ياسمينة خضرا - اللقاء..

لم يكن المفتش باتريك لو بوسكو، يعرف كم من مدّة قضاها أمام النافذة، يحدق في السحب وهي تنشر اللون الرمادي فوق المدينة. حتى أنه لم يدرك أن الليل كان يغادر على رؤوس الأصابع، وحيث كانت الطيور المبكرة، تحلق نحو المترو ومحطات الحافلات. كانت عيناه مثبتتين هناك في السماء، وكان ذهنه مشتّتا في مكان ما بين ضباب الماضي. شذرات من الذكريات تومض في رأسه، مثل ألسنة النيران، تختفي لتزول، دون أن تمنحه الوقت الكافي لإدراك سبب انشغاله بها. مع أنه كان ينبغي أن يكون سعيدا؛ ألم ينتظر هذا اليوم للانتقام من المصاعب التي عاشها، واسترجاع ما وقع من تعسّف في حقه؟ وها قد وصلت لحظة الحقيقة هذه ، تماما مثل أب رمزي، كان قد اختفى منذ زمن غابر، دون إعطاء أدنى إشارة على الحياة والذي ، فجأة ، سيحل دون أن نعرف من أين، محملًا بالغبار والأسرار.

في الليلة الماضية، اتصل به الوالي على الهاتف لتهنئته، ثم قال له مختصرا : “أن تأتي متأخرة أفضل من ألا تأتي أبدا”. بقي باتريك فترة من الزمن دون أن ينبس بكلمة، والهاتف جاثما على الأذن ، قبل غلقه. لم يتذكر إن كان قد شكره. زوجته “صوفي” كانت أثناء ذلك، تشاهد فيلمًا وثائقيًا عن حياة الحيوانات على شاشة التلفزيون، كانت تجلس بجواره في الصالون، وقد فكرت في الأسوأ، عندما رأته يضع الهاتف على الطاولة ويتهالك على الأريكة، وقد بدا وجهه مجمدا.

– هل ثمة شيء مزعج يا عزيزي؟

لم يجب، ربما لم يسمعها، بدا باتريك كالملاكم الذي جلس متهالكا على مقعده، إثر لكمة قوية تلقاها من منافسه.

باتريك ، ما الأمر؟ تبدو شاحبا للغاية.

التفت إليها، وقد تركت الحيرة التي شوهت ملامحه مكانها لتعبير عميق الأغوار.

– أنت تخيفني ، من كان على الهاتف؟

– الوالي.

– هل الأمر خطير؟

– أمر جلل… لقد منحوني وسام الشرف.

– لا؟

– هل تصدقين ؟ وسام الشــ …

لم يجد الوقت لإنهاء جملته. عندما احتضنته صوفي، وقبّلته من فمه كما لو أنها كانت تشرب كلامه.

– أنا فخورة بك.. لا يمكنك أن تعرف مقدار افتخاري بك.

لم يتمكن باتريك من مداعبة النوم. هذا التكريم كان يطمح إليه منذ فترة طويلة. كان يأمله لتجنّب المصير الذي يبدو أنه يعانده، على الرغم من جاذبيته الطبيعية التي جعلت منه أسطورة حيّة داخل وحدته. عدة مرات تم اقتراحه لمختلف أنواع الترقيات في سلك الشرطة، لم ينل شيئا منها، رغم أنه قضى أكثر من اثني عشر عاما يخدم الوطن بتفان وإخلاص. في الواقع كان يساوره شك كبير في أن رئيسه مفتش المقاطعة هو الذي يقف وراء عملية إقصائه. لم يكن التيار يمر بين الرجلين منذ العملية الأخيرة الذي تسببت فيها “عصابة 39” ضد وحدته، سنة 2012، وكانت تلك أكثر العمليات إثارة في العشرية الأخيرة. وسرعان ما وضعت خطة هجومية تم تحضيرها بدقة شديدة، بعد أشهر من المطاردة واقتفاء الأثر والاستماع ومجموعة من الاشارات والمتسللين في كل مكان. فشل الهجوم فشلاً ذريعًا ، أسفر عن مقتل شابين من رجال الشرطة وعشرات الجرحى. لم يغفر له رئيسه هذا الفشل الذريع الذي شكل الموضوع الرئيس للإعلام، وتسبب في سقوط رؤوس كانت تتبوأ مناصب عالية.

غير أن المفتش باتريك لو بوسكو ، الذي أطلق عليه منتقدوه اسم العجين، استطاع أن ينتقم بعد ستة أشهر، مما أدى إلى إلحاق الضرر بالعصابة 39 وتفكيك فروعها وشبكاتها. ورغم ذلك لم يعد التيار بينه وبين مفتش المقاطعة…

ثم كانت المفاجأة، عندما اتصل به الوالي شخصيًا من أجل تهنئته: “هذا تكريمك، يا “بات”. أعلم أن لديك عقربًا في جيبك، لكن هذه المرة يجب أن تدس يدك فيه لأننا سنحتسي الشمبانيا على نخبك…” وبينما كانت صوفي زوجته تنتظره في السرير، بدأ سيل من الرسائل القصيرة ترنّ على هاتفه المحمول. في تلك اللحظة سيتذكر والده، كان شرطي مخلصا لعمله سنوات الثمانينيات لم يتم أبدا تكريمه، سيتذكر فيليب لو فوريت، مات بين يديه أثناء اشتباك مع الخاطفين، نال وسام الشرف بعد الوفاة؛ كما سيتذكر فيليب، زميله في الغرفة في أكاديمية الشرطة، الذي انتحر قبل يومين من إعلان ترقيته، لأنه كان لديه إحساس بالشرف يتعارض بشدة مع عالم يستهتر بالقيّم واليمين بوقاحة نادرة.

في الحقيقة ، لم تكن فرحة تلقي أرقى تكريم للجمهورية، هي التي أبقته مستيقظًا حتى الصباح، لكن هناك مكالمة هاتفية شدت انتباهه، وهو على وشك الالتحاق بـ “صوفي” نحو غرفة النوم. “برافو باتريك..أنا سعيدة جدا لأجلك، أنت تستحق ذلك”. هذا الصوت على الطرف الآخر كان له صدى مثل مكالمة آخر الليل. كان الأمر كما لو أن الباب الخلفي قد فتح فجأة على عالم اختفى ، وشعر باتريك أن هناك شبحًا يطرق بابه.

الساعة في باريس كانت تشير إلى السادسة صباحا، وكان لا يزال الظلام يلف المدينة. تبدو لافتة النيون الخاصة بالصيدلية جميلة وهي تكرر اعلانها، لم تكن تسلي أي شخص. حدق باتريك في انعكاسه على الزجاج، وقد رفع شعرة على جبينه، وحاجبًا أقل من الآخر، همس بصوت يائس: “لماذا اليوم ؟ لماذا ليس الأمس ؟ ولم لا منذ خمسة عشر عاما؟ ”

– أراهن أنك قضيت الليلة وأنت تحفظ خطابك الذي ستلقيه، قالت صوفي وهي تغالب النعاس بعد أن انضمت إليه في الصالون … عد إلى الوراء، اتركني أراك بهندامك الجميل. (دار باتريك للخلف، مربوطاً بهندامه الاحتفالي) .. أنت وسيم كالأمير.

بعد الحفل الذي جمع كل الزملاء وأزواجهم، وكذلك بعض الضيوف البارزين، في قاعة الاستقبال في الدائرة 17؛ انتقلوا نحو حانة يديرها شرطي توقف عن العمل، عقب تعرضه لاعتداء. كان المكان موعدا للقاء يلم شمل جيلين من ضباط الشرطة، يأتون إليه كل مساء في محاولة للتخفيف عن الضغوط التي تعرضوا لها، بعد أيام متوترة مليئة بالمداهمات والاعتقالات، التي أصبحت اعتيادية منذ تراجع الأمن. كان الجميع هنا حاضرا، بما في ذلك رئيسه مفتش المقاطعة.

بعد صياح وهتاف في أجواء مفعمة بالفرح، تمت دعوة المكرّم المحظوظ بوسام الشرف ليقول بعض الكلمات. أبدى باتريك رفضه في البدء. لكن رفاقه أحدثوا ضجيجا على الطاولة، وهم يهتفون: “نريد خطابا، نريد خطابا” . وسرعان ما رضخ لهم، و بينما كان يهم برفع كأسه ليطلب الصمت، دخلت امرأة إلى الحانة. كانت جميلة مثل حلم الصيف، بعينين آزورين كبيرتين، وقوام ممشوق تحت ثوب أبيض يطوّق جسدها الرهيف. ولأن الجميع كان يدير ظهره لها، وحده باسكال كان في مواجهتها، رمقها مليًّا، وقد استيقظ شيء في داخله زعزعه من جميع أقطاره.

لاحظت صوفي أن وجه زوجها قد تحجّر فجأة، لم تفهم على الفور السبب. ثم، بعد أن تابعت الوجهة التي أخذها نظر باتريك – نظرة مكثفة للغاية لم تكن تعرفها – اكتشفت المرأة التي استولت على ذهوله، أدركت على الفور أن هناك تهديدًا غير متوقع لزعزعة استقرار أسرتها، اكتشفت في عيني زوجها وعيني المرأة الغريبة، الامتداد الكامل لقصة كانت مخبأة عنها، تتأهب منذ الآن لزعزعتها.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الملحق الأسبوعي لصحيفة “لوبريزيان” الفرنسية، استضاف مجموعة من الكتّاب الفرانكفونيين، لكتابة قصص يدور موضوعها حول “اللقاء”؛ سيتداول سبعة كتّاب بارزين كل أسبوع، على كتابة قصة واحدة متخيّلة، كل بأسلوبه وطريقة سرده، عن رجل يتداعى ماضيه، وهو مفتش للشرطة اختير له كاسم : باتريك لوبوسكو. أول كاتب سيحظى باجماعهم لبلورة فكرة القصة، ويكتبون على منوالها، هو الكاتب الجزائري ياسمينة خضرا ، والقصة تحمل عنوان : اللقاء.



تعليقات

أسلوب القصة رائع جدا. الاستعارات قوية أيضا. هناك نقطة ضعف بسيطة في الخاتمة. وهي اللقاء مع حبيبته الاولى رغم ان تلقصة كانت تدور حول علاقات العمل في كلياتها. ولكن بعد قراءة التوضيح الاخير عرفت أن هذه مقدمة لقصة تتم كتابتها عبر مراحل وعدة كتاب.
 
أسلوب القصة رائع جدا. الاستعارات قوية أيضا. هناك نقطة ضعف بسيطة في الخاتمة. وهي اللقاء مع حبيبته الاولى رغم ان تلقصة كانت تدور حول علاقات العمل في كلياتها. ولكن بعد قراءة التوضيح الاخير عرفت أن هذه مقدمة لقصة تتم كتابتها عبر مراحل وعدة كتاب.


تحية طيبة وصباح الخير والبركات اخي وصديقي السي أمل

ياسمينة خضرا هو الاسم المستعار الذي يحرر به الكاتب الجزائري محمد مولسهول رواياته باللغة الفرنسية ، وقد انخرط في الجيش حتى احالته على التقاعد والاستقرار بفرنسا ، وهو من اهم الروائيين الجزائريين الفرنكوفونيين .. ولا شك ان نقطة الضعف التي استشعرتها بخاتمة القصة قد تاتى من الترجمة وما تجترحه من خيانة ، خاصة ان الروائي له باع طويل وخبرة طويلة في الكتابة القصصية والروائية

محبات
 
أعلى