ريم خيري شلبي - الأب الأنيق -2- ..

كنت أخجل من نفسى وأنا أراه يدخل حجرتى ليلاً ليطمئن علىّ.. يرتب كتبى وأوراقى على المكتب، ويفرد ثنايا الورق ويغلق القلم بـ«اللبيسة» فأخبئ رأسى فى الغطاء خجلاً منه.

لم أدر إلا وأنا أضع يدى على جرس الباب رغم أن معى المفتاح، فربما يفتح لى الباب بنفسه، ويكون أول وجه أراه يوم العيد، فأنا أعلم أنه لا ينام حتى الصباح خاصة ليلة العيد قبل أن يطمئن أننا تجمعنا كالعادة ويُعطى كلاً منا الظرف الخاص به المكتوب عليه اسمه مهما كان سنه أو مركزه، ولكنه للأسف لم يفتح الباب، فتح لى أحمد ابنى فقد كان يبيت هذه الليلة عند ماما. نظرت إليه وقد حبست دموعى حتى لا تراها أمى التى بالكاد تتنفس منذ أن فارقنا أبى إلى عالمه الآخر والتى تشعر فى كل لحظة أن مجرد تنفسها هو خيانة له؛ فهى تعتبر أن الحياة قد انتهت بفراقه وتنتظر بفارغ الصبر اللحظة التى تلحق فيها به.

دائماً ما أشعر أن لديها الكثير والكثير لتخبره به رغم أنها لا تكف لحظة عن الحديث معه، ورغم أنها لم تقطع طقساً من طقوس حياتها معه، فهى تنهض من النوم فى نفس ميعاد كوب اللبن الذى يأخذه عند الفجر ليدخل بعده يصارع فى محاولة للنوم لسويعات قليلة، وتذهب إلى مكتبه كالعادة وتلقى عليه السلام وتقرأ له الفاتحة وتذرف بعضاً من الدموع التى تنهمر بشكل لا إرادى، ثم تذهب لتتوضأ وتصلى الفجر وتقرأ مزيداً من القرآن بجوار سريره. فلم يعد يربطها بحجرة نومه إلا الصلاة وقراءة القرآن.

نظرت إلى أحمد ابنى الذى أصبح فى الثانوية العامة وهو واقف بجوار مكتبة أبى التى تراها فور دخولك من باب المنزل، وتذكرته وهو طفل عمره لا يتعدى الثلاثة أشهر وأبى يحمله بين يديه ويتجول به فى المكتبة ذهاباً وإياباً يقف أمام أحد الرفوف المحمّلة بالكتب والمجلدات للحظة ثم يواصل السير مرة أخرى حتى أشفقت عليه وظننت أنه ربما يبحث عن كتاب معين. ذهبت إليه لآخذ أحمد أو أساعده فى البحث عن ضالته وإذا به يخبرنى أنه لا يبحث عن شىء ولكنه يخلق ألفة بين أحمد والمكتبة حتى يرتبط بها ويحب الكتب. تعجبت كثيراً لهذا الرجل الحنون الذى لم أر مثله فى حياتى ومدى ارتباطه بالأشياء وحرصه عليها ومراعاة مشاعرها وكأنها تنبض وتتألم، وشعرت كثيراً أنه يوجد بينهما حوار وأنه يتحدث معها وتخبره عن آلامها.

كان حريصاً دوماً على العناية بكل مقتنياته: أوراقه، أقلامه، ملابسه، مكتبه الذى لا يكف أبداً عن توضيبه، وكنت أشعر أن أشياءه نفسها تشعر بسعادة به أكثر من سعادته هو شخصياً بها، لأنها تعلم جيداً أنها فى أيد أمينة.

كنت أتعجب كيف يستطيع أن يقرأ كتاباً بأكلمله مهما كان حجم هذا الكتاب دون أن يقوم بثنى أطرافه أو جلدته، تشعر أن الكتاب لم يُقرأ من قبل. تمسك الجريدة من بعده وكأنها خارجة من المطبعة للتوّ، أقلامه يفرغ حبرها وهى فى قمة أناقتها. لم أر شيئاً يخصه فى غير مكانه، أناقته فى المنزل تفوق أناقته خارجه. كنت أخجل من نفسى وأنا أراه يدخل حجرتى ليلاً ليطمئن علىّ، يظل يرتب فى كتبى وأوراقى على المكتب ويفرد ثنايا الورق ويغلق القلم بـ«اللبيسة»، فأخبئ رأسى فى الغطاء وأدعى النوم العميق خجلاً منه.

اشتقت كثيراً للمساته فى حياتى وحنّيته المفرطة وحضنه الدافئ الذى تتمنى أن تقف بك الدنيا عنده، ونظرته الحانية التى تشملك فى لحظة وتأخذك لعالم من الصفاء والحب.

أبى، مزقنى حزنى على فراقك، ولكن خوفى على أمى يجبرنى على التماسك، أراك فى كل الأشياء وفى كل المعجبين بك والمحبين لقلمك، أراك فى تنبؤاتك للأحداث التى تتحقق كل يوم، لم تغب عنى ولو لحظة، أشتاق إليك كثيراً وأنتظر بفارغ الصبر اللحظة التى تجمعنا على خير. لك منى مليون سلام..



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى