أماني فؤاد - لماذا يظل الأدب احتياجا حيويا..

هل لو قرأ لاعب الكرة المتحرش، أو المخرج، أو الكاتب، أو رجل الدين، أو السياسي، أو رجل الشارع الأدب بأنواعه: الشعر والرواية والقصة والمسرحية والمقال هل سيمارس التحرش، وهل يمكن أن يكرره البعض منهم على هذا النحو الفج لو اعتادت ذائقتهم الجمال النابع من الأفكار والخيال وأساليب اللغة، لو تغلغلت في نسقهم الثقافي العام القيم التي ترد في هذه الأنواع الأدبية، هل كان سيمارس بعضهم ساديته بانتهاك الأضعف وعدم احترام حريته، أو استغلال سلطته بالتعدى على إرادة الآخرين؟

هل قارئ الأدب تصل به مناطقه المعتمة وتجبره حد هروب ذويه ولجوئهم السياسي لإحدى البلدان الغربية مختارين لحريتهم وعدم التعدي على كرامتهم بالضرب أو بتحديد الإقامة؟

أحسب أنني لا أملك إجابة جازمة، ربما نعم، وربما لا، فالبشر عوالم مغلقة على عجائبها.

الأمر الذي أعتقده ويصل لدرجة التأكد أن قارئ الأدب أكثر احتراما وتقديرا لحرية الآخرين وإرادتهم، أكثر تهذيبا وتطويرا لرغباته وغرائزه، أكثر احتراما للاختلاف، يدرك أن التنوع ميزة تثري الحياة البشرية، قارئ الأدب ومنتجه ينفران من العنف، لا يستهويهما الطغيان ولا استغلال السلطة والنفوذ.

لماذا يظل الأدب حيويا ومهما في الحضارة البشرية مهما ازداد التقدم العلمي والتكنولوجي؟

ــ في الوقت الراهن تنحو العلوم إلى التخصص الدقيق في المعرفة والتكنولوجيا وهو ما يتضمن فوائد كثيرة، حيث يسمح بتجارب تعتمد على البحث الرأسي لا الأفقي فتصبح النتائج أعمق وأنجز، وهذا الصنيع يعد محركا للتقدم السريع. غير أن له عواقب سلبية على المستوى الاجتماعي. فهو يقلص المشتركات الفكرية والثقافية بين الجماعة الواحدة من الرجال والنساء، المشتركات هي ما تسمح بالتعايش، والتواصل، والإحساس بالتضامن. التخصص يؤدي إلى نقص في الاندماج الاجتماعي ومن ثم الفهم والتعاطف، يتطلب أيضا تقسيم البشر إلى مجموعات من التقنيين والأخصائيين. كما أن حصر المعرفة في نطاقات محدودة يتطلب بالتالي لغة دقيقة مغلقة على فئة، ورموزًا تزداد غموضا كل مرة. وبالتالي، فإن المعلومة تصبح أكثر انفرادية وفي نطاق المجموعة المحددة. الاستغراق في الوحدات الصغيرة والتبحر فيها لا يجعلنا ننظر للفرع الذي يحمل الورقة، ولا الشجرة التي تغذي الغصن، ولا الغابة التي تحوي الشجرة، التخصص إذن يقلص المشتركات، بمعنى أنه يعزل اهتمامات وسمات كل مجموعة على محيطها، لكن التفاعل والتواصل الذي يتيحه الأدب يسمح بالإحساس بالمجموع والتعايش والتضامن.

ــ لا تنضج اللغة إلا في الأدب، الأدب يتيح فهم الذات المبدعة لنفسها أثناء ممارسة تجربة الكتابة، كما يتيح فهم الآخر، الشخص الذي لا يقرأ، أو يقرأ قليلا لا يستطيع التعبير عن نفسه وهمومه وطموحاته وقضاياه إلا بدرجة أقل وضوحا، سيتحدث كثيرا لكن يظل ما يفهمه قليلا لضعف مفرداته وأسلوبه؛ لفقر مخيلته وعدم تمكنه من لغة يعبر بها عن ذاته. كما أن الأدب هو الذي يكسب اللغة بروقها.

تظل الأفكار والتصورات التي نعبر بها عن ذواتنا والآخرين وبها نفهم العالم من حولنا لا يمكنها أن تتكون خارج الكلمات، نحن نتعلم التعبير عن ذواتنا بعمق، ومهارة إلمام، ودقة من الأدب الجيد، وهنا ينبغي الإشارة إلى أن تلك ميزة لا توجد سوى في الأدب واللغة، أما باقي الفنون الأخرى لا يمكن أن تتيح تلك الدقة والتبحر والتحديد الذي تمتلكه اللغة، اللغة ثرية ومنوعة كما أنها توفر التعبير الملائم لكل فكرة وكل شعور، اللغة تتيح أن نحوّل ما نتخيله إلى عوالم يمكن وصفها وتحديدها.

ــ يحمي الأدب الإنسان من تعصبه وشعوره بأنه الأعلى والأصوب في هذا العالم حين يبرز المشتركات، وهو ما يقضي على الفصل العرقي، والديني، والجنسي، وينهي كثير من الحروب والنزاعات والإبادات الجماعية، حيث كثير من الصراعات البشرية بلا معنى من الأساس، التعالي وتصور التميز هو ما يزرع التفرقة والرغبة في استغلال الآخرين، يبرز الأدب ميزة ثراء الجنس البشري برغم الفروق العرقية والاجتماعية والدينية، ما يتيحه الأدب من عوالم متعددة يخفف من غلواء غرور امتلاك الحقائق لدى البشر. ونستكمل المقال القادم


د. أماني فؤاد






تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى