في القرن الثالث عشر، قدم الحماصنة بدورهم، تجربة مثيرة في فهمهم للإسلام، في عـظمة تسامحه وسموه وتوقه للجمال، واهتمامه بالإنسان، وتنمية الفضائل الإنسانية في النفوس، فقد كتب الأبشيهي في كتابه "المستطرف في كل مستظرف"، إنه وصل عصر أحد الأيام إلى حمص، فسمع آذانا لم يسمعه من قبل في بلاد المسلمين، يقول فيه المؤذن: إنه يشهد أن لا إله الا الله وإنه يشهد أن أهل حمص يشهدون أن محمدا رسول الله.
قال الكاتب، "فسألت حانوتيا عن سرّ هذا الآذان الغريب، فقال: مرض المؤذن الأساسي للجامع، وعندما بحثنا عن صاحب صوت جميل لم نعثر إلا على هذا الحمصي اليهودي الذي قال إذا كان يقبل بقول: إنه يشهد أن لا إله الا الله، فإنه لا يقبل أن يقول إن محمدا رسول الله، ولذلك كان يقول: إنه يشهد أن أهل حمص يشهدون أن محمدا رسول الله، ولكن ليس هو، فقبلنا بشرطه لجمال صوته، وغضننا الطرف عن نوعية إيمانه، فهو لن يغير شيئا فينا، ولكن الصوت الجميل يحث الناس على العبادة والصلاة، وبالتالي يغيرهم، لأن إيمانهم جاء برضاهم وليس غصبا عنهم.
هذا الحمصي، الذي فهم الإسلام بهذه الطريقة السمحة، هو جدّ أولئك الحماصنة الذين تداعوا للاجتماع في ١٨نيسان، في ساحة الساعة عام ٢٠١١، فاستحقت الساحة بعدها عن جدارة اسم "ساحة الحرية"، حيث اعتصم الآلاف لمدة يوم تقريباً، مُطالبين بإسقاط النظام الحَاكم، وخلال الاعتصام أعلنوا الاسم الجديد "ساحة الحرية"، ليس للحماصنة فقط، وإنما لكل السوريين، لتكون الحرية في مواجهة الاستبداد ومحاولة النظام الأسدي تطييف الشعب ودفعه للاقتتال.
تسعون يوما اسطنبوليا كانت موزعة على ثلاثة أجزاء كل جزء مكون من ٣٠ يوما، القسم الأول كان لزيارة الآثار العثمانية والبيزنطية لالتقاط العبر من التاريخ وقراءة ما تركه الأجداد لنا من جهد واجتهاد بشري، وليس لتقديسها، والثاني كان مخصصا للاحتفال بشهر رمضان كزمن مقدس وكريم، ولقراءة السلوك الإنساني فيه، من خلال حضور الإفطارات والتعرف على عادات المسلمين الأتراك لمعرفة مدى قربها أو بعدها عن عادات السوريين، والبحث عن الخيوط التي تربط الإنسان بربه، فوجدت ما يشبه إيمان الحماصنة وسلوكهم، عندما اختاروا مؤذنا حمصيا يهوديا لجمال صوته.
فقد شاهدت، أكثر من مرة، جامعا اسطنبوليا يقدم الطعام لغير الصائمين في صحن الجامع، قبل موعد الإفطار بثلاثين دقيقة. وعندما سألت أحد المشرفين على الجامع عن معنى تقديم الطعام في شهر رمضان لغير الصائمين، قال: وما الغرابة في ذلك، فالجامع للجميع؛ للصائم كما هو لغير الصائم.
وهو بالتأكيد يعني أنه للمؤمن وغير المؤمن، لأن لا أحد يعرف ما في القلوب، وفي هذا قرأت التسامح الذي عبر عنه المسلم الاسطنبولي كما عبر عنه، وإن كان بطريقة أخرى، سلوك الحمصي الذي لم يتوقف عند حدود دين المؤذن، عندما أراد أن يوصل رسالة محبة للناس ودعوتهم للعبادة.
القسم الثالث من زمني الاسطنبولي كان مخصصا لترميم "سوريتي" التي دمرها نظام الأسد؛ داخل سوريا وخارجها، فقد أعمل سيوف سلطته في "مكوناتي" الاجتماعية والثقافية والسياسية والعمرانية والأخلاقية، ففتتها إلى شظايا، وبعثرها في كل بقاع العالم، وترك ما هو مشوه منها تحت حمايته.
وهكذا أصبحنا نرى السوريين يتسابقون لالتهام أنفسهم قبل التهام الآخرين، يتبارون لإبراز كل ما يدعو إلى التباغض والفرقة بينهم، وغابت العوامل المشتركة التي تساعد على الانتصار في أوقات الأزمات الوطنية والشخصية، وكان لا بدّ من متابعة "الانقلاب العسكري الفاشل في تركيا"، لنشاهد كيف توحدت القوى السياسية التركية، التي كانت تأكل بعضها في أزمنة السلم، لمواجهة خطر العسكر، متجاوزة الحساسيات الحزبية الضيقة، والمنافع الشخصية، من أجل مصلحة الوطن. هذه المصلحة التي جعلها نظام الأسد سلعة للبيع والشراء، والمزاودة الوطنية، وزجّ السوريين في السجون باسم الحرص عليها.
كان من واجبي، الذي حرصت عليه دائما، أن أقرّب بين أصدقائي السوريين، باحثا دائما عن المشترك بيننا، وقد نجحت أحيانا وفشلت أحيانا أخرى، ولكن دائرة صداقاتي السورية كانت دائما تتوسع، وكنت سعيدا بذلك.
في هذه الدائرة، كنت أنقل للأصدقاء الآراء الإيجابية ببعضهم، متجاهلا دائما السكاكين اللفظية التي كانوا يشهرونها لطعن بعضهم البعض. ربما ساعدني على ذلك عدم انتمائي السياسي لأي تيار أو حزب، ففي الوقت الذي كنت أثمن فيه هذه الأنشطة وأرى أنها ضرورية لتعبيرها عن جوانب مختلفة من الاجتماع السوري، إلا أنني كنت حريصا دائما على البقاء خارج دوائرها.
في نهاية التسعين يوما، عرفت بشكل أعمق، وجه التشابه ما بين حمص واسطنبول؛ بين المدينة التي أحببتها منذ أن زرعنا والدي فيها قبل ما يقارب الخمسين عاما، وبين المدينة التي حاول نظام الأسد جعلنا نخافها ونخاف دينها وثقافتها وتعدديتها، ونخشى من تشددها، كي لا نكتشف تشدده وخرابه الداخلي، وميله لإفراغ حياتنا من أي نواع من الإيمان، إلا الإيمان "بأبديته" التي رأينا كيف يرسمها على جثث السوريين، وعلى مدنهم وأماكن عباداتهم.
في الختام، لا أعطي شهادة لأحد، لأنني أنا شخصيا بحاجة لمن يعطيني شهادة وبراءة ذمة. ولكن ما عشته في اسطنبول، أعاد الروح إلى نفسي وإلى "سوريتي" وثقافتي الإسلامية والعالمية، التي تشكل اسطنبول، كعاصمة عالمية، عامودها الفقري.
شكرا اسطنبول على كرم الضيافة، وفسحة الحرية، رغم أنف العسكريتاريا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى