محمد عبد الدايم - كعك الصباح.. قصة قصيرة

[SIZE=22px]تنهدت وهي تغلق حقيبته بعد أن وضعت فيها متعلقاته، التفتت إليه وقد أعطاها ظهره وهو متكئ على جانب السرير ينتقل من قناة لأخرى في التلفاز، اقتربت الساعة من منتصف الليل، ولم يتبق سوى سويعات قبل أن يحمل الحقيبة ويتجه للمطار في رحلة عمل قصيرة كما أخبرها، هي الأولى له.
ليس جديدا أن يغيب يومًا أو اثنين، لطبيعة عمله كمهندس يتنقل من آن لآخر بين مواقع مختلفة تدشن فيها الشركة مشروعات لها، لكنها المرة الأولى التي يرحل فيها خارج البلاد، والمرة الثانية التي يصعد فيها على متن طائرة، كانت معه في الأولى وهما مسافريْن لتمضية شهر العسل على الجانب الآخر من البحر المتوسط، ومضى على هذه الرحلة ما يقرب من ست سنوات، شهدت علاقتهما صعودًا وهبوطًا في منحنى حميمية الزواج، ولم تشهد بعد ضيفًا ثالثًا يسكن الغرفة الأخرى التي لم تتأثث بعد.
دلفت في خفة إلى جانبها من السرير بجواره، تراودها هواجس شتى منذ أن أخبرها بأمر السفر، التفتت إليه وظهره إليها، منشغلا بجزء من مباراة كرة مُعادة، تخشى أن يغفو قبلها، أن تبقى وحدها مُعلقةً في الظلام، في ليلة السفر التي لم تشهد سماؤها حضورًا للقمر، تخشى أن يستيقظ قبلها فلا يوقظها ويحمل حقيبته في هدوء.
تخشى أن تكون تذكرة الطائرة بلا عودة، أو أن تفوته – قاصدا- رحلة العودة، تخشى أن تغريه امرأةٌ ما، عامرة الصدر، تجذبه تلك الثدياء إلى أقاليمها، فينسى في حضنها صدرًا كان فيما مضى ناهدا، كما نسي أبوها في ترحاله صدر أمها الحنون، تراودها صورته وهو ينجرف خلف أخرى مشدودة الأرداف، تتهادى بثقةٍ خطواتُها رغم ارتفاع كعب الحذاء، وكيف لا ينجذب لمثل هذه؟! وهو رقيق الحس يُعجب بالقوام المشدود، تتذكر كيف كان يتغزل في قوامها قبل وبُعيد الزواج، تراه يجلس بجانبها على مصطبة بحديقة غنّاء، تجاور مصاطب أخرى اصطف عليها عشاق وأصدقاء وأمهات مع أطفالهن، تقترب منه، تلتصق به، وأخيرا تجلس فوق رجليه تاركة مكانها بجانبه لحسرة هذه التي تتطلع لصورتهما في مخيلتها.
تخشى أن يغيب فيُطيل، أن تمل الانتظار وهي ملول، أن تلملم شعرها الطويل كلياليها، وتجمع شتات وحدتها وترحل، تهجره وتضطر إلى الرحيل، أو أن تعتاد غيابه فلا تقطع شرايين الوقت لتنهي عذاب الترقب.
تخشى بعد هذا كله أن يعود، بعد المُر وطعم الخوف في فمها لا تتذوق سواه في غيابه، وحين يعود تلد له طفلًا تمناه منذ سنوات، فجاء أخيرًا ولدًا دميمًا أو معلولا، جسدها الحزين لم يخر بالولادة، تخشى أن تسود رائحة القلق أو الموت، أن يثور الدم حتى يطفح، أن يجف العشق فتتعفن حروف الحب ولا تثمر الشجرة فتنقلع، تخشى أن تحرمها منعطفات رحلته من جلسة الشاي مع الكعك في الصباحات، ولا تجد من يمسح السكر المطحون عن شفتيها، تخشى أن يلتفت إليها الآن بعد إغلاق التلفاز ويقول لها "تصبحين على خير" فحسب، دون إضافات مثلما يفعل مؤخرا، ثم يغمض عينيه.
[/SIZE]



تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى