ج. م. كويتزي J. M. Coetzee - الكلب The Dog.. قصة قصيرة - ت: جودت جالي

تقول اللوحة المثبتة على البوابة "شيان ميشان!"* إحذر. كلب عقور!، و الكلب "عقور" دون شك، فكلما مرت به يرمي بنفسه على البوابة نابحا بضراوة وكله رغبة في أن يصل اليها ويمزقها إربا. إنه كلب كبير، كلب خطير، من نوع كلاب الرعاة الألمانية أو الروت وايلر (هي تعرف القليل عن سلالات الكلاب). عندما يندفع نحوها وتنظر اليه تشعر أن كرها خالصا يشع عليها من عينيه الصفراوين.

بعد ذلك، عندما يصبح البيت ذو "الكلب العقور" وراءها تبدأ تتأمل في ذلك الكره. هي تعرف أن كرهه ليس موجها اليها شخصيا، فكائنا من يكون الذي يقترب من البوابة، وكائنا من يكون الذي يمر ماشيا أو سائقا دراجة يستقبله نفس الإستقبال. ولكن كم هو الشعور بهذا الكره عميق؟ ألا يشبه تيارا كهربائيا يسري حين يبدو شيء للعيان وينقطع حين يختفي ذلك الشيء عن النظر؟ هل تستمر نوبات الكره تهز الكلب عندما يصبح لوحده مرة أخرى، أم أن ثورته تخمد فجأة، ويعود الى هدوئه؟

تمر بالبيت راكبة دراجتها الهوائية مرتين كل يوم من أيام الأسبوع، مرة وهي ذاهبة في طريقها الى المستشفى حيث تعمل، ومرة عندما تنتهي نوبة عملها. ولأن أوقات مرورها منتظمة يعرف الكلب متى يتوقع رؤيتها، فحتى قبل أن تلوح للنظر يكون عند البوابة، يلهث لهفةً، ولأن البيت يقع على منحدر فإن تقدمها في الصباح، صعودا، يكون بطيئا، وفي المساء، الحمد لله، يمكنها أن تنطلق بأقصى سرعة.

ربما لا تعرف شيئا عن سلالات الكلاب ولكنها تمتلك فكرة جيدة عن الإنتشاء الذي يستمده الكلب من لقاءاته بها، إنتشاء السيطرة عليها، إنتشاء كونه مخيفا. إنه كلب ذَكَر، ولم يعاشر أنثى كما تعتقد، ولكن ليست لديها فكرة عما إذا كان يعرف أنها أنثى، أو إذا كان الكائن البشري بنظره لا بد وأن ينتمي الى واحد من جنسين كما هي الحال عند الكلاب، وبالنتيجة يشعر بنوعين من الإنتشاء معا... إنتشاءُ حيوانٍ يهيمن على حيوان آخر، وإنتشاءُ ذكرٍ يسيطر على أنثى.

كيف يعرف الكلب، برغم تظاهرها باللامبالاة، أنها تخافه؟ الجواب هو لأنها تبعث رائحة الخوف، لأنها لا تستطيع أن تخفي هذه الرائحة. في كل مرة يأتي الكلب مندفعا نحوها تسري رعشة الى أسفل ظهرها وتغادر جلدها ذبذبةُ رائحةٍ يلتقطها الكلب حالا، فتتملكه نوبات من النشوة لهذه النفحة من الخوف الآتية من الأنثى التي على الجانب الآخر من البوابة.

إنها تخافه، وهو يعرف. يمكنه أن يتطلع الى هذا مرتين في اليوم.... يتطلع الى مرور الأنثى التي تشعر بالخوف منه، التي لا تستطيع أن تخفي خوفها، التي تبعث رائحة الخوف كما تبعث كلبة رائحة الجنس.

قرأتْ أوغسطين. يقول أوغسطين بأن أسطع دليل على أننا مخلوقات ساقطة يكمن في أننا لا نستطيع التحكم في حركات أجسادنا، وعلى وجه الخصوص فإن الرجل غير قادر على السيطرة على حركات عضوه الذكري. يتصرف العضو كما لو أنه خاضع لرغبة مستقلة عنه، وربما حتى يتصرف كأنه خاضع لإرادة كائن من عالم آخر.

تفكر في أوغسطين فيما تبلغ أسفل التلة التي يقع البيت عليها، البيت ذو الكلب. هل ستكون قادرة على السيطرة على نفسها هذه المرة؟ هل ستمتلك قوة الإرادة الضرورية لإنقاذ نفسها من إطلاق رائحة الخوف المذلة؟ ولكنها في كل مرة تسمع فيها الهرير العميق في حنجرة الكلب الذي يمكن أن يكون أيضا هرير الغيظ أو هرير الشهوة، في كل مرة تشعر فيها بالصوت المكتوم لإرتطام جسده بالبوابة، تستلم جوابها: ليس اليوم يوم السيطرة على نفسك.

"الكلب العقور" محصور داخل حديقة لا ينبت فيها سوى الأدغال. ذات يوم تنزل عن دراجتها، تسندها الى الجدار، تطرق الباب، تنتظر وتنتظر، فيما يتراجع الكلب على مبعدة أمتار عنها ثم يرمي بنفسه على السياج. إنها الثامنة صباحا، ليس الوقت المعتاد الذي يأتي فيه الناس ليطرقوا باب أحد. مع ذلك، أخيرا ينفتح الباب فتحة ضيقة. تتبين في الضوء الخابي وجها، وجه امرأة عجوز بملامح كئيبة وشعر رمادي مهمل. قالت بفرنسية لا بأس بها:

-صباح الخير. هل يمكنني التحدث معك للحظة؟

ينفتح الباب أوسع. تخطو الى الداخل، الى غرفة مؤثثة بشكل متناثر حيث يجلس في تلك اللحظة رجل عجوز يرتدي سترة حمراء الى منضدة وُضِع عليها أمامه طاس. تلقي عليه التحية فيومئ برأسه ولكنه لا ينهض.

تقول:

-آسف لإزعاجكم في هذا الوقت المبكر من الصباح. أنا أمر ببيتكم على دراجتي مرتين في اليوم، وفي كل مرة، ولا بد أنكم سمعتموه، يكون كلبكم بالإنتظار للترحيب بي.....

يسود صمت.

-... إستمر هذا لبضعة شهور، وأتساءل ألم يحن الوقت للتوصل الى تغيير. هل أنتم مهيئون لتقديمي لكلبكم، لكي يألفني، لكي تبينوا له أني لست عدوة وبالتالي لا أنوي أن أؤذيه؟

يتبادل الزوجان النظرات. الهواء في الغرفة ساكن، كما لو أنه لم تفتح نافذة فيها لسنوات.

تقول المرأة:

-إنه كلب طيب. "أنشيان دو ﮔﺎﺮد"* كلب حراسة.

ومن قولها تفهم أنه لن يكون هناك تقديم، ولا إلفة مع "أنشيان دو ﮔﺎﺮد"، ولأن هذه المرأة يناسبها أن تعاملها كعدوة ستستمر في أن تكون عدوة.

تقول:

-كل مرة أمر فيها ببيتكم يروح كلبكم في حالة من الغضب. لا شك عندي أنه يرى أن من واجبه أن يكرهني، ولكني صُدمت بكرهه لي، صدمت وإرتعبت. كل مرة أمر فيها ببيتكم هي تجربة إذلال. إنها تجربة مذلة أن أكون مرعوبة. أن أكون غير قادرة على مقاومة هذا الإذلال. أن أكون غير قادرة لوضع حد لهذا الخوف.

يحدق فيها الزوجان بجمود.

تقول:

-إنه طريق عام. لي الحق، أن أكون غير مرعوبة، أن أكون غير مذلَّة. أنتم لديكم القدرة لتصحيح هذا الوضع.

تقول المرأة:

-إنه طريقنا. لم نَدْعُكِ لتأتي هنا. يمكنك سلوك طريق آخر.

يتكلم الرجل لأول مرة:

-من أنت؟ بأي حق تأتين وتخبريننا كيف نُسيِّر أمورنا؟

توشك أن تجيب ولكنه غير مهتم فيقول:

-إذهبي. إذهبي. إذهبي، إذهبي.

إنحل ردن السترة الصوفية التي يرتديها، وفيما كان يلوح بيده ليصرفها يخط الردن في طاس القهوة. تفكر أن تنبهه ولكنها لا تفعل. ينغلق الباب خلفها.

يرمي الكلب نفسه على السياج، وكأنه يقول لها متوعدا "ذات يوم، ذات يوم، سينهار هذا السياج"، وكأنه يقول "ذات يوم، سأمزقك إربا".

بكل ما يمكنها من هدوء، مع أنها ترتجف، مع أنها تستطيع أن تشعر بموجات من الخوف تنبض من جسدها منطلقة في الهواء، تواجه الكلب وتتكلم، مستخدمة كلمات بشرية، فتقول:

-فلتذهب الى الجحيم!

ثم تركب دراجتها وتنطلق صاعدة التلة.

===========

  • Chien méchant العبارة في الأصل باللغة الفرنسية.
  • Un chien de gardeالعبارة في الأصل باللغة الفرنسية.
المصدرDec 4, 2017 The Dog by J M Coetzee,,The newyorker

جي أم كويتزي الأديب والمناضل ضد الفصل العنصري من جنوب أفريقيا. فاز بجائزة البوكر مرتين وحصل على جائزة نوبل سنة 2003 وهو ثاني أديب من جنوب أفريقيا يحصل عليها بعد الأديبة نادين غورديمير. من كتبه المترجمة الى العربية (بانتظار البرابرة- ترجمة ابتسام عبدالله، وترجم عبد المقصود عبد الكريم ثلاثة من أعماله هي العار والرجل البطئ واليزابيث كوستيللو وترجم د احمد هلال عيسى يوميات عام سيء) ولديه كتب أخرى كثيرة.
______
عن المختارات القصصية (التودد الى الزوجة) 2018 ترجمة جودت جالي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى